زيارات دبلوماسية ورسمية تُنعش متاحف مصرية رغم الجائحة

سفراء أجانب ومسؤولون يصطحبون عائلاتهم في جولات خاصة

وفد وزراء الإعلام العرب في زيارة للمتحف القومي للحضارة
وفد وزراء الإعلام العرب في زيارة للمتحف القومي للحضارة
TT

زيارات دبلوماسية ورسمية تُنعش متاحف مصرية رغم الجائحة

وفد وزراء الإعلام العرب في زيارة للمتحف القومي للحضارة
وفد وزراء الإعلام العرب في زيارة للمتحف القومي للحضارة

رغم تداعيات وباء «كورونا» السلبية على قطاع السياحة في مصر، فإن ثمة متاحف ومواقع أثرية شهدت انتعاشة خلال الآونة الأخيرة بفضل بعض الزيارات الرسمية والدبلوماسية التي قام بها مسؤولون مصريون بارزون وسفراء أجانب بالقاهرة، ما أسهم في تخفيف وطأة تأثيرات الجائحة التي أدت إلى تراجع الزيارات منذ إعادة فتح أبوابها بعد أشهر الإغلاق في العام الماضي.
ويحظى المتحف القومي للحضارة المصرية بمنطقة الفسطاط (جنوب القاهرة) باهتمام واسع وإقبال كبير من الوفود الأجنبية التي تزور مصر، منذ افتتاحه في أبريل (نيسان) الماضي، حيث استضاف على مدار الثلاثة أيام الماضية عدداً من الزيارات والفعاليات منها؛ الاحتفالية التي تم تنظيمها للمشاركين في الدورة الثامنة للمؤتمر الوزاري لمنظمة التعاون الإسلامي للمرأة والتي استضافتها مصر، والتي حضرتها الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، والسفيرة نبيلة مكرم وزيرة الهجرة والمصريين بالخارج، والدكتورة منال عوض محافظ دمياط والدكتورة مايا مرسي رئيس المجلس القومي للمرأة، والسفيرة ميرفت التلاوي رئيس المجلس القومي للمرأة سابقاً، وكان في استقبالهم فيروز فكري نائب رئيس هيئة المتحف للإدارة والتشغيل. ووفق بيان وزارة السياحة والآثار المصرية أمس، فقد استقبل المتحف أيضا كلاً من وزير العمل العراقي، ووزير الأوقاف السوري بالإضافة إلى استقباله لوفد من ضيوف وزارة الاتصالات والذين شاركوا في إحدى الدورات التدريبية التي نظمتها مصر للأشقاء الأفارقة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وقد تم اصطحاب هذه الوفود في جولة بالمتحف تعرفوا خلالها على مقتنياته المتميزة، معربين عن سعادتهم بما شاهدوه من كنوز أثرية متميزة تعبر عن الحضارة المصرية عبر العصور التاريخية المختلف، والمومياوات الملكية التي تم نقلها من المتحف المصري بالتحرير في موكب مهيب، بحسب الوزارة.
كما زار متحف الحضارة المصرية خلال الآونة الأخيرة، ماجد بن عبد الله القصبي، وزير التجارة والإعلام السعودي، والذي زار المتحف على هامش مشاركته في اجتماعات الدورة 51 لمجلس وزراء الإعلام العرب، ضمن زيارة وزراء الإعلام العرب للمتحف.
وأسهمت زيارات الوفود الدبوماسية في إضفاء قدر من الحيوية على المتاحف في ظل تراجع زيارات الجمهور وإلغاء الأنشطة الثقافية والفنية التي كانت تشكل أهم ملامح الحيوية والتواصل المجتمعي وفق محمد السيد البرديني، وكيل متحف قصر المنيل «جنوب القاهرة» الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «استمرار حرص السفراء الأجانب والوفود الدبلوماسية من العاملين بالسفارات الأجنبية على زيارة المتاحف رغم الجائحة يعطي أملاً في أن تعود الحياة إلى طبيعتها قريباً، ويساعد المتاحف على الصمود في ظل ضعف إقبال الجمهور العام، ورغم أن الزيارات الرسمية تعد قليلة مقارنة بالفترة التي سبقت (كورونا)، فإنها تمثل أيضاً دعاية مجانية وترويج للمعالم الأثرية المصرية».
ومن أبرز السفراء الأجانب الذين زاروا المتاحف المصرية بصحبة زوجاتهم وعائلاتهم أخيراً، السفير الأميركي بالقاهرة، وسفراء كل من ألمانيا، والبوسنة والهرسك، وسفير دولة بيلاروسيا، الذين زاروا المتحف القبطي بمصر القديمة، كما زار السفير أحمد رشيد خطابي، الأمين المساعد بجامعة الدول العربية متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية بصحبة زوجته.
وشهدت منطقة سقارة الأثرية بالجيزة أخيراً زيارة 20 من زوجات السفراء الأجانب والعرب بصحبة زوجة وزير الخارجية المصري سامح شكري، وزوجات عدد من مساعدي الوزير.
ويبلغ عدد المتاحف المصرية 167 متحفاً وفق دراسة حديثة أعدها الباحث الأثري، محمد إسماعيل، نائب مدير مركز توثيق التراث التابع لمكتبة الاسكندرية، يتركز العدد الأكبر منها في العاصمة.
وتتعامل المتاحف المصرية مع الزيارات الرسمية والوفود الدبلوماسية والسفراء وزوجاتهم باعتبارها زيارات مهمة، حيث يكون في استقبالهم مدير عام المتحف، ويتم تنظيم جولات خاصة لهم وفق صباح عبد الرازق، مدير عام المتحف المصري بالتحرير، التي تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الزيارات الرسمية التي تستقبلها المتاحف والمناطق الأثرية نوعان، الأول وفود رسمية قادمة من الخارج للقاء مسؤولين بالدولة، ويكون لديهم رغبة في زيارة بعض المعالم الأثرية، والثاني وفود من الداخل لسفراء أو دبلوماسيين يعملون في سفارات بلادهم بالقاهرة، وفي كل الأحوال نتلقى خطاباً من وزارة السياحة والآثار عن موعد هذه الزيارات، ويكون مدير عام المتحف في استقبالهم، ونخصص لهم عددًا من أمناء المتحف الذين يجيدون لغة بلد الوفد كي يتولوا شرح تفاصيل القطع الأثرية خلال الجولة».
وتشكل زيارات السفراء والدبلوماسيين بحسب عبد الرازق فرصة للترويج السياحي للمتاحف والمعالم الأثرية المصرية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)