أهالي دمشق «يلجأون» إلى شوارعها هرباً من الحرارة

انقطاع الكهرباء يزيد معاناة سكان العاصمة

TT

أهالي دمشق «يلجأون» إلى شوارعها هرباً من الحرارة

مع تزايد أزمة انقطاع التيار الكهربائي في العاصمة السورية دمشق وريفها، وترافقها مع ارتفاع كبير في درجات الحرارة، وجدت أغلبية الأهالي في الشوارع والحدائق العامة ملاذاً يخفف عنها أول موجة حر تضرب البلاد في هذا العام.
وتضرب مناطق دمشق وريفها، منذ بداية الأسبوع الماضي، موجة حر عالية، هي الأولى من نوعها خلال فصل الصيف الحالي، وترافقت مع تزايد ساعات انقطاع التيار الكهربائي، في إطار ما تسميه الحكومة «برنامج التقنين» الذي اعتمدته، والقائم على قطعها لساعات محددة ووصلها لساعات محددة أيضاً، وذلك بعدما استنزفت الحرب المستمرة منذ منتصف مارس (آذار) 2011 الكثير من محطات توليد الكهرباء وأنابيب الغاز ومنشآت نفطية.
وبعدما كان «برنامج التقنين» في دمشق، خلال السنوات الماضية، يقوم على قطع الكهرباء لثلاث ساعات ووصلها لساعتين أو ثلاث ساعات، مع استثناءات لبعض المناطق الراقية في وسط العاصمة، التي تكون فيها عملية القطع أقل من ذلك بكثير، ومع حدوث تراجع في الاستثناءات التي كانت تمنح لتلك المناطق الراقية في دمشق، التي يقطنها المسؤولون وكبار التجار، يلاحظ حالياً عدم وجود «برنامج تقنين» محدد في أغلب أحياء دمشق ومحيطها، مع انقطاع الكهرباء عنها لست ساعات متواصلة، وأحياناً لـ8 ساعات، وبعضها لـ10 ساعات، ومن ثم وصلها لنصف ساعة أو ساعة واحدة في أحسن الأحوال، تتخللها انقطاعات عدة، تمتد الواحدة منها ما بين 10 و15 دقيقة.
وفي ظل هذه الحال، يلاحظ تزايد كثافة المارة في شوارع دمشق الرئيسية والفرعية في فترة ما بعد الظهر، واكتظاظ الحدائق العامة بالأهالي حتى ساعات متأخرة من الليل.
وتؤكد سيدة كانت وأولادها الثلاثة تجلس في إحدى الحدائق شمال العاصمة لـ«الشرق الأوسط»، أنها تقضي معظم الوقت مع أطفالها في الحديقة. وتضيف: «اختنقنا. البيوت ما بينقعد (يُجلس) فيها، نار وملهبة حراقي، هون أحسن، على الأقل في (يوجد) شوية هوا والأولاد بتلعب».
وبينما كان الأولاد يأكلون قطعاً من الخبز «الحاف»، تتابع السيدة: «ما بكفينا الغلاء، كمان (أيضاً) ما في (لا يوجد) كهربا، وحتى لو في كهربا ما عنا (لا يوجد) مراوح، أسعارها غالية»، وتلفت إلى أن الحياة تزداد صعوبة يوماً بعد يوم والعيشة صارت ما بتنطاق».
ومع موجات ارتفاع أسعار المستلزمات المنزلية كافة خلال سنوات الحرب التي تشهدها سوريا، وصل سعر مروحة صغيرة إلى أكثر من 150 ألف ليرة سورية (الدولار الأميركي يساوي حالياً ما يقارب 3150 ليرة، بعدما كان قبل عام 2011 ما بين 45 و50 ليرة)، في حين يصل سعر المكيف ذي النوعية المتوسطة إلى أكثر من مليون ونصف المليون ليرة.
«م. س»، وهو موظف في شركة خاصة، يوضح لـ«الشرق الأوسط» وهو يسير مع عائلته مساءً على رصيف طريق رئيسية في حي غرب دمشق، أنه بالنسبة لمسألة «الشوب» (الحر) في فترة العمل في الشركة، فإنها «أهون من المنزل، لأن الشركة لديها مولدات كهربائية ويجري تشغيل المكيفات والمراوح». لكن زوجته وأولاده في المنزل يعانون كثيراً من مسألة «الشوب»، لعدم تمكنهم من تشغيل المراوح بسبب الانقطاع «شبه التام» للكهرباء. ويقول: «عندما أعود، بيكون البيت متل الحمام، والأولاد يتصبب منهم العرق». ويضيف: «مع ساعات المساء نخرج إلى الشارع حتى نروح عن أنفسنا وتتنفس العائلة».
وسط هذه الحال، يسود أحياء دمشق ظلام دامس معظم فترة الليل، بينما تتحول الأحياء المحيطة بها إلى مناطق «أشباح»، إذ تكاد تخلو الطرقات من المارة، وتغلق الكثير من المحال التجارية بسبب عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل مولدات كهربائية، وارتفاع سعره بشكل كبير في السوق السوداء.
وتشكو أغلبية أصحاب المحال التجارية في دمشق من أن طول فترة انقطاع التيار الكهربائي أثر على عملهم وتسبب لهم بخسائر كبيرة. وشهدت «الشرق الأوسط» عمليات إتلاف مواد غذائية تحتاج إلى تبريد متواصل (لحوم، وأسماك، وفراريج مذبوحة، وألبان، وأجبان) في الكثير من المحال في وسط العاصمة والأحياء المحيطة بها.
ووسط أزمة خانقة في توفر الغاز المنزلي، والانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي، باتت أغلبية الأسر تفتقر لوسائل الطهي، كونها أصبحت تعتمد بشكل رئيسي على أجهزة الطهي الكهربائية. وتقول سيدة لـ«الشرق الأوسط»: «الناس صارت تشتهي الشاي، والماء البارد، وحتى الماء بكل أشكاله، لأن شفاط المياه لا يعمل دون كهرباء». فيما تشكو أخرى «من نفاد الطاقة من شواحن الإنارة وأجهزة الهاتف النقال».
ويتفاقم تدهور الوضع الاقتصادي، وأزمة توفر الوقود (بنزين، ومازوت، وغاز منزلي، وفيول) التي تعاني منها مناطق سيطرة الحكومة بسبب سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية على أغلب آبار النفط والغاز في شمال وشمال شرقي البلاد، والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى على دمشق.
وعزا وزير الكهرباء غسان الزامل، مؤخراً، في تصريح لوسائل إعلام محلية، زيادة عدد ساعات التقنين إلى النقص في مادتي الغاز والفيول، وهو ما يعود إلى «ظروف خارجية قاسية جداً من الحصار الاقتصادي، أو قِدم التجهيزات».
وذكر الزامل أن أعمال الصيانة مستمرة بعد تأمين التمويل اللازم لذلك، وأن ذلك أدى إلى زيادة ساعات التقنين، وأشار إلى «تأمين كميات لا بأس بها من مادة الغاز، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على وضع التقنين»، ووعد بـ«انفراج قادم على صعيد تحسن وضع الكهرباء، وتوجد برامج عمل مستمرة، ونحن نعمل ضمن الإمكانات الموجودة».
وكان الزامل تحدث أمام مجلس الشعب في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن «المعاناة الكبيرة» في تأمين الغاز والفيول لتشغيل محطات توليد الكهرباء، حيث «يصل للمحطات حالياً ما بين 9 و10 ملايين متر مكعب من الغاز، بينما الحاجة الفعلية هي نحو 18 مليون متر مكعب، إضافة إلى الفيول الذي يصل حالياً منه ما بين 5 و6 ملايين متر مكعب يومياً، بينما تحتاج المحطات إلى 10 ملايين متر مكعب يومياً».
وتلقى قطاع الكهرباء في سوريا خلال سنوات الحرب ضربات كثيرة، كان أقواها في 24 أغسطس (آب) الماضي، حين تسبب انفجار استهدف خط الغاز العربي، بين منطقة الضمير وعدرا في ريف دمشق، بانقطاع الكهرباء في أنحاء البلاد كافة.
وأوضح وزير الكهرباء في حكومة تسيير الأعمال في ذلك الوقت، محمد زهير خربوطلي، أن الانفجار هو «السادس من نوعه الذي يتعرض له الخط في المنطقة نفسها».
ويرى الكثير من الأهالي أن الحكومة قد تقدم في المرحلة المقبلة على رفع الدعم عن الكهرباء وزيادة سعر بيع الكيلوواط للمشتركين، للأغراض المنزلية والصناعية والتجارية، بعد تواصل ارتفاع أسعار البنزين والمازوت والخبز والفيول.
وذكر وزير المالية كنان ياغي، أواخر العام الماضي، أن رفع الدعم عن الكهرباء مرة واحدة سيؤدي إلى رفع التعرفة إلى 50 ألف ليرة في حال كان الاستهلاك الوسطي 500 كيلوواط/ساعة، مؤكداً أنه لا يمكن حالياً تحويل الدعم كاملاً إلى مبلغ نقدي وتوزيعه على المواطنين.
وبعدما كانت تلبية الطلب على الكهرباء في سوريا عند مستوى 97 في المائة قبل عام 2011، انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة خلال سنوات الحرب، حيث تشير بيانات رسمية إلى بلوغها أقل من 27 في المائة بسبب محدودية مادتي الفيول والغاز.
ووفق البيانات الرسمية، كان إنتاج محطات توليد الكهرباء في سوريا يبلغ نحو 8 آلاف ميغاواط يومياً قبل اندلاع الحرب، وكانت تمتلك فائضاً من إنتاج الكهرباء تقوم بتصديره إلى دول الجوار، في حين انخفض الإنتاج حالياً إلى ما بين 1500 وألفي ميغاواط يومياً.
وبحسب الخبراء، كانت سوريا ما قبل الحرب تتصدر دول منطقة الشرق الأوسط في مجال القطاع الكهربائي مقارنة بمساحة البلاد وعدد السكان، حيث كانت تمتلك 9707 محطات توليد، وكان نتاجها الأبرز يأتي من محطات حلب الحرارية الأضخم في البلاد.
وقدرت وزارة الكهرباء، أواخر عام 2019، خسائر قطاع الكهرباء بما لا يقل عن 4 مليارات دولار منذ عام 2011. وقالت في تقرير مصور على صفحتها في «فيسبوك»، إن «70 في المائة من محطات التحويل وخطوط نقل الفيول متوقفة نتيجة الأعمال الإرهابية».



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.