أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

بلدان متقدمة تحت وطأة تغيُّر المناخ

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
TT

أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)

تُعد ألمانيا نموذجاً للحفاظ على المكوّنات الطبيعية الجميلة، بما تحتويه من تلال ووديان وحقول متناسقة تتخللها مناطق حضرية مخططة بإتقان ومأهولة بمجتمعات محلية متماسكة ومتعاونة. وفوق كل ذلك، تملك البلاد خدمة أرصاد جوية وطنية ممتازة ومؤسسات دفاع مدني يُضرب بها المثل في حالات الكوارث.
لكن كل ذلك لم يكن كافياً لمنع كارثة الفيضان التي طالت عشرات الضحايا وألحقت أضراراً جسيمة بالمرافق والبنى التحتية. وفيما تجاوزت حالة الطقس هذه كل التوقعات، حتى إن علماء المناخ الألمان وصفوها بالحدث الذي لا يحصل عادة سوى مرة واحدة خلال عدة قرون، يبدو أن المناخ المعاصر سيفرض أوضاعاً جديدة تُعيد تعريف ما هو اتجاه طبيعي وما هو طقس متطرف بالمقارنة مع بيانات المناخ الماضية.
الفيضانات تُغرق وسط أوروبا
شهدت ألمانيا وبلجيكا وهولندا هطول 150 ملليمتراً من الأمطار في يوم واحد بعد أسابيع ممطرة أدّت إلى تشبّع التربة تماماً. وتحت تأثير هذا الهطل الإضافي، تشكلت موجة فيضان جرفت الحطام الذي اجتاح القرى، وهدم المنازل في مناطق عدة. ويبقى التهديد قائماً في مناطق أخرى بسبب الأوضاع الجوية المسيطرة التي تتحرك ببطء منذ أيام.
واجتاح المنخفض الجوي «بيرند» ألمانيا خلال الأسبوع الماضي، متسبباً في تساقط الأمطار بغزارة. ونظراً لتقييده بمرتفعين جويين يتحركان على نحو متعاكس في الشرق وفي الغرب، كانت حركة المنخفض بطيئة، ما أدى إلى هطول الأمطار بغزارة لفترات طويلة في الأماكن التي يسيطر عليها.
وأظهرت النماذج الحاسوبية أن كمية الرطوبة في الغلاف الجوي القابلة للتساقط، التي تدفقت إلى وسط أوروبا آتية من البحر المتوسط، يمكن مقارنتها بتلك التي تُسجَّل على طول السواحل الأميركية المطلّة على خليج المكسيك أثناء حدوث الأعاصير.
وتتوافق الغزارة الاستثنائية لهطول الأمطار فوق وسط أوروبا مع ما يتوقعه العلماء حول عواقب ارتفاع درجات الحرارة نتيجة تغيُّر المناخ بفعل الأنشطة البشرية. وتؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة حدّة الأحوال الجوية، فمع كل ارتفاع في درجات الحرارة بمعدل درجة مئوية واحدة، تزداد قدرة الهواء على حمل الرطوبة بمعدل 7 في المائة. كما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة معدلات تبخّر المياه على سطح الأرض. ويتسبب كل ذلك في مزيد من الأحوال الجوية المتطرفة، بما فيها الأعاصير القوية.
ومع أن ضراوة الفيضانات الأخيرة كانت غير مسبوقة خلال أكثر من قرن، فإنها ليست المرة الأولى التي تضرب فيها العواصف ألمانيا، وولاية شمال الراين - ويستفاليا على وجه التحديد، حيث تعرضت سابقاً لأعاصير وعواصف تسببت في مقتل العشرات وعزلت مناطق كاملة عن العالم. فخلال العقدين الماضيين، ضرب الإعصار «فريدريك» الولاية سنة 2018 بسرعة 205 كيلومترات في الساعة متسبباً في مصرع ثمانية أشخاص، وقبله الإعصار «نيكلاس» سنة 2015 الذي أودى بحياة 11 شخصاً، وقبل ذلك الإعصار «إيلا» الذي ترافق بعاصفة رعدية سنة 2014، وسبقها الإعصار «كيريل» سنة 2007 والإعصار «جانيت» سنة 2002. وعدا عن اشتداد قوتها، تتكرر العواصف والأعاصير بوتيرة سريعة لم يشهدها العالم قبلاً، وهذا دليل واضح على مؤشرات تغيُّر المناخ التي طالما حذَّر منها العلماء منذ عقود.
وكانت دراسة حديثة، نُشرت في دورية «جورنال أوف كلايمت» مطلع هذه السنة، توقعت زيادةً كبيرةً في هطول الأمطار الغزيرة في معظم أنحاء أوروبا خلال العقود القليلة المقبلة. كما خلُصت دراسة أخرى، صدرت قبل أيام ضمن دورية «أدفانسنغ إيرث آند سبيس ساينس»، إلى أن العواصف الشديدة والبطيئة في جميع أنحاء أوروبا قد تصبح أكثر تواتراً بمقدار 14 مرة بحلول نهاية القرن. وأوضح معدّو الدراسة أن حركة العواصف ستتباطأ، خصوصاً في الخريف، بسبب ضعف الرياح الدافعة في مستويات الجو العليا.
لكن عوامل الطبيعة والتغيُّر المناخي ليست وحدها المسؤولة عما حصل، إذ فاقم المشكلة إنشاء أبنية وشق طرقات وإقامة مصانع وبنى تحتية متنوعة في مجاري السيول والمناطق الطبيعية المؤهلة لاحتواء مياه الفيضانات وامتصاصها. وإذا كانت هذه الأمور أُهملت في الماضي، فالاستعداد للتعامل مع الآثار المتعاظمة لتغيُّر المناخ أضحى أولوية لا تحتمل التأجيل. ومن المفارقات أن إعلان الاتحاد الأوروبي عن خطة مناخية قوية وواسعة جاء قبل يوم فقط من انطلاق موجة الفيضانات في قلب أوروبا، ما سيخفف المعارضة المحتملة للشروط القاسية التي تفرضها الخطة لخفض الانبعاثات الكربونية.
الحرارة تتضاعف في كندا وأميركا
في مقابل الفيضانات الأوروبية، يمثّل الطقس الحار والجاف، الذي يحدث في مناطق الضغط المرتفع التي يغذيها الهواء المداري، شكلاً آخر من التطرف الجوي، حيث قاربت درجة الحرارة خلال الأيام الماضية 50 درجة مئوية في بلدات كندية، و35 درجة مئوية في موسكو وشمال النرويج قرب الدائرة القطبية.
وكانت موجة الحر التي اجتاحت ولايتي أوريغون وواشنطن وغرب كندا خلال الأيام الأخيرة من شهر يونيو (حزيران) أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة في جميع أنحاء شمال غربي المحيط الهادي. وسجّلت مدينة سياتل الأميركية أعلى مستوى حرارة لها على الإطلاق عند 42 درجة مئوية، فيما حطمت مدينة بورتلاند رقماً قياسياً عند 47 درجة مئوية. وتصدّرت بلدة ليتون الكندية عناوين الصحف عندما لامست الحرارة فيها 50 درجة مئوية، وأعقبتها حرائق غابات مدمّرة.
وتشير دراسة أعدّتها مبادرة «وورلد ويذر أتريبيوشن» إلى أن موجة الحرارة الحارقة التي اجتاحت شمال غربي المحيط الهادي، وتسببت بمئات الوفيات في كندا خلال أسبوع، كانت «مستحيلة فعلياً» من دون تأثير تغيُّر المناخ. وتخلُص الدراسة إلى أن التغيُّر المناخي ضاعف احتمالية حدوث موجة الحر هذه نحو 150 مرة.
وعندما جرى تقييم حالة الطقس باستخدام نموذج إحصائي قياسي، يعتمد البيانات المجموعة سابقاً كمرجع لما قد يحصل، اقترح النموذج أن هذه الموجة الحارة غير واردة. وانتهى الأمر بالباحثين إلى تعديل نموذجهم من خلال إجباره على إعطاء أولوية كبرى لدرجات الحرارة القصوى الأخيرة في سجلّه التاريخي، فكانت احتمالية حصول هذه الموجة مرةً واحدةً كل 1000 سنة.
وتشهد المناطق الغربية من الولايات المتحدة فترات جفاف طويلة وموجات حر قاسية. وأسهم الجفاف الذي طال أمده في وسط وشمال أريزونا خلال الأشهر الماضية في إجهاد مائي تسبب في موت ما يصل إلى 30 في المائة من نبات العرعر هناك. ووفقاً لخدمة الغابات الأميركية، هلكت أكثر من 129 مليون شجرة تحت وطأة الجفاف الشديد خلال العقد الماضي، وازدادت نتيجة ذلك مخاطر حرائق الغابات.
نماذج مناخية ناقصة
هذا التباين اللافت في أحوال الطقس بين بلد وآخر يُعزى غالباً إلى التباطؤ في التيار النفاث القطبي الذي يحدث بسبب التقاء الكتل الهوائية المدارية الدافئة مع الكتل الهوائية القطبية الباردة، ويتدفق في طبقات الجو العليا من الغرب إلى الشرق على شكل حزمة ضيقة بسرعات تتجاوز أحياناً 500 كيلومتر في الساعة.
وكما يحصل مع النهر الذي يفقد سرعته في سهل منبسط فتنتج عنه تعرجات واسعة، يميل تيار الهواء القطبي الضعيف إلى تكوين تموجات شاسعة وبطيئة تحتوي الهواء الراكد الساخن أو البارد. فإذا كانت المنطقة التي يتدفق فوقها تيار الهواء في قمة الموجة الساخنة، فهي تواجه طقساً حاراً كما الحال في بلدة ليتون الكندية، وإذا كانت على الطرف البارد فهي تغرق في الفيضانات كما جرى في قرية شولد الألمانية.
ويقلل تغيُّر المناخ من اندفاع التيارات الهوائية، حيث يؤدي ارتفاع درجة حرارة خطوط العرض العليا قرب الدائرة القطبية على نحو أسرع من ارتفاعها فوق خطوط العرض الوسطى في المناطق الاستوائية والمدارية إلى إنقاص التباينات في درجات الحرارة بين الشمال والجنوب، ويضعف بالتالي تدفق الرياح. وتعزز هذه الأحوال الجوية أنماط الانغلاق الجوي، حيث تجثم العواصف على مناطق محددة لأيام أو حتى أسابيع بسبب ضعف التيارات الدافعة.
فعلياً، تعد التيارات الهوائية الجوية هي العامل الأهم في تنظيم حالة الطقس في جميع أرجاء الكوكب، وهي بالتالي المؤثر الأكبر في صعود الحضارات أو انهيارها. ولا تنحصر نتائج ما يحدث في أي مكان من العالم، بما فيها المناطق النائية غير المأهولة، في نطاق انطلاقه فقط، إذ ينعكس تغيُّرات مناخية فوق مناطق أخرى، كما حصل في ألمانيا وكندا. وفي الوقت عينه، تُسبب انبعاثات الكربون فوق المناطق المأهولة احتباساً حرارياً يؤدي إلى تضخيم الأحوال المناخية المدمرة وجعلها أكثر تكراراً على المستوى العالمي، بما فيه تدمير الأنظمة الطبيعية في المناطق النائية.
وتُجمِع معظم النماذج المناخية على أن موجات الحر والجفاف والفيضانات والعواصف العاتية ستصبح أكثر تواتراً وشدةً مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وبدلاً من وضع خطط طوارئ لمواجهة الأحوال الجوية القاسية، فإن ما يحصل بعد كل كارثة هو نسيان كل شيء والمطالبة بتحفيز النمو أياً يكن الثمن.
المقلق أكثر هو أن النماذج المناخية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ لم تكن قادرةً بما يكفي لتوقع شدّة الفيضانات في ألمانيا وقساوة موجة الحر في شمال أميركا. ويتعذّر على الباحثين حتى الآن التوقع إذا ما كانت مناطق مثل ألمانيا أو شمال أميركا ستواجه ظروفاً مماثلة كل 20 سنة أو كل 10 سنوات أو حتى سنوياً. وغالباً ما تميل تقارير الهيئة إلى التحفظ والبحث عن التوافق بين أغلب الآراء التي تتجاذبها السياسات، ولذلك فإن السيناريوهات الأكثر تطرفاً تخضع للتهميش.
قد تكون حالة الطقس المسجلة فوق وسط أوروبا أو شمال أميركا خلال الأيام الأخيرة مؤشراً على أحوال جوية أكثر سوءاً في المستقبل، وهي تؤكد أن كوارث تغيُّر المناخ ستطال الجميع ولن تفرّق بين بلد متقدّم أو بلد فقير. وما لم يتم الربط بشكل نهائي بين هذه الكوارث المناخية وأسلوب الحياة ونمط الاقتصاد غير المستدام، فإن المجتمعات ستبقى محكومة على الدوام بتكرار المآسي السابقة.
ولكن إذا كانت دول غنية ومتقدمة تكنولوجياً، مثل ألمانيا وكندا، قادرة على تضميد جراحها والخروج من ضربات الفيضانات وموجات الحر، فما حال الدول الفقيرة؟ قمة المناخ المقبلة في غلاسكو أمام تحدٍّ كبير للإجابة عن هذا السؤال، والبدء بتطبيق برامج عملية استعداداً لما هو أعظم.


مقالات ذات صلة

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

الاقتصاد سيارات تُحضر بعض الوفود إلى مقر انعقاد مؤتمر «كوب 29» في العاصمة الأذرية باكو (رويترز)

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

سيطر الخلاف على اليوم الختامي لـ«كوب 29» حيث عبرت جميع الأطراف عن اعتراضها على «الحل الوسطي» الوارد في «مسودة اتفاق التمويل».

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد مفوض الاتحاد الأوروبي للعمل المناخي فوبكي هوكسترا في مؤتمر صحافي على هامش «كوب 29» (رويترز)

«كوب 29» في ساعاته الأخيرة... مقترح يظهر استمرار الفجوة الواسعة بشأن تمويل المناخ

تتواصل المفاوضات بشكل مكثّف في الكواليس للتوصل إلى تسوية نهائية بين الدول الغنية والنامية رغم تباعد المواقف في مؤتمر المناخ الخميس.

«الشرق الأوسط» (باكو)
بيئة أظهرت الدراسة التي أجراها معهد «كلايمت سنترال» الأميركي للأبحاث أنّ الأعاصير الـ11 التي حدثت هذا العام اشتدت بمعدل 14 إلى 45 كيلومتراً في الساعة (رويترز)

الاحترار القياسي للمحيطات زاد حدة الأعاصير الأطلسية في 2024

أكدت دراسة جديدة، نُشرت الأربعاء، أن ظاهرة الاحترار المناخي تفاقم القوة التدميرية للعواصف، مسببة زيادة السرعة القصوى لرياح مختلف الأعاصير الأطلسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد رجل يقف بجوار شعار مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 29» في أذربيجان (رويترز)

«أوبك» في «كوب 29»: التحول المتوازن في مجال الطاقة مفتاح الاستدامة العالمية

قال أمين عام «أوبك» إن النفط والغاز الطبيعي «هبة من الله»، وإن محادثات الحد من الاحتباس الحراري يجب أن تركز على خفض الانبعاثات وليس اختيار مصادر الطاقة.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد الأمين العام لمنظمة «أوبك» يتحدث خلال مؤتمر «كوب 29»... (رويترز)

الأمين العام لـ«أوبك» في «كوب 29»: النفط هدية من الله

قال الأمين العام لمنظمة «أوبك»، هيثم الغيص، الأربعاء، خلال مؤتمر المناخ «كوب 29» في باكو، إن النفط الخام والغاز الطبيعي هما «هدية من الله».

«الشرق الأوسط» (باكو)

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».