صراع إعلامي ذو خلفيات سياسية في تونس

يحتدم عبر المدونين والإعلاميين

أمنية منصور
أمنية منصور
TT

صراع إعلامي ذو خلفيات سياسية في تونس

أمنية منصور
أمنية منصور

تعاقبت أخيراً في تونس صيحات فزع صادرة عن الإعلاميين والمثقفين المستقلين ونشطاء المجتمع المدني والأحزاب بسبب ما اعتبروه «أكبر امتحان» يهدد حرية التعبير ومصداقية الإعلام في بلد تصنفه التقارير الأممية والدولية في الطليعة عربياً في مجال الحريات. وجاء هذا التطور في ظل «تضخم دور لوبيات المال السياسي المشبوه»، بالتزامن مع إحالة بعض المدونين والكتاب المعارضين إلى المحكمة العسكرية وليس على القضاء المدني.
القطرة التي أفاضت الكأس كانت إحالة الناشطة النسائية الليبرالية أمينة منصور، وعدد من المدونين والسياسيين، على المحكمة العسكرية بعد اتهامهم بالإساءة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد، وبنشر «أخبار زائفة تنال من شخصه ومن كرامته ومن هيبة الدولة والجيش الوطني».

اعتراضات
لكن المهدي الجلاصي، رئيس نقابة الصحافيين التونسيين، وعدد من نشطاء المجتمع المدني، أصدروا بلاغات رسمية تحذر من «استخدام القضاء العسكري وسيلة لإسكات صوت الكتاب المعارضين في المواقع الاجتماعية وفي بقية وسائل الإعلام». أيضاً انتقد المحامي سمير بن عمر، القيادي في حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» المعارض، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، ما اعتبره «بوادر التضييق على حرية التعبير» في وسائل الإعلام التقليدية والجديدة بسبب تزايد تأثير «لوبيات الفساد المالي والسياسي» التي سيطرت على عدة قنوات تلفزية وإذاعية، وذلك في مرحلة شهدت إحالة ملفات عديدة على القضاء العسكري، ثم إصدار قضاة عسكريين قرارات إيقاف ضد بعض المدونين المتهمين.
وأصدرت كذلك قيادات عدة منظمات وأحزاب، من بينها أحزاب مشاركة في الحكومة مثل حزب «حركة النهضة»، بيانات «تحذيرية» لرئاسة الجمهورية في حال توالي إحالة المدونين والصحافيين على المحكمة العسكرية، والعودة إلى «مربع التضييق على حرية التعبير عبر استعمال القضاء العسكري كوسيلة للتنكيل بالمعارضين».

توظيف سياسي للإعلام
كان بين «المفاجآت» في أمر التحذيرات من «إقحام القضاء العسكري» في تقييم ما يكتبه المعارضون، صدور بعضها عن سياسيين بارزين بينهم الرئيس السابق للجمهورية المنصف المرزوقي ورئيس البرلمان وزعيم «النهضة» راشد الغنوشي. ومن ثم، قلل بعض أنصار الرئيس سعيد، مثل المحامي والخبير القانوني رابح الخرايفي، من انتقادات خصومهم ومعارضيهم. وحذروا من «الحملات الإعلامية» التي تستهدف رئيس الدولة ومشروعه الإصلاحي. واعتبر الخرايفي أن «النيابة العمومية التابعة للمحكمة العسكرية يحق لها رفع قضايا ضد مَن يشتبه في تورطه في الاعتداء على كرامة رئيس الجمهورية والمساس بهيبة الدولة وهيبة القائد العام للقوات المسلحة».
وفي المقابل، يرى المهدي الجلاصي، والذين يناصرونه، أن «من حق رئاسة الجمهورية رفع قضايا عدلية أمام القضاء المدني»، من دون إقحام المؤسسة العسكرية في النزاعات بين السياسيين ومعارضيهم بمن فيهم المدونون والإعلاميون.
صمت... فمساندة... ثم زوبعة
هذا، وكان الجدل حول إقحام القضاء العسكري في مراقبة الإعلام والمواقع الاجتماعية قد طفا على السطح بقوة منذ نحو 3 أشهر عندما صدرت عن النيابة العسكرية بطاقة (مذكرة) جلب ضد المدون راشد الخياري، النائب المعارض في البرلمان، بسبب نشره مقالات وفيديوهات وجهت اتهامات خطيرة إلى الرئيس قيس سعيد، من بينها «الحصول على تمويلات أميركية وأجنبية قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2019» (؟). ولقد فندت سفارة الولايات المتحدة بتونس، ومثلها رئاسة الجمهورية، تلك الاتهامات، وفتحت المحكمة العسكرية قضية عدلية ضد راشد الخياري الذي لاذ بالفرار رغم حصانته البرلمانية.
ومن جهة ثانية، بينما شن أنصار الخياري حملة للدفاع عنه بصفته «كاتباً ومدوناً استقصائياً» يضمن له القانون حرية التعبير كاملة، انتقده آخرون معتبرين أن «النيل من هيبة القائد العام للقوات المسلحة (ورئيس الجمهورية دستورياً هو القائد العام للقوات المسلحة) يؤدي إلى النيل من هيبة مؤسسة الجيش الوطني كاملة». وفي هذا الشأن، بالذات، اعترض بعض كبار الجامعيين على هذا الموقف، واعتبروا أن «الدستور التونسي إنما أسند إلى رئيس الجمهورية المدني المنتخب صفة القائد العام للقوات المسلحة احتراماً للصبغة المدنية للدولة، وحرصاً على أن لا تُسند تلك الخطة (الوظيفة) لأحد جنرالات الجيش»، على حد تعبير عياض بن عاشور، العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم الإنسانية والخبير القانوني لدى الأمم المتحدة.
وفي سياق متصل، من الملاحظ أن عدداً من الذين ساندوا مبدأ محاكمة النائب الخياري، واتهموه بـ«الكذب ومحاولة تشويه رئيس الجمهورية المنتخب» اعترضوا بقوة خلال الأسابيع القليلة الماضية على إصدار المحكمة العسكرية قرارات إيقاف ضد بعض الكتاب في المواقع الاجتماعية، بينهم المدون سليم الجبالي الذي سجن بعد شكاية تقدمت بها رئاسة الجمهورية، بسبب «تدوينات اعتبرت مُسيئة لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة». واعتبر فرع منظمة «صحافيون بلا حدود» الدولية في تونس في بلاغ رسمي أن إحالة مدنيين على المحاكم العسكرية بدلاً من القضاء المدني يُعد تعسفاً على القانون التحرري الذي يضمن حرية التعبير ويكرس «الاستثناء الديمقراطي التونسي».

هل هي سابقة؟
الجدير بالذكر أن المحاكمات العسكرية للمدونين والكتاب والسياسيين بدأت في تونس منذ 2012، عندما رفع الجنرال رشيد عمار، قائد أركان الجيوش الثلاثة، دعوى ضد أيوب المسعودي، المستشار السياسي السابق للرئيس المنصف المرزوقي، بتهمة «نسبة أمور غير حقيقية إلى موظف عمومي» في أعقاب اتهام المسعودي للجنرال عمار بـ«الخيانة الوطنية» من دون تقديم أدلة. كذلك سُجن المدون المعارض وعضو البرلمان الحالي ياسين العياري، خلال عام 2015 بعد حكم أصدرته ضده محكمة عسكرية بتهمة «نشر الأخبار الزائفة والثلب»... وباستغلال صفته باعتباره ابن العقيد السابق في الجيش الطاهر العياري، الذي قتل في عملية إرهابية في مايو (أيار) 2011.
في المقابل، قلل وزير الدفاع التونسي إبراهيم البرتاجي، خلال جلسة حوار مع البرلمان التونسي من التخوفات على مستقبل حرية الإعلام في البلاد. وأورد أن المؤسسة العسكرية «تحترم القانون ومدنية النظام وليس لديها أي توجه للنيل من حرية التعبير أو التشهير بالمعارضين». لكن المتمسكين بمحاكمة المتهمين بجرائم لديها علاقة بالإعلام أمام محاكم مدنية يشيرون إلى أن إحدى المحاكم المدنية قضت عام 2019 بعدم سماع الدعوى لفائدة الناشط السياسي والمدون المعارض عماد دغيج، إثر قضية تقدم بها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ضده.

لعبة المال والسياسة
هذه التطورات تسجل في مرحلة حذرت فيها «الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري»، التي تشرف على القطاع منذ إلغاء وزارة الاتصال عام 2011، من «تزايد تأثير المال السياسي المشبوه»، بما نال من درجة «المهنية الإعلامية والحيادية» في كثير من القنوات والمواقع.
كذلك، حذرت مؤتمرات علمية ودراسات أكاديمية مستقلة من «توظيف (استغلال) المال السياسي الداخلي والأجنبي» لمناخ الحريات الإعلامية في البلاد لتوريط بعض الإعلاميين والمؤسسات الصحافية في «الانحياز والاصطفاف السياسي»، والانخراط في «لعبة المحاور الإقليمية والدولية» بهدف إجهاض «الاستثناء الديمقراطي» الوحيد الناجح سياسياً في بلدان «الربيع العربي». وأدى هذا الانحياز والاصطفاف إلى معارك «الكل ضد الكل»، بين محورين كبيرين: الأول مساند للحكومة والبرلمان وحزامهما السياسي، والثاني معارض لها يدعو إلى «ثورة جديدة» و«إسقاط كامل المنظومة الإعلامية والسياسية» التي تتزعم المشهد منذ يناير (كانون الثاني) 2011.


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
TT

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، الاثنين، أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية غير العادية» التي استضافتها الرياض مؤخراً.

وشددت القمة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب لنيل حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل وشامل مبني على قرارات الشرعية الدولية.

وقال الدوسري لدى ترؤسه الدورة العادية الـ20 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في أبوظبي، أن الاجتماع يناقش 12 بنداً ضمن الجهود الرامية لتطوير العمل المشترك، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بمشاركة رؤساء الوفود والمؤسسات والاتحادات الممارسة لمهام إعلامية ذات صفة مراقب.

الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

وأضاف أن الاجتماعات ناقشت سبل الارتقاء بالمحتوى الإعلامي، وأهم القضايا المتعلقة بدور الإعلام في التصدي لظاهرة الإرهاب، وجهود الجامعة العربية في متابعة خطة التحرك الإعلامي بالخارج، فضلاً عن الخريطة الإعلامية العربية للتنمية المستدامة 2030.

وتطرق الدوسري إلى استضافة السعودية مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتصحر «كوب 16»، وقمة المياه الواحدة، وضرورة إبراز مخرجاتهما في الإعلام العربي، مؤكداً أهمية الخطة الموحدة للتفاعل الإعلامي مع قضايا البيئة.

وأشار إلى أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام العربي، واستثمار دورها في تعزيز المحتوى وتحليل سلوك الجمهور، داعياً للاستفادة من خبرات «القمة العالمية للذكاء الاصطناعي» في الرياض؛ لتطوير الأداء.