أهالي دمشق «يلجأون» إلى شوارعها هرباً من الحرارة

انقطاع الكهرباء يزيد معاناة سكان العاصمة

TT

أهالي دمشق «يلجأون» إلى شوارعها هرباً من الحرارة

مع تزايد أزمة انقطاع التيار الكهربائي في العاصمة السورية دمشق وريفها، وترافقها مع ارتفاع كبير في درجات الحرارة، وجدت أغلبية الأهالي في الشوارع والحدائق العامة ملاذاً يخفف عنها أول موجة حر تضرب البلاد في هذا العام.
وتضرب مناطق دمشق وريفها، منذ بداية الأسبوع الماضي، موجة حر عالية، هي الأولى من نوعها خلال فصل الصيف الحالي، وترافقت مع تزايد ساعات انقطاع التيار الكهربائي، في إطار ما تسميه الحكومة «برنامج التقنين» الذي اعتمدته، والقائم على قطعها لساعات محددة ووصلها لساعات محددة أيضاً، وذلك بعدما استنزفت الحرب المستمرة منذ منتصف مارس (آذار) 2011 الكثير من محطات توليد الكهرباء وأنابيب الغاز ومنشآت نفطية.
وبعدما كان «برنامج التقنين» في دمشق، خلال السنوات الماضية، يقوم على قطع الكهرباء لثلاث ساعات ووصلها لساعتين أو ثلاث ساعات، مع استثناءات لبعض المناطق الراقية في وسط العاصمة، التي تكون فيها عملية القطع أقل من ذلك بكثير، ومع حدوث تراجع في الاستثناءات التي كانت تمنح لتلك المناطق الراقية في دمشق، التي يقطنها المسؤولون وكبار التجار، يلاحظ حالياً عدم وجود «برنامج تقنين» محدد في أغلب أحياء دمشق ومحيطها، مع انقطاع الكهرباء عنها لست ساعات متواصلة، وأحياناً لـ8 ساعات، وبعضها لـ10 ساعات، ومن ثم وصلها لنصف ساعة أو ساعة واحدة في أحسن الأحوال، تتخللها انقطاعات عدة، تمتد الواحدة منها ما بين 10 و15 دقيقة.
وفي ظل هذه الحال، يلاحظ تزايد كثافة المارة في شوارع دمشق الرئيسية والفرعية في فترة ما بعد الظهر، واكتظاظ الحدائق العامة بالأهالي حتى ساعات متأخرة من الليل.
وتؤكد سيدة كانت وأولادها الثلاثة تجلس في إحدى الحدائق شمال العاصمة لـ«الشرق الأوسط»، أنها تقضي معظم الوقت مع أطفالها في الحديقة. وتضيف: «اختنقنا. البيوت ما بينقعد (يُجلس) فيها، نار وملهبة حراقي، هون أحسن، على الأقل في (يوجد) شوية هوا والأولاد بتلعب».
وبينما كان الأولاد يأكلون قطعاً من الخبز «الحاف»، تتابع السيدة: «ما بكفينا الغلاء، كمان (أيضاً) ما في (لا يوجد) كهربا، وحتى لو في كهربا ما عنا (لا يوجد) مراوح، أسعارها غالية»، وتلفت إلى أن الحياة تزداد صعوبة يوماً بعد يوم والعيشة صارت ما بتنطاق».
ومع موجات ارتفاع أسعار المستلزمات المنزلية كافة خلال سنوات الحرب التي تشهدها سوريا، وصل سعر مروحة صغيرة إلى أكثر من 150 ألف ليرة سورية (الدولار الأميركي يساوي حالياً ما يقارب 3150 ليرة، بعدما كان قبل عام 2011 ما بين 45 و50 ليرة)، في حين يصل سعر المكيف ذي النوعية المتوسطة إلى أكثر من مليون ونصف المليون ليرة.
«م. س»، وهو موظف في شركة خاصة، يوضح لـ«الشرق الأوسط» وهو يسير مع عائلته مساءً على رصيف طريق رئيسية في حي غرب دمشق، أنه بالنسبة لمسألة «الشوب» (الحر) في فترة العمل في الشركة، فإنها «أهون من المنزل، لأن الشركة لديها مولدات كهربائية ويجري تشغيل المكيفات والمراوح». لكن زوجته وأولاده في المنزل يعانون كثيراً من مسألة «الشوب»، لعدم تمكنهم من تشغيل المراوح بسبب الانقطاع «شبه التام» للكهرباء. ويقول: «عندما أعود، بيكون البيت متل الحمام، والأولاد يتصبب منهم العرق». ويضيف: «مع ساعات المساء نخرج إلى الشارع حتى نروح عن أنفسنا وتتنفس العائلة».
وسط هذه الحال، يسود أحياء دمشق ظلام دامس معظم فترة الليل، بينما تتحول الأحياء المحيطة بها إلى مناطق «أشباح»، إذ تكاد تخلو الطرقات من المارة، وتغلق الكثير من المحال التجارية بسبب عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل مولدات كهربائية، وارتفاع سعره بشكل كبير في السوق السوداء.
وتشكو أغلبية أصحاب المحال التجارية في دمشق من أن طول فترة انقطاع التيار الكهربائي أثر على عملهم وتسبب لهم بخسائر كبيرة. وشهدت «الشرق الأوسط» عمليات إتلاف مواد غذائية تحتاج إلى تبريد متواصل (لحوم، وأسماك، وفراريج مذبوحة، وألبان، وأجبان) في الكثير من المحال في وسط العاصمة والأحياء المحيطة بها.
ووسط أزمة خانقة في توفر الغاز المنزلي، والانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي، باتت أغلبية الأسر تفتقر لوسائل الطهي، كونها أصبحت تعتمد بشكل رئيسي على أجهزة الطهي الكهربائية. وتقول سيدة لـ«الشرق الأوسط»: «الناس صارت تشتهي الشاي، والماء البارد، وحتى الماء بكل أشكاله، لأن شفاط المياه لا يعمل دون كهرباء». فيما تشكو أخرى «من نفاد الطاقة من شواحن الإنارة وأجهزة الهاتف النقال».
ويتفاقم تدهور الوضع الاقتصادي، وأزمة توفر الوقود (بنزين، ومازوت، وغاز منزلي، وفيول) التي تعاني منها مناطق سيطرة الحكومة بسبب سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية على أغلب آبار النفط والغاز في شمال وشمال شرقي البلاد، والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى على دمشق.
وعزا وزير الكهرباء غسان الزامل، مؤخراً، في تصريح لوسائل إعلام محلية، زيادة عدد ساعات التقنين إلى النقص في مادتي الغاز والفيول، وهو ما يعود إلى «ظروف خارجية قاسية جداً من الحصار الاقتصادي، أو قِدم التجهيزات».
وذكر الزامل أن أعمال الصيانة مستمرة بعد تأمين التمويل اللازم لذلك، وأن ذلك أدى إلى زيادة ساعات التقنين، وأشار إلى «تأمين كميات لا بأس بها من مادة الغاز، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على وضع التقنين»، ووعد بـ«انفراج قادم على صعيد تحسن وضع الكهرباء، وتوجد برامج عمل مستمرة، ونحن نعمل ضمن الإمكانات الموجودة».
وكان الزامل تحدث أمام مجلس الشعب في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن «المعاناة الكبيرة» في تأمين الغاز والفيول لتشغيل محطات توليد الكهرباء، حيث «يصل للمحطات حالياً ما بين 9 و10 ملايين متر مكعب من الغاز، بينما الحاجة الفعلية هي نحو 18 مليون متر مكعب، إضافة إلى الفيول الذي يصل حالياً منه ما بين 5 و6 ملايين متر مكعب يومياً، بينما تحتاج المحطات إلى 10 ملايين متر مكعب يومياً».
وتلقى قطاع الكهرباء في سوريا خلال سنوات الحرب ضربات كثيرة، كان أقواها في 24 أغسطس (آب) الماضي، حين تسبب انفجار استهدف خط الغاز العربي، بين منطقة الضمير وعدرا في ريف دمشق، بانقطاع الكهرباء في أنحاء البلاد كافة.
وأوضح وزير الكهرباء في حكومة تسيير الأعمال في ذلك الوقت، محمد زهير خربوطلي، أن الانفجار هو «السادس من نوعه الذي يتعرض له الخط في المنطقة نفسها».
ويرى الكثير من الأهالي أن الحكومة قد تقدم في المرحلة المقبلة على رفع الدعم عن الكهرباء وزيادة سعر بيع الكيلوواط للمشتركين، للأغراض المنزلية والصناعية والتجارية، بعد تواصل ارتفاع أسعار البنزين والمازوت والخبز والفيول.
وذكر وزير المالية كنان ياغي، أواخر العام الماضي، أن رفع الدعم عن الكهرباء مرة واحدة سيؤدي إلى رفع التعرفة إلى 50 ألف ليرة في حال كان الاستهلاك الوسطي 500 كيلوواط/ساعة، مؤكداً أنه لا يمكن حالياً تحويل الدعم كاملاً إلى مبلغ نقدي وتوزيعه على المواطنين.
وبعدما كانت تلبية الطلب على الكهرباء في سوريا عند مستوى 97 في المائة قبل عام 2011، انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة خلال سنوات الحرب، حيث تشير بيانات رسمية إلى بلوغها أقل من 27 في المائة بسبب محدودية مادتي الفيول والغاز.
ووفق البيانات الرسمية، كان إنتاج محطات توليد الكهرباء في سوريا يبلغ نحو 8 آلاف ميغاواط يومياً قبل اندلاع الحرب، وكانت تمتلك فائضاً من إنتاج الكهرباء تقوم بتصديره إلى دول الجوار، في حين انخفض الإنتاج حالياً إلى ما بين 1500 وألفي ميغاواط يومياً.
وبحسب الخبراء، كانت سوريا ما قبل الحرب تتصدر دول منطقة الشرق الأوسط في مجال القطاع الكهربائي مقارنة بمساحة البلاد وعدد السكان، حيث كانت تمتلك 9707 محطات توليد، وكان نتاجها الأبرز يأتي من محطات حلب الحرارية الأضخم في البلاد.
وقدرت وزارة الكهرباء، أواخر عام 2019، خسائر قطاع الكهرباء بما لا يقل عن 4 مليارات دولار منذ عام 2011. وقالت في تقرير مصور على صفحتها في «فيسبوك»، إن «70 في المائة من محطات التحويل وخطوط نقل الفيول متوقفة نتيجة الأعمال الإرهابية».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.