«التصميم الإيطالي» يعيد لبيروت وهجها الثقافي

نظمه مكتب «التجارة الإيطالية» في لبنان

من معرض «يوم التصميم الإيطالي» في بيروت
من معرض «يوم التصميم الإيطالي» في بيروت
TT

«التصميم الإيطالي» يعيد لبيروت وهجها الثقافي

من معرض «يوم التصميم الإيطالي» في بيروت
من معرض «يوم التصميم الإيطالي» في بيروت

لغة الإبداع في عالمي الهندسة والتصميم حضرت في «يوم التصميم الإيطالي» الذي يجري سنوياً في أكثر من مائة دولة، وبينها لبنان. وفي معرض يضم قطع أثاث وديكور ومفروشات موقعة من قبل مجموعة من المهندسين الداخليين في إيطاليا، تجّول الزوار في أركانه يستكشفون آخر خطوط الموضة الإيطالية في التصاميم الهندسية. جرى افتتاح المعرض في مركز السفارة الإيطالية في لبنان، ونظمه مكتب وكالة التجارة الإيطالية في بيروت، بحضور السفيرة الإيطالية نيكوليتا بومباردييري. وألقت هذه الأخيرة كلمة في المناسبة قالت فيها: «منح التصميم قيمة إضافية للموارد الإنسانية والثقافية والطبيعية، وهو يساعد على مواجهة التحديات الحالية التي يشهدها العالم. لطالما اعتمدت إيطاليا استراتيجية تجمع بين التطور العلمي والتكنولوجي والإرث الحرفي والتقاليد». وختمت: «نحن على يقين بأنه في إطار الأزمة الحالية التي يشهدها لبنان، نرى أن التصميم الإيطالي يمكن أن يكون شريكاً مهماً في تطبيق مبدأ إعادة الإعمار بشكل أفضل. تبقى استمرارية إعادة إعمار مدينة بيروت مسألة أساسية، وتقع في صلب المبادرات القائمة لدعم تأهيل المناطق المتضررة من انفجار مرفأ بيروت».
بين عالمي الرقمي والواقعي، جرى افتتاح هذا الحدث الذي إضافة إلى حضور مدير مكتب وكالة التجارة في بيروت كلاوديو باسكوالوتشي، تحدث فيه عبر تطبيق «زوم» الإلكتروني المهندس المعماري الإيطالي المعروف فيديريكو ديل روسو.
واتسمت القطع المعروضة بحداثتها ومظهرها العملي الذي يناسب أسلوب الحياة اليوم بعد الجائحة. مقاعد من الخيزران خاصة بالمساحات الخارجية والحدائق، إضافة إلى أخرى من كنبة وطاولات تمزج ما بين الرخام والقماش المخملي وغيره، توزعت في أرجاء المعرض، تعكس تميز التصاميم الإيطالية في عالم المفروشات والديكور. كما تضمن المعرض مجموعة من أدوات الإنارة المطعمة بالبرونز والملمس الذهبي، مزودة مشاهدها بالأفكار الإبداعية التي تواكب هذه الصناعة.
وأوضح مدير مكتب وكالة التجارة الإيطالية في بيروت كلاوديو باسكوالوتشي أن أهمية إقامة هذا الحدث في لبنان، تكمن في تمسك إيطاليا بالحفاظ على دورها الريادي الثقافي. ويتابع في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «إننا من خلال هذا الحدث ندعم وجه لبنان المضيء، كما أن القطع الفنية التي اختيرت لعرضها هنا صممت من قبل مهندسين إيطاليين على علم مسبق بالذوق اللبناني الرفيع في هذا المجال. وهذه القطع ستستضيفها صالات لبنانية أمثال سيزار دباس وديزاين لاونج وفارا ديزاين سنتر ومجموعة حتي وغيرها ليتعرف إليها اللبناني عن كثب».
ويرى باسكوالوتشي في سياق حديثه أن هذا المعرض يأتي في الوقت، الذي يحاول فيه عدد من اللبنانيين لملمة ما تبقى من منازلهم وشوارعهم ومحلاتهم المهدمة بفعل انفجار بيروت. ومعاً وضمن مشاريع سنخطط لها سوياً، سنحاول إعادة إعمار كل هذا الدمار، ونعيد النبض إلى بيروت وأهلها». وعما إذا هناك من نقاط تشابه بين الذوقين اللبناني والإيطالي فيما خص التصاميم الإبداعية يرد: «كبلدين نقع في نفس المنطقة من المتوسط، ولذلك هناك تفاعل ملموس في هذا السياق، ولا سيما على الصعيد الثقافي، وهو ما يسهل هذا التبادل الإبداعي بيننا».
وبحسب باسكوالوتشي فقد أخذ منظمو هذا المعرض بعين الاعتبار عاملين أساسيين لإقامته في لبنان: «لحظنا في التصاميم المعروضة، عامل التجدد والحداثة مع الحفاظ على الطابعين التقليدي والكلاسيكي. أما العامل الثاني فيدور حول التصميم نفسه بحيث تكمن جماليته في بساطته. فانطلاقاً من عدم التقوقع في خط إبداعي معين جرى تصميم هذه القطع، كي تسهم في تسهيل سبل العيش عند اللبناني».
وعن التغييرات التي تطال التصاميم الإبداعية بعد فترة ركود قسرية عاشتها الكرة الأرضية بسبب الجائحة، يقول كلاوديو باسكوالوتشي لـ«الشرق الأوسط»: «لا بد من ملاحظة تغييرات جمة على جميع المجالات من اقتصادية وبيئية وحتى على العلاقات الاجتماعية بعيد الجائحة التي مررنا بها. من هنا نستطيع أن نلمس على صعيد التصاميم أيضاً تغييراً في تركيبة القطع الفنية، لتتناسب مع أسلوب حياتنا الجديدة. فبعد الجائحة صرنا نوجد بشكل أكبر في البيت، وصار المكان الأكثر أماناً بالنسبة لنا. وهو ما سيدفع بالمهندسين إلى تصميم قطع بسيطة وسهلة الاستخدام، على أن تزودنا بالفرح فنستمتع بها كلما رأيناها. ولذلك ستكون تصاميم تتناسق مع الطاقة الإيجابية ومع الطبيعة ومحيطنا، وهو ما ينعكس أيضاً على المواد، التي تستعمل في هذه التصاميم لتكون أكثر عملية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)