الصراعات السياسية في العراق تشعل فتيل «حرائق الصيف»

على خلفية الانتخابات المقبلة ومستقبل الكاظمي والعلاقات مع واشنطن

الصراعات السياسية في العراق تشعل فتيل «حرائق الصيف»
TT

الصراعات السياسية في العراق تشعل فتيل «حرائق الصيف»

الصراعات السياسية في العراق تشعل فتيل «حرائق الصيف»

لا يكاد يمر يوم من دون وقوع حريق في مكان ما على أرض العراق، بدءاً من العاصمة بغداد التي لها نصيب الأسد من حرائق الطبيعة، كما تقول مصادر الدفاع المدني. ففي غضون الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي (2021)، سجّلت فرق الدفاع المدني 7000 حريق في العراق لم يعترف بالمسؤولية عنها أحد، مع أن الشبهات دائماً باتجاه «داعش»... والتقييد ضد مجهول.
تبدأ الحرائق سنوياً عند بدء نضج المحاصيل الزراعية في أوائل الصيف (نهايات الشهر الرابع من العام ومطلع الشهر الخامس وما يليه من شهور). لكن حرائق القمح والشعير ليست أكثر من «بروفة» لأنواع أخرى من الحرائق، هي المطلوبة أصلاً... وهي الحرائق في الدوائر والمؤسسات. ولا يهم أن تمتد إلى المشافي حتى يكون التعاطف مع الضحايا متزامناً مع ارتفاع منسوب الصراع و«التسقيط» السياسي بين الطبقة السياسية الحاكمة بكل أحزابها وقواها ومكوّناتها. ولأن العام الحالي هو عام الانتخابات المبكّرة المقّرر إجراؤها في العاشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فإن الحرائق لا بد أن تكون من الوزن الثقيل.
في حسابات القوى السياسية العراقية ليس مهماً أن يموت حرقاً في مستشفى ابن الخطيب في العاصمة بغداد أكثر من 80 مريضاً بـ«كوفيد - 19»، ويربو عدد الجرحى على المائة... وهذا ما حصل في شهر أبريل (نيسان) الماضي.
وأيضاً لا يكترث أحد لموت 60 مواطناً يعانون من الفيروس نفسه، مثلما تقول إحصائيات الحكومة، وأكثر من 90 شخصاً، طبقاً لإحصاءات أخرى من وكالات أنباء وأطباء ومنظمات حقوق إنسان.
في العراق، في ظل «النأي بالنفس» عن أي مسؤولية، فإن الخلاف حول أرقام الضحايا لا يفسد عادةً للود قضية بين المتخاصمين حين يجدون أنفسهم، بعد فورة خلاف عنيفة، وقد توصّلوا إلى «حلول» جزئية ترقيعية يعبرون بها مرحلة فقط.
غير أن حرائق هذا العام جاءت مختلفة تماماً عنها في الأعوام السابقة. فالجميع مشغول بكيفية التحضير للانتخابات المقبلة. ولدى الجميع مشكلات مع الجميع، بدءاً من المكوّنات الثلاثة الأكبر، أي الشيعة والسنة والكرد، مروراً بالأحزاب الشيعية - الشيعية والسنية - السنية والكردية - الكردية، والحكومة وخصومها، وانتهاءً بالخصوم أنفسهم... بعضهم مع بعض (شيعة مع شيعة أو سنّة مع سنة أو كرد مع كرد) أو بالضد النوعي (شيعي بضد نوعي سنّي وبالعكس، أو كردي بضد نوعي شيعي أو سني أو بالعكس).
أما المواطن الذي يُفترض به أن يكون هو الآخر جاهزاً للانتخابات، التي طالب بها، عبر المظاهرات الجماهيرية، أو اتباعه تعليمات مفوضية الانتخابات بتحديث بياناته، لكي يدلي يوم الاقتراع بصوته، فإن المشكلة تبقى في صوته... أين يضعه في أي صندوق؟ وضمن أي اتجاه؟
هل باتجاه التغيير الحقيقي عبر انتخاب الأصلح؟ أم بالإبقاء على النهج ذاته الذي تتحكّم به في النهاية ولاءات الطائفة والعِرق والجغرافيا والبيئة والعشيرة؟ وبين هذا وذاك، هناك مسألة السلاح الذي لا يزال منفلتاً، ويبدو أنه سيبقى كذلك حتى يوم الاقتراع وما بعد إعلان النتائج.

المؤمن الذي أدمن اللدغ

في العراق نسبة المؤمنين الذي يستطيبون اللدغ من الجحر نفسه - ليس مرتين فقط بل عشرات المرات - ما زالوا هم الغالبية. وهذه الغالبية التي توصَف بالصامتة نسبتها 70 في المائة من سكان العراق البالغ عددهم 40 مليون نسمة. ثم إن عدد سكان العراق مشكلة أخرى تضاف إلى سلسلة المشكلات التي تعاني منها البلاد؛ إذ إن آخر إحصاء سكاني في العراق أُجري عام 1987، في عهد نظام صدام حسين. ولا تزال الخلافات السياسية تحول دون إجراء تعداد سكاني جديد.
آخر ما أعلنته وزارة التخطيط العراقية أن تعداد نفوس (سكان) بلاد ما بين النهرين 40 مليون نسمة. ولكن ثمة مَن يعارض الوزارة مدعياً - ودائما رجماً بالغيب مرة والتوقعات مرة أخرى - أن الرقم الحقيقي لا يتجاوز 38 مليون نسمة، ثم إن للبطاقة التموينية التي يتناول بموجبها العراقيون الحصص الغذائية المدعومة من الدولة منذ تسعينات القرن الماضي نتيجة الحصار رقمها الخاص، فطبقاً لإحصاءاتها فإن عدد المشمولين بها يبلغ 45 مليون نسمة. وهكذا، طبقاً للتسمية الدارجة في العراق في مثل هذه الحالات، فإن نحو 5 ملايين مواطن عراقي «فضائيون»...أي لا وجود لهم على أرض الواقع، غير أنهم موجودون في سجلّات الفشل والفساد. وبما أن العراق مقبل على الانتخابات - مع أن احتمالات تأجيلها تبقى قائمة بسبب توالي الحرائق السياسية والطبيعية - فإن الكل، مثلما هو معمول به في كل الدنيا، يستعد لهذه الانتخابات، وطبقاً للأهداف التي يروم تحقيقها، سواء أكان حزباً أم فرداً.
ولكن المشكلة في البلاد اليوم أن الفساد فسادان: فساد سياسي، سببه نظام المحاصصة العرقية والطائفية طبقاً لوصفة ما بعد عام 2003. وفساد مالي، قوامه السرقة بشتى الطرق والوسائل للمال العام من دون أن يرف للفاسدين ومن يقف خلفهم جفن. وبناءً عليه، فإن الانتخابات ما عادت وسيلة من أجل بلوغ غاية هي «التغيير نحو الأفضل»... بل باتت هدفاً بحد ذاته هو الإبقاء على الحال كما هو.
سبب هذا الحال استشراء الفساد في منظومة الحكم التي قسمت العراق، حتى على صعيد توزيع المناصب، إلى «مكوّنات» لا أحزاب وكتل سياسية لها برامجها السياسية. وهذه البرامج التي قد تختلف - طبعاً - عن برامج أحزاب أخرى من المكوّن نفسه... وقد تتطابق مع أحزاب أخرى من مكوّنات أخرى. ويحمي هذا الحال اتفاقات وتوافقات مكتوبة مرة و«جنتلمان» مرة أخرى... لكنها تقوم على التواطؤ في كل المرات.
لذا فإنه حتى حين قدّمت رئاسة الجمهورية قبل أكثر من شهر إلى البرلمان «مشروع قانون استرداد أموال العراق المنهوبة»، لم تتوفر حتى الآن مؤشرات على إمكانية تشريع هذا القانون. فطبقاً لمشروع القانون هذا، فإن الأرقام التي يتضمّنها صادمة على صعيد حجم ما جرى سرقته وتحويله إلى خارج العراق. إذ يبلغ المبلغ المنهوب، طبقاً للرئاسة العراقية، نحو 150 مليار دولار أميركي. ويُذكر أن دخل العراق المالي الصافي من مبيعات النفط وأموال من مصادر أخرى - منها منح دولية منذ عام 2004 عند بدء سريان تصدير النفط والحصول على الأموال - يبلغ أكثر من تريليون دولار (أي نحو ألف مليار دولار أميركي).
ولكن نتيجة الفساد السياسي والفساد المالي، واتباع سياسة التوظيف «التنفيعي» لأغراض انتخابية، كل أربع سنوات، فإن أعداد الموظفين تضاعفت إلى نحو 6 ملايين ونصف مليون موظف ومتقاعد ومتعاقد. وهؤلاء يتقاضون شهرياً اليوم نحو 5 مليارات دولار رواتب، وهو ما يشكّل نحو 70 في المائة من الميزانية العامة للدولة.

الكهرباء والصحة

بالنسبة للحرائق، فإنها في كل موسم تأخذ سياقاً مختلفاً. هذا العام كانت الحصة الكبيرة في هذه الحرائق لأهم قطاعين لهما صلة مباشرة بحياة المواطن العراقي اليومية، وهما الكهرباء والصحة. والسبب هو كيفية إلصاق الفشل في الحكومة التي شكّلها مصطفى الكاظمي قبل سنة، مع العلم أن الفشل والإخفاق يمتدان إلى 18 سنة، هي عمر التغيير الذي جاءت به الطبقة السياسية الحالية. وبما أن الكاظمي حاول أن يعمل، بل وأن يفكّك منظومات الفشل والفساد، كان الحل الوحيد أمام الخصوم إفشاله بكل الطرق، حتى لو أدى ذلك إلى تخريب منظومات أساسية تتوقف عليها حياة الناس، مثل الكهرباء والصحة. وما يستحق الإشارة، هنا، أن الكاظمي كان شكّل بالفعل لجنة لمحاربة الفساد تمكنت من إلقاء القبض على عدد كبير من المتهمين بقضايا فساد كبرى، وهو أمر لم يحصل من قبل.
هذا، وإذا كانت حادثتا مستشفى ابن الخطيب في بغداد، خلال أبريل (نيسان) الماضي، ثم حادثة مستشفى الإمام الحسين في مدينة الناصرية خلال يوليو (تموز) الحالي، تجسّدان الفشل والفساد معاً، فإن إسقاط أبراج الطاقة الكهربائية عكست جنية سياسية تهدف إلى تحميل الكاظمي مسؤولية انقطاع التيار الكهربائي بوصفه رئيساً للوزراء، من دون النظر إلى تراكم الفشل والإخفاق الذي جعل العراق ينفق منذ عام 2003 حتى اليوم أكثر من 40 مليار دولار على قطاع الكهرباء فقط.
ظاهر الحادثتين في المشفيين انفجار أسطوانات غاز لم تتمكن دوائر الصحة والدفاع المدني من إحكام الحماية عليهما. ولكن بعد حادثة ابن الخطيب، استقال وزير الصحة، وعُدّ ذلك إنجازاً؛ كون «ثقافة الاستقالة» شبه معدومة في العراق. ثم إن استقالة الوزير ليست مِلكه ولا ملك رئيس الوزراء - وهو الرئيس التنفيذي للدولة - بل هي ملك الحزب أو الجهة التي رشحته. ومع ذلك، استقال الوزير، ولم تتمكن الجهة التي رشحته من الدفاع عنه، كي لا يحمّلها الناس المسؤولية.
وقبل أيام، حيث بدأت حرب من نوع آخر على مستوى قطاع الكهرباء تمثّلت بإسقاط أبراج الطاقة. وهنا أيضاً استقال وزير الكهرباء بعد مطالبة من قبل زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر. وقبل رئيس الوزراء الكاظمي الاستقالة، ولم يعترض أحد، لأن الإطفاء التام للمنظومة الكهربائية الذي لم يحصل منذ 30 سنة أكبر من الاعتراض على استقالة وزير.

الكاظمي والقافلة

على صعيد آخر، يقترب العراق بخوف من الانتخابات التي تُعدّ مفصلية في حال جرت بنزاهة.
الحكومة تبحث عن أكثر السبل نجاعة لإنجاحها، لكن الباحثين عن فشلها، وربما تأجيلها، كثر. مع ذلك، ووسط مخاوف ومخاطر غير محسوبة، يتأهب العراقيون لتلك الانتخابات المقررة في 10 أكتوبر المقبل. ومع أن الزمن المتبقي هو ثلاثة شهور فقط، ثم مع أن الطريق ليس طويلاً، فهو محفوف بالمخاطر.
هذه المخاطر كثيرة ومقدماتها كانت واضحة، سواءً على مستوى الحرائق بسبب الإهمال أو بفعل فاعل - إن كانت لأبراج الطاقة أو لوزارة الصحة أو مستشفياتها في بغداد والناصرية - أو الخلافات التي بدأت تكبر بين الكاظمي وخصومه. والواقع أن إحدى بوابات تلك الخلافات موضوع الحوار الاستراتيجي مع واشنطن؛ إذ يروم الكاظمي التوجُّه إلى الولايات المتحدة في نهاية هذا الشهر من أجل الاجتماع بالرئيس الأميركي جو بايدن، لبحث «جدولة» الانسحاب الأميركي من العراق. ومع أن الكاظمي ليس مرشحاً للانتخابات، لا ينطبق عليه المثل القائل: «المفلس بالقافلة أمين». رغم كونه أعلن عزوفه عن الترشح، والجميع يعرف ذلك، فإن خصومه يعرفون جيداً أن الانتخابات - في حال عُقِدت وحقَّقت نسبة نجاح جيدة - فهذا سيعني أن الكاظمي نجح في إجرائها وهو ما يجعله منافساً قوياً على ولاية ثانية. وفي مقابل ذلك، يمكن أن يربك المشهد السياسي بحيث تتغير الخريطة السياسية باتجاه تغيير الأحجام باتجاه لا يرضي كثيراً من الأطراف السياسية.
أضف إلى ذلك، أنه رغم الأيام الصعبة التي عاشها العراق حين اندلعت ما بدت أنها «حرب مفتوحة» بين الولايات المتحدة والفصائل المسلحة القريبة من إيران، إثر الضربة التي تلقتها تلك الفصائل على الحدود العراقية - السورية، فإن الكاظمي بدأ يحزم حقائبه للسفر إلى واشنطن، ولكن طبقاً لجدول أولويات مختلف بين بغداد وواشنطن. فرئيس الوزراء العراقي يريد إكمال موضوع جدولة الانسحاب الأميركي على أساس الحوار الاستراتيجي الذي أطلقه إبان حكم إدارة دونالد ترمب. بينما الرئيس الأميركي جو بايدن لديه أولوياته في أسلوب الردع قبل بحث الانسحاب. وفي حين يرتكز موقف بايدن على شبه إجماع داخلي أميركي بين الديمقراطيين والجمهوريين، على صعيد كيفية التعامل مع الفصائل الموالية لإيران في العراق، فإن موقف الكاظمي - الذي كان قبل توجيه الضربة أكثر مرونة - يبدو الآن في وضع مختلف لا يخلو من صعوبات حقيقية. ذلك أن القوى السياسية الشيعية، وفق مصادر مطلعة على فحوى الاجتماع الذي عقده الكاظمي مع زعيم تحالف «الفتح» هادي العامري، أوصلت إلى الكاظمي رسالة تتضمن تغيير مطالب تلك القوى، وفي مقدمتها التحوّل من جدولة الانسحاب إلى الانسحاب الفوري. هذا الموقف بقدر ما هو جديد فإنه محرج للكاظمي. لأن مسألة تغيير الأولويات طبقا لردات الفعل يمكن أن يحمل نتائج خطيرة على مسار الحوار الاستراتيجي بين الطرفين.
الكاظمي، حسب المصادر المذكورة، وعد العامري ببحث هذا الأمر مع الجانب الأميركي. لكن في مقابل ذلك، طبقاً لتصريح مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، الذي حضر مراسم تشييع قتلى الضربة الأميركية، فإنه أعلن أن بلاده «ستتوصل قريباً لاتفاق مع الولايات المتحدة على جدولة سحب قواته». الأعرجي الذي استخدم مفردات أكثر دبلوماسية مما قيل في رسالة العامري للكاظمي، كشف أن «الكاظمي سيزور واشنطن قريباً وسيتم الاتفاق خلال الزيارة على جدولة الانسحاب الأميركي من العراق»، علماً بأن العراق كان قد اتفق مع الولايات المتحدة خلال جولة الحوار الاستراتيجي في أبريل الماضي على «جدولة كاملة» لهذا الانسحاب. وأيضا شكّلت لجان عسكرية عالية المستوى بين الطرفين لغرض الاتفاق على الجدولة.
مع ذلك، فإن الضربة الأميركية بدت جزءاً من استراتيجية أميركية جديدة في التعامل مع تلك الفصائل. وفي هذا السياق، يقول اللواء الركن المتقاعد عماد علو، مستشار «المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب» في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن «الضربة الأميركية ضد الفصائل المسلحة لم تكن في الواقع مفاجئة... بل كان متوقعة منذ أسابيع لجهة الانتقادات التي تعرّض لها الرئيس الأميركي جو بايدن بسبب عدم رد واشنطن على التعرّضات التي استهدفت الوجود الأميركي في عدد من القواعد العسكرية الأميركية بالعراق، لا سيما (فيكتوري) و(عين الأسد)، ومن قبل ذلك قاعدة مطار أربيل». وأردف: «هذه المسألة دفعت إدارة بايدن إلى المطالبة بتغيير تشريع الكونغرس وتفويضه الإدارة الأميركية باستخدام السلاح الفعال للحماية الفعالة، وأعاد الرئيس الأميركي هذه العبارة عدة مرات».
وتابع اللواء علو أنه «بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهور الطيران المسيّر واستخدامه ضد القوات الأميركية أثارا قلق الجانب الأميركي بشكل كبير». وبيّن أن «الإدارة الأميركية كانت تخطط لعملية الرد العسكري منذ عدة أسابيع... نتيجة التصريحات التي صدرت عن قادة ومسؤولين في الفصائل المسلحة... عن أن المواجهة ستكون مفتوحة بين الطرفين، بعد الضربة التي وُجّهت إلى هذه التشكيلات في منطقة القائم العراقية والبوكمال السورية».

في الناصرية... «أم الخرسان» تختزل المأساة
> من بين ضحايا مستشفى الإمام الحسين في مدينة الناصرية، عاصمة محافظة ذي قار بجنوب العراق، امرأة هي أم لأولاد «كلهم خرسان» (لكم) هي معيلتهم الوحيدة. وهذه الأم لم تجد عملاً يساعدها على إطعام أولادها سوى العمل ماسحة للأرض في المستشفى بأجر يومي. والمأساة، أنها عند اندلاع الحريق كانت بين الضحايا الذين قضوا حرقاً داخل ردهات المستشفى المتهالكة أصلاً، لأنها مبنية وفق ما يعرف في العراق بـ«السندويج بنل»... حيث مواد هذا النوع من البناء قابلة للاشتعال. ولقد قضت المرأة حرقاً وبقي أولادها المساكين لا يعرفون الحكاية لا من حيث البداية ولا من حيث النهاية.
من ناحية أخرى، قد يخفف نسبياً من وقع الكارثة على هذه العائلة المنكوبة، أنه تبعاً لإجراءات الدولة العراقية، فإن مَن يموت في مثل هذه الحوادث يُصنّف رسمياً على أنه «شهيد»، وبالتالي، يُمنح راتباً خاصاً مدى حياة مَن يعيلهم. لقد تُوفيت «أم الخرسان» دفاعاً عن لقمة عيش أطفالها القاصرين، لكن موتها فقط كفل لهم حياة نصف كريمة في بلد يطفو على بحيرات نفط وغاز ويمتد فيه نهران من أكبر أنهار الأرض.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.