عبر برنامج إقامة فنية امتد لثلاثة أشهر، استثمر تسعة فنانين شباب أوقاتهم واهتماماتهم ومهاراتهم، مستفيدين من مرشدين متخصصين ليخرجوا بأعمال فنية ممتعة وتحمل رسائل هامة تلمس موضوعات حيوية مثل البيئة والفقر وغيرها من خلال العنوان الشامل «تلاشي الحدود».
ومع انتهاء فترة الإقامة قدم كل من الفنانين التسعة أعمالهم وأفكارهم للجمهور في صالة الأمير فيصل بن فهد في الرياض وأتيحت لي الفرصة للتجول بين المعارض والحديث مع الفنانين.
نشعر خلال الجولة بحالة من الحماس والفخر سواء من فريق معهد مسك للفنون، بداية من الرئيسة التنفيذية للمعهد ريم السلطان إلى فريق العمل وصولاً للفنانين. ومع كل عرض تتبدى أمامنا حقيقة أن هناك فناً شاباً مبشراً يحمل رسائل حب للمجتمع والبيئة وأحلاماً بغد أفضل للبشرية.
الفنان عبد المحسن آل بن علي أحد الفنانين المشغولين بقضية البيئة ودور الإنسان الحيوي في تدميرها، وأيضاً في إنقاذها، يأخذنا في جولة عبر الاستوديو المخصص له في «مساحة» ويشرح لنا تفاصيل مشروعه الفني. يقول إن مشروعه الفني يدور حول «الحديقة وارتباطها بالحالة الإنسانية وكيف نخزن فيها كل طموحاتنا وأفكارنا». يستطرد: «أردت أن أخلق مفهوم الحديقة خارج نطاق الزمن، في العرض لدينا 3 حدائق تمثل فيما بينها الماضي والمستقبل وأخيراً الحاضر، كل واحدة تتحدث عن نباتات حقيقية ومتخيلة، تعتبر حاضنة لتلقي مفاهيم مختلفة».
في القسم الأول من عرض آل بن علي والذي يحمل اسم «حديقة خارج الزمن» حوض مائي ينعكس عليه فيلم فيديو لأشجار المانغروف والتي نبتت وترعرعت بفضل وجود برج لاسلكي أقيم بالقرب من البحر. «العمران تسبب في اختفاء أشجار المانغروف من الطبيعة حولنا، وبالصدفة وجدت الأشجار هنا وسيلة للنمو بسبب وجود البرج اللاسلكي والذي منح للأشجار الحماية، أحببت فكرة برج الراديو المزيف وعلاقته التكافلية مع الأشجار المعروفة بخصائصها البيئية في تنقية الهواء».
في الغرفة التي يقدم فيها مفهوم الحديقة في المستقبل، هنا آثار دمار بيئي متمثلة في شظايا مرايا متكسرة، «أتخيل فترة تحول فيها الرمل إلى شظايا زجاج، بفعل الاحترار المناخي». شظايا المرايا والزجاج رغم دلالتها المؤلمة لا تمنع الطبيعة من أداء عملها، فهنا نرى بعض النباتات التي تنجح في النمو من بين الشظايا، فالطبيعة تجد المخرج دائماً وإن كان بشكل مختلف «قد نفكر بأننا دمرنا الطبيعة ولكنها دائماً تعيش، سنذهب نحن وتبقى هي».
أسأل الفنان عن عمله الثري بالمعنى «عملك يحمل طبقات متعددة، هل تعتقد بأن ذلك سيشتت المتلقي؟» يجيب قائلاً: «بالنسبة لي أحاول دائماً، أنا سعيد بترجمة أفكاري للمشاهد ولكن في نهاية الأمر المشاهد له الحرية في ترجمة أحاسيسه، كثيرون أخبروني أنهم أحسوا بالتواصل الروحي مع العمل وهو الهدف».
يستعرض في الغرفة التالية الحديقة الإسلامية بهندستها: «هنا قطع كثيرة ومختلفة ولكل منها قصة منفصلة ولكنها كلها تتكامل في عكس فكرة الحديقة». في وسط المساحة باب خشبي تقليدي من أحد بيوت الرياض القديمة يتميز بنقوشه التراثية: «وجدت هذا الباب في إحدى الأسواق القديمة. النقوش والتشكيلات الهندسية عليه مستمدة من الطبيعة. كنت مهتماً بعكس فكرتين على جانبي الباب، ففي ناحية هو ذلك الباب التقليدي بـنقوشاته الملونة وفي الجانب الآخر أردت ترجمة أفكاري الخاصة وتجربتي الخاصة مع الطبيعة». نلاحظ أن الفنان استعان أيضاً بقطع صغيرة من السجاد المنقوشة يضفرها في عناصر عمله، فهي على الباب الخشبي وعلى الجدران ضمن تشكيلات عشبية، السجادة الشرقية أيضاً تحمل فكرة الحديقة، وهو ما يجعل دمجها واستخدامها في عمل الفنان أمراً بديهياً.
بشائر الهوساوي...
تأملات في الندرة والوفرة
«كل تراب» جملة تقال للتقليل من الشخص الآخر وإهانته، أثارت في الفنانة بشائر الهوساوي الرغبة في البحث واستكشاف معانٍ مختلفة للجملة. «عبر البحث وجدت بالفعل أن هناك من يأكلون التراب كوجبات غذائية بمزجه مع الزيت والملح لإعطائه الطعم المستساغ». تستخدم الفنانة التراب في تشكيلات جمالية جذابة قد تخفي ظاهرياً قتامة الواقع الذي يضطر بعض فقراء العالم لأكل التراب فعلياً.
من عالم فقير يأكل التراب إلى عالم مرفه يستهلك مشروباً مصنوعاً من طحين أوراق البردي. تمتد أمامنا طاولة أنيقة عليها أطباق وشوكات وسكاكين منسقة بشكل جذاب بصرياً. نرى دوائر بنية قد تبدو مثل التراب ولكنها «نوع من الشاي المجفف» يصنع في الصين ويباع بأثمان غالية جداً.
العرض يجذب الانتباه يخفي ذلك المعنى الذي لا يمكن هضمه عبر واجهة براقة.
أسألها: «لديك عرضان، يتشابهان ويختلفان في الألوان، ما الفرق؟» تقول: «هو نفسه ولكني عملت مقارنة بين (الندرة) و(الوفرة)».
سارة إبراهيم
الفنانة الشابة سارة إبراهيم تدربت على الرقص ودرست في مدرسة الرقص المعاصر في لندن وتأخذنا في جولة عبر عرضها، تقول: «رسالتي للتخرج كانت عن علاقة المنسوجات والذاكرة. هنا درست الأصباغ الطبيعية وكيفية استخراج الألوان والصبغ، وخصوصاً في البيئة السعودية والمجاورة. الألوان والصبغات التي أستخرجها بالنسبة لي تمثل الماضي باعتبارها إحدى الحرف القديمة».
تشير إلى أقمشة قطنية معلقة وملونة باستخدام الألوان الطبيعية، تقول: «داخل هذه المساحة المحدودة أقمشة ملونة معلقة، في هذه المساحة ومع كل قطعة يمر بها المشاهد يمكنه أن يستكشف جانباً مستمداً من البيئة المحلية».
على الأرض تنتثر قشور ثمرات الرمان المجففة، ترد على تساؤل من زائرة إن كان ذلك عرضاً فنياً مختلفاً ولكنها تجيب أنه عمل غير مكتمل «ولكنها كانت جزءاً من البحث، استخدمتها لاستخراج ألوان طبيعية».
«كم من الوقت يستغرق صناعة واحدة من هذه الستائر المعلقة؟» تقول: «قد تستغرق يومين أو أكثر بحسب درجة اللون التي أريدها، كلما كان اللون أغمق استغرق الأمر أطول، وفي الألوان الخفيفة أغمس القماش في اللون مرة واحدة. هي عملية تستغرق وقتاً طويلاً، ولكن بشكل ما أرى أن البطء يكون علاقة خاصة بيني وبين المادة المستخدمة للتلوين».
عبادة الجفري... الفكاهة الحادة
الفنان الشاب عبادة الجفري يقدم مجموعة من الملصقات المرسومة، تتميز بالفكاهة في طريقة الرسم واللعب على العبارات والمعاني، غير أن تلك الفكاهة تخفي خلفها واقعاً قاسياً. فهي تتحدث عن الصناعات التجميلية والغذائية التي تتسبب في تدمير البيئة.
يشير إلى مجموعة الملصقات الضخمة حولنا ويقول: «هذه السلسة أطلق عليها عنوان (ما يتلف ومالا يتلف). وهي أعمال تعلق على النزعة الاستهلاكية وتربطها بانقراض أنواع السلالات الحيوانية وتأثيرات ذلك في المستقبل».
يشير إلى العمل الأبرز ويبدو وكأنه إعلان عن أحمر شفاه، غير أنه استبدل العارضة بأنثى حيوان الأورانجوتان وقد طليت شفاهها باللون الأحمر. يشرح لنا فكرة الرسم «أتحدث عن زيت النخيل وطريقة الحصول عليه والتي تتسبب في تدمير الغابات في العالم لاستخدامه في صناعات متعددة منها المواد التجميلية وبعض المنتجات الغذائية، عكست ذلك في الملصق عبر استخدام الحيوان الأكثر تضرراً من تدمير الغابات واستخداماتنا لمنتجات زيت النخيل، وهو الأورانجوتان (إنسان الغاب)، وهو على قمة الحيوانات المهددة بالانقراض بسبب منتجات زيت النخيل. هنا استخدمت حيوان الأورانجوتان مثل العارضة التي تعلن عن منتج تجميلي الذي تسبب في انهيار بيئتها الأصلية، مع اللعب على أسماء الماركات العالمية التي تستخدم هذه الزيوت ورسالة مكتوبة على طريق الجمل الدعائية تقول: «خسرت موطني بسبب أحمر الشفاه هذا».
ورغم أن الرسم روحه خفيفة وبه من الطرافة ولكنه يعكس حقيقة مؤلمة فخلف الرسالة وبالنظر لعيون الحيوان نرى انعكاساً لأشجار النخيل.
في الرسومات المجاورة رسائل مشابهة تتحدث عن استخداماتنا الواسعة لمنتجات البلاستيك لمرة واحدة لتنتهي في البيئة سواء في الصحاري أو البحار وليستقر بها الأمر في أمعاء الأسماك أو الطيور البحرية أو السلاحف البحرية.