إيطاليا تحتفل بالذكرى المئوية لرائد مسرحها الطليعي سترهلر

عمله الأخير عن موزارت أخرجه نيابة عنه بيتر بروك

من أعماله المسرحية
من أعماله المسرحية
TT

إيطاليا تحتفل بالذكرى المئوية لرائد مسرحها الطليعي سترهلر

من أعماله المسرحية
من أعماله المسرحية

بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد رائد المسرح الطليعي الإيطالي، جورجو سترهلر (1921 - 2021)، تقيم وزارة الكنوز الثقافية وعدد كبير من المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، والفرق المسرحية في عموم البلاد، ندوات ومعارض فوتوغرافية، وعروضاً مسرحية، مستوحاة من الأعمال المسرحية التي أخرجها هذا المبدع الكبير، بالإضافة لعدة عروض لأوبرا «هكذا يفعل الجميع» لموزارت، التي أخرجها فنان المسرح الراحل قبل أيام من وفاته، ولم يشاهدها الجمهور على خشبة «المسرح الصغير» في ميلانو، الذي ارتبط باسم سترهلر.
كان المسرحي الإيطالي سترهلر يحلم بكتابة نص مسرحي مطلق يقف، حسب تعبيره، بين السماء والأرض، «نص مفرد ولا شيء يسنده من فوق أو من تحت معلقاً، إلا أنه نص يمتلئ بموضوعه، ولا يسقط في فراغ الحرية، بل يعلق نفسه بنفسه».
لقد أثر هذا المبدع بعمق على حركة المسرح الإيطالي المعاصر، وامتد تأثيره على كل مراكز التجريب في عموم أوروبا؛ فهو ليس مجرد مخرج أو ممثل أو مدير فرقة أو مفكر نظري في المسرح، هو شيء من هذا كله، هو رجل مسرح بالمعنى الشامل للتعبير. وفي كل التساؤلات التي طرحها عن ماهية المسرح، وجد الإجابة مباشرة في قلب التجربة.
عمل في مجال التدريس المسرحي، وكان قريباً من دوائر مثقفي اليسار الإيطالي، وعاملاً في صحفهم ومجلاتهم، وكاتباً ومترجماً لعدد من الدراسات والأعمال المسرحية. ويمكن القول إن سترهلر لم يكن في حياته المسرحية الطويلة يعمل شيئاً إلا عن عمق اختيار، بحيث توالت خطواته الفنية لتشكل معاً صورة اختياره الشامل في الحياة. إن كل تجارب الإخراج المسرحي العالمي صبّها في مجرى واحد متكامل لتسمى باسمه كأسلوب مسرحي عالمي متميز. فقد عكف على بلورة رؤية مسرحية لها طابع الجدة والاختلاف ارتقت إلى مستويات نقدية جادة، وسواء أمالت أعماله نحو هذا البعد أو ذاك من أبعاد الهمّ الإنساني، فهي جميعاً أعمال مستفزة، مقتحمة، مفسرة، مفكرة، تتأرجح بانفجارات نفسية ولغوية عنيفة وقوية، أوصلته إلى أرض مسرحية جديدة وإلى ممارسة شعرية جديدة على المسرح، جمع فيها تقريباً كل تجارب القرن العشرين في أعماله، من ستانيسلافسكي إلى بسكاتور وغروتوفسكي، ومن بريخت إلى بيرانديلو.
ارتبط اسم سترهلر منذ عام 1947 بالمسرح الصغير (بيكولو تياترو) في مدينة ميلانو، ذلك المسرح الذي أُنشئ في البداية بمبادرة من المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، حيث ظهرت بين فترة الحربين العالميتين مبادرات لإصلاح المسرح الإيطالي، ونشطت «المسارح الصغيرة» في العقد الأول من فترة السلام، وفيها استمر ممثلو الجيل السابق من المسرحيين في متابعة نمطية أعمالهم التقليدية، راح العديد من المثقفين يدعو الجمهور المثقف إلى مسارحهم الطليعية. وقدمت في العديد من المدن الإيطالية مسرحيات حاولت حمل المتفرج لنوع من الصدمة، لبلوغ ما وراء قناع الحياة اليومية.
وأكد سترهلر دائماً على قضية استخدام الطقس القائم على الأسطورة والممارسة الشعبية متمثلة بالأداء البلاغي من خلال شعر اللغة، على اعتبار أن المسرح من وجهة نظره هو «فرع من فروع الأدب». وفي كل تجاربه في الإخراج، لم ينتهِ إلى نتيجة محدودة موطدة، إلا أنه أسهم في زيادة قيمة المسرح التعليمية والإمتاعية، وأبرز أعماله المسرحية خلال السنوات الأخيرة من حياته «فاوست»، التي كتبها الشاعر والمفكر الألماني الكبير غوته، والتي صاغ بها نموذج حياة البرجوازية في دورها التقدمي، ذلك النموذج الذي تسامى على محدودية المجتمع البرجوازي، ورسم صورة الشعب الحر في الأرض الحرة.
وكان سترهلر يعتقد أن عملية تقديم هذا العمل الكبير مسرحياً يعد بمثابة مغامرة كبيرة يواجهها المسرح الأوروبي المعاصر، والسبب في ذلك، حسب اعتقاده، هو أن فاوست تعتبر من الأعمال الأدبية الصعبة والطويلة، وهي مزيج كبير من العناصر المختلفة التي تكوّن هذا الأثر الأدبي الخالد، وكذلك فإن الصعوبة تجسدت في كيفية طرحه على خشبة المسرح لتجعله عملاً كونياً يمر بقنوات متعددة تصوغه وتشكله، لتجعله في المطاف الأخير قطعة متناسقة متناغمة تصلح لأن يشاهدها الناس على خشبة المسرح الاعتيادي.
وحول التوفيق بين عملية الإخراج والتمثيل، قال سترهلر لكاتب السطور في لقاء صحافي سابق بعد انتهاء العرض الأخير من المسرحية: «منذ زمن طويل، وأنا أشعر بالمهمة من أجل العودة إلى خشبة المسرح كممثل، ولا أخفي الصعوبة في المزاوجة ما بين الإخراج والتمثيل، خاصة بعد انقطاع سنوات طويلة من ممارسة التمثيل». وذكر أن السبب الذي دفعه لاختيار هذا العمل، اعتقاده بأن «(فاوست) عمل تراجيدي كتب للمسرح، وليس للقراءة وحدها، كما يشاركني بهذا الرأي العديد من النقاد والكتاب في جميع أنحاء العالم، ذلك أن هذا العمل يعالج أسئلة إنسانية دائمة الحضور؛ فهو يناقش بجدلية مأساة البحث عن الحرية والتوزع بين الذكرى والأمل في مستقبل الإنسان الجديد، كما أن (فاوست) لعبت دوراً مهمّاً في التهيئة الفكرية للنظرية المادية في ألمانيا. إنها إذن تمثل النقلة العظيمة التي اكتنزت بها حياة غوته الذي كان يكرر مقولته الشهيرة (الجدير بالحرية كما بالحياة هو فقط من ينتزعها كل يوم)».
من جانب آخر، يرى العديد من النقاد المسرحيين الأوروبيين أن سترهلر هو أفضل من نقل تجربة «مسرح التغيير» التي قادها بريخت على خشبة المسرح، محققاً استقلاليته الفنية المتميزة. ولطالما اعتبر بريخت المعلم الذي كان أول من علمه كيف يمكن أن يصنع فناً مسرحياً مغايراً يعني بالإنسانية جمعاء.
وقد أكد سترهلر في أكثر من مناسبة بأنه تعلم من بريخت كيف يمكن أن تصور الأحداث الاجتماعية في أشكال فنية عظيمة ونموذجية، دون أي إهمال لدور الشخصية الفردية، وذلك لأنه أدرك ومنذ البداية بأن التطور الثقافي لا يسير بتلك الميكانيكية التي تتصورها بعض الأحزاب السياسية.
ولعل أبرز ما يميز سترهلر كمخرج هو عدم رغبته في جعل الممثل يجسد ما يحركه، فهو أي الممثل ليس أداة تابعة له. كان يساعده للوصول إلى قوته الإبداعية وكان يشاركه تلك القوة.
غادر سترهلر الحياة من دون أن يتمكن من افتتاح «مسرحه الصغير»، بعد عملية ترميم استمرت عدة سنوات؛ فقد توقف قلبه عن النبض عن عمر 75 سنة فجر يوم عيد الميلاد عام 1997، دون أن يتمكن من حضور حفل افتتاح المبنى (المسرح الصغير) الذي كافح من أجل أن يراه جديداً ليقدم عليه عطاءاته، وكان آخرها كما كان مقرراً عمله الذي يمتد لساعات طويلة في الإعداد لأوبرا «دون جوفاني» لموزارت، التي أخرجها عوضاً عنه المخرج الإنجليزي بيتر بروك.


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!