أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

بلدان متقدمة تحت وطأة تغيُّر المناخ

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
TT

أوروبا تغرق بالفيضانات وأميركا تحترق من الحر

الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)
الفيضانات دمرت قرى في ألمانيا وحصدت عشرات الأرواح (أ.ب)

تُعد ألمانيا نموذجاً للحفاظ على المكوّنات الطبيعية الجميلة، بما تحتويه من تلال ووديان وحقول متناسقة تتخللها مناطق حضرية مخططة بإتقان ومأهولة بمجتمعات محلية متماسكة ومتعاونة. وفوق كل ذلك، تملك البلاد خدمة أرصاد جوية وطنية ممتازة ومؤسسات دفاع مدني يُضرب بها المثل في حالات الكوارث.
لكن كل ذلك لم يكن كافياً لمنع كارثة الفيضان التي طالت عشرات الضحايا وألحقت أضراراً جسيمة بالمرافق والبنى التحتية. وفيما تجاوزت حالة الطقس هذه كل التوقعات، حتى إن علماء المناخ الألمان وصفوها بالحدث الذي لا يحصل عادة سوى مرة واحدة خلال عدة قرون، يبدو أن المناخ المعاصر سيفرض أوضاعاً جديدة تُعيد تعريف ما هو اتجاه طبيعي وما هو طقس متطرف بالمقارنة مع بيانات المناخ الماضية.
الفيضانات تُغرق وسط أوروبا
شهدت ألمانيا وبلجيكا وهولندا هطول 150 ملليمتراً من الأمطار في يوم واحد بعد أسابيع ممطرة أدّت إلى تشبّع التربة تماماً. وتحت تأثير هذا الهطل الإضافي، تشكلت موجة فيضان جرفت الحطام الذي اجتاح القرى، وهدم المنازل في مناطق عدة. ويبقى التهديد قائماً في مناطق أخرى بسبب الأوضاع الجوية المسيطرة التي تتحرك ببطء منذ أيام.
واجتاح المنخفض الجوي «بيرند» ألمانيا خلال الأسبوع الماضي، متسبباً في تساقط الأمطار بغزارة. ونظراً لتقييده بمرتفعين جويين يتحركان على نحو متعاكس في الشرق وفي الغرب، كانت حركة المنخفض بطيئة، ما أدى إلى هطول الأمطار بغزارة لفترات طويلة في الأماكن التي يسيطر عليها.
وأظهرت النماذج الحاسوبية أن كمية الرطوبة في الغلاف الجوي القابلة للتساقط، التي تدفقت إلى وسط أوروبا آتية من البحر المتوسط، يمكن مقارنتها بتلك التي تُسجَّل على طول السواحل الأميركية المطلّة على خليج المكسيك أثناء حدوث الأعاصير.
وتتوافق الغزارة الاستثنائية لهطول الأمطار فوق وسط أوروبا مع ما يتوقعه العلماء حول عواقب ارتفاع درجات الحرارة نتيجة تغيُّر المناخ بفعل الأنشطة البشرية. وتؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة حدّة الأحوال الجوية، فمع كل ارتفاع في درجات الحرارة بمعدل درجة مئوية واحدة، تزداد قدرة الهواء على حمل الرطوبة بمعدل 7 في المائة. كما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة معدلات تبخّر المياه على سطح الأرض. ويتسبب كل ذلك في مزيد من الأحوال الجوية المتطرفة، بما فيها الأعاصير القوية.
ومع أن ضراوة الفيضانات الأخيرة كانت غير مسبوقة خلال أكثر من قرن، فإنها ليست المرة الأولى التي تضرب فيها العواصف ألمانيا، وولاية شمال الراين - ويستفاليا على وجه التحديد، حيث تعرضت سابقاً لأعاصير وعواصف تسببت في مقتل العشرات وعزلت مناطق كاملة عن العالم. فخلال العقدين الماضيين، ضرب الإعصار «فريدريك» الولاية سنة 2018 بسرعة 205 كيلومترات في الساعة متسبباً في مصرع ثمانية أشخاص، وقبله الإعصار «نيكلاس» سنة 2015 الذي أودى بحياة 11 شخصاً، وقبل ذلك الإعصار «إيلا» الذي ترافق بعاصفة رعدية سنة 2014، وسبقها الإعصار «كيريل» سنة 2007 والإعصار «جانيت» سنة 2002. وعدا عن اشتداد قوتها، تتكرر العواصف والأعاصير بوتيرة سريعة لم يشهدها العالم قبلاً، وهذا دليل واضح على مؤشرات تغيُّر المناخ التي طالما حذَّر منها العلماء منذ عقود.
وكانت دراسة حديثة، نُشرت في دورية «جورنال أوف كلايمت» مطلع هذه السنة، توقعت زيادةً كبيرةً في هطول الأمطار الغزيرة في معظم أنحاء أوروبا خلال العقود القليلة المقبلة. كما خلُصت دراسة أخرى، صدرت قبل أيام ضمن دورية «أدفانسنغ إيرث آند سبيس ساينس»، إلى أن العواصف الشديدة والبطيئة في جميع أنحاء أوروبا قد تصبح أكثر تواتراً بمقدار 14 مرة بحلول نهاية القرن. وأوضح معدّو الدراسة أن حركة العواصف ستتباطأ، خصوصاً في الخريف، بسبب ضعف الرياح الدافعة في مستويات الجو العليا.
لكن عوامل الطبيعة والتغيُّر المناخي ليست وحدها المسؤولة عما حصل، إذ فاقم المشكلة إنشاء أبنية وشق طرقات وإقامة مصانع وبنى تحتية متنوعة في مجاري السيول والمناطق الطبيعية المؤهلة لاحتواء مياه الفيضانات وامتصاصها. وإذا كانت هذه الأمور أُهملت في الماضي، فالاستعداد للتعامل مع الآثار المتعاظمة لتغيُّر المناخ أضحى أولوية لا تحتمل التأجيل. ومن المفارقات أن إعلان الاتحاد الأوروبي عن خطة مناخية قوية وواسعة جاء قبل يوم فقط من انطلاق موجة الفيضانات في قلب أوروبا، ما سيخفف المعارضة المحتملة للشروط القاسية التي تفرضها الخطة لخفض الانبعاثات الكربونية.
الحرارة تتضاعف في كندا وأميركا
في مقابل الفيضانات الأوروبية، يمثّل الطقس الحار والجاف، الذي يحدث في مناطق الضغط المرتفع التي يغذيها الهواء المداري، شكلاً آخر من التطرف الجوي، حيث قاربت درجة الحرارة خلال الأيام الماضية 50 درجة مئوية في بلدات كندية، و35 درجة مئوية في موسكو وشمال النرويج قرب الدائرة القطبية.
وكانت موجة الحر التي اجتاحت ولايتي أوريغون وواشنطن وغرب كندا خلال الأيام الأخيرة من شهر يونيو (حزيران) أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة في جميع أنحاء شمال غربي المحيط الهادي. وسجّلت مدينة سياتل الأميركية أعلى مستوى حرارة لها على الإطلاق عند 42 درجة مئوية، فيما حطمت مدينة بورتلاند رقماً قياسياً عند 47 درجة مئوية. وتصدّرت بلدة ليتون الكندية عناوين الصحف عندما لامست الحرارة فيها 50 درجة مئوية، وأعقبتها حرائق غابات مدمّرة.
وتشير دراسة أعدّتها مبادرة «وورلد ويذر أتريبيوشن» إلى أن موجة الحرارة الحارقة التي اجتاحت شمال غربي المحيط الهادي، وتسببت بمئات الوفيات في كندا خلال أسبوع، كانت «مستحيلة فعلياً» من دون تأثير تغيُّر المناخ. وتخلُص الدراسة إلى أن التغيُّر المناخي ضاعف احتمالية حدوث موجة الحر هذه نحو 150 مرة.
وعندما جرى تقييم حالة الطقس باستخدام نموذج إحصائي قياسي، يعتمد البيانات المجموعة سابقاً كمرجع لما قد يحصل، اقترح النموذج أن هذه الموجة الحارة غير واردة. وانتهى الأمر بالباحثين إلى تعديل نموذجهم من خلال إجباره على إعطاء أولوية كبرى لدرجات الحرارة القصوى الأخيرة في سجلّه التاريخي، فكانت احتمالية حصول هذه الموجة مرةً واحدةً كل 1000 سنة.
وتشهد المناطق الغربية من الولايات المتحدة فترات جفاف طويلة وموجات حر قاسية. وأسهم الجفاف الذي طال أمده في وسط وشمال أريزونا خلال الأشهر الماضية في إجهاد مائي تسبب في موت ما يصل إلى 30 في المائة من نبات العرعر هناك. ووفقاً لخدمة الغابات الأميركية، هلكت أكثر من 129 مليون شجرة تحت وطأة الجفاف الشديد خلال العقد الماضي، وازدادت نتيجة ذلك مخاطر حرائق الغابات.
نماذج مناخية ناقصة
هذا التباين اللافت في أحوال الطقس بين بلد وآخر يُعزى غالباً إلى التباطؤ في التيار النفاث القطبي الذي يحدث بسبب التقاء الكتل الهوائية المدارية الدافئة مع الكتل الهوائية القطبية الباردة، ويتدفق في طبقات الجو العليا من الغرب إلى الشرق على شكل حزمة ضيقة بسرعات تتجاوز أحياناً 500 كيلومتر في الساعة.
وكما يحصل مع النهر الذي يفقد سرعته في سهل منبسط فتنتج عنه تعرجات واسعة، يميل تيار الهواء القطبي الضعيف إلى تكوين تموجات شاسعة وبطيئة تحتوي الهواء الراكد الساخن أو البارد. فإذا كانت المنطقة التي يتدفق فوقها تيار الهواء في قمة الموجة الساخنة، فهي تواجه طقساً حاراً كما الحال في بلدة ليتون الكندية، وإذا كانت على الطرف البارد فهي تغرق في الفيضانات كما جرى في قرية شولد الألمانية.
ويقلل تغيُّر المناخ من اندفاع التيارات الهوائية، حيث يؤدي ارتفاع درجة حرارة خطوط العرض العليا قرب الدائرة القطبية على نحو أسرع من ارتفاعها فوق خطوط العرض الوسطى في المناطق الاستوائية والمدارية إلى إنقاص التباينات في درجات الحرارة بين الشمال والجنوب، ويضعف بالتالي تدفق الرياح. وتعزز هذه الأحوال الجوية أنماط الانغلاق الجوي، حيث تجثم العواصف على مناطق محددة لأيام أو حتى أسابيع بسبب ضعف التيارات الدافعة.
فعلياً، تعد التيارات الهوائية الجوية هي العامل الأهم في تنظيم حالة الطقس في جميع أرجاء الكوكب، وهي بالتالي المؤثر الأكبر في صعود الحضارات أو انهيارها. ولا تنحصر نتائج ما يحدث في أي مكان من العالم، بما فيها المناطق النائية غير المأهولة، في نطاق انطلاقه فقط، إذ ينعكس تغيُّرات مناخية فوق مناطق أخرى، كما حصل في ألمانيا وكندا. وفي الوقت عينه، تُسبب انبعاثات الكربون فوق المناطق المأهولة احتباساً حرارياً يؤدي إلى تضخيم الأحوال المناخية المدمرة وجعلها أكثر تكراراً على المستوى العالمي، بما فيه تدمير الأنظمة الطبيعية في المناطق النائية.
وتُجمِع معظم النماذج المناخية على أن موجات الحر والجفاف والفيضانات والعواصف العاتية ستصبح أكثر تواتراً وشدةً مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وبدلاً من وضع خطط طوارئ لمواجهة الأحوال الجوية القاسية، فإن ما يحصل بعد كل كارثة هو نسيان كل شيء والمطالبة بتحفيز النمو أياً يكن الثمن.
المقلق أكثر هو أن النماذج المناخية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ لم تكن قادرةً بما يكفي لتوقع شدّة الفيضانات في ألمانيا وقساوة موجة الحر في شمال أميركا. ويتعذّر على الباحثين حتى الآن التوقع إذا ما كانت مناطق مثل ألمانيا أو شمال أميركا ستواجه ظروفاً مماثلة كل 20 سنة أو كل 10 سنوات أو حتى سنوياً. وغالباً ما تميل تقارير الهيئة إلى التحفظ والبحث عن التوافق بين أغلب الآراء التي تتجاذبها السياسات، ولذلك فإن السيناريوهات الأكثر تطرفاً تخضع للتهميش.
قد تكون حالة الطقس المسجلة فوق وسط أوروبا أو شمال أميركا خلال الأيام الأخيرة مؤشراً على أحوال جوية أكثر سوءاً في المستقبل، وهي تؤكد أن كوارث تغيُّر المناخ ستطال الجميع ولن تفرّق بين بلد متقدّم أو بلد فقير. وما لم يتم الربط بشكل نهائي بين هذه الكوارث المناخية وأسلوب الحياة ونمط الاقتصاد غير المستدام، فإن المجتمعات ستبقى محكومة على الدوام بتكرار المآسي السابقة.
ولكن إذا كانت دول غنية ومتقدمة تكنولوجياً، مثل ألمانيا وكندا، قادرة على تضميد جراحها والخروج من ضربات الفيضانات وموجات الحر، فما حال الدول الفقيرة؟ قمة المناخ المقبلة في غلاسكو أمام تحدٍّ كبير للإجابة عن هذا السؤال، والبدء بتطبيق برامج عملية استعداداً لما هو أعظم.


مقالات ذات صلة

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

الاقتصاد سيارات تُحضر بعض الوفود إلى مقر انعقاد مؤتمر «كوب 29» في العاصمة الأذرية باكو (رويترز)

«كوب 29» يشتعل في اللحظات الحاسمة مع اعتراضات من كل الأطراف

سيطر الخلاف على اليوم الختامي لـ«كوب 29» حيث عبرت جميع الأطراف عن اعتراضها على «الحل الوسطي» الوارد في «مسودة اتفاق التمويل».

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد مفوض الاتحاد الأوروبي للعمل المناخي فوبكي هوكسترا في مؤتمر صحافي على هامش «كوب 29» (رويترز)

«كوب 29» في ساعاته الأخيرة... مقترح يظهر استمرار الفجوة الواسعة بشأن تمويل المناخ

تتواصل المفاوضات بشكل مكثّف في الكواليس للتوصل إلى تسوية نهائية بين الدول الغنية والنامية رغم تباعد المواقف في مؤتمر المناخ الخميس.

«الشرق الأوسط» (باكو)
بيئة أظهرت الدراسة التي أجراها معهد «كلايمت سنترال» الأميركي للأبحاث أنّ الأعاصير الـ11 التي حدثت هذا العام اشتدت بمعدل 14 إلى 45 كيلومتراً في الساعة (رويترز)

الاحترار القياسي للمحيطات زاد حدة الأعاصير الأطلسية في 2024

أكدت دراسة جديدة، نُشرت الأربعاء، أن ظاهرة الاحترار المناخي تفاقم القوة التدميرية للعواصف، مسببة زيادة السرعة القصوى لرياح مختلف الأعاصير الأطلسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد رجل يقف بجوار شعار مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 29» في أذربيجان (رويترز)

«أوبك» في «كوب 29»: التحول المتوازن في مجال الطاقة مفتاح الاستدامة العالمية

قال أمين عام «أوبك» إن النفط والغاز الطبيعي «هبة من الله»، وإن محادثات الحد من الاحتباس الحراري يجب أن تركز على خفض الانبعاثات وليس اختيار مصادر الطاقة.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد الأمين العام لمنظمة «أوبك» يتحدث خلال مؤتمر «كوب 29»... (رويترز)

الأمين العام لـ«أوبك» في «كوب 29»: النفط هدية من الله

قال الأمين العام لمنظمة «أوبك»، هيثم الغيص، الأربعاء، خلال مؤتمر المناخ «كوب 29» في باكو، إن النفط الخام والغاز الطبيعي هما «هدية من الله».

«الشرق الأوسط» (باكو)

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».