أنس جابر... نجمة ويمبلدون التونسية أول عربية في ربع نهائي السيدات

بدأت مشوارها في الملاعب مرافقة لأمها... وزوجها ومدرّبها «نصف روسي»

أنس جابر... نجمة ويمبلدون التونسية أول عربية في ربع نهائي السيدات
TT

أنس جابر... نجمة ويمبلدون التونسية أول عربية في ربع نهائي السيدات

أنس جابر... نجمة ويمبلدون التونسية أول عربية في ربع نهائي السيدات

حققت نجمة كرة المضرب التونسية والعربية أُنس جابر (26 سنة) خلال الأسبوع المنصرم إنجازاً تاريخياً، تونسيا وعربياً، عندما بلغت ربع نهائي فردي السيدات في نهائيات ويمبلدون (البطولة البريطانية لكرة المضرب بلندن. وجاء إنجاز جابر هذا في أعقاب سلسلة من الانتصارات حققتها منذ 2010 في العديد من البطولات الدولية من أستراليا، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمغرب، وتركيا... إلى روسيا والبطولة الفرنسية (رولان غاروس) بباريس.
وحقاً، فجّرت انتصارات أنس جابر حملة مساندة غير مسبوقة لها وللرياضيات التونسيات والعربيات في المواقع الاجتماعية، وتصدّرت صورها مع مدربها وزوجها (نصف الروسي) كريم كمون، وأمها سميرة – وهي لاعبة كرة مضرب أيضاً - . وكانت أنس قد بدأت مغامرتها الرياضية بمجرد مرافقة أمها وجمع الكرات لها وللمتبارين معها في ملاعب كرة المضرب وقاعات الرياضة والفنادق السياحية.

وقد بدأ نجم أنس جابر، الطفلة ثم الشابة المولعة بكرة المضرب، مثل أمها، منذ 2007 عبر سلسلة من الانتصارات حققتها على البطلة التونسية نور عباس، ثم على عدد من النجمات العربيات والعالميات الشابات، ثم المحترفات... بما في ذلك البطولتان الفرنسية في 2010 والبريطانية في 2011، اللتان تعدان مع البطولتين الأميركية والأسترالية بطولات «المجموعة الكاملة» (الغراند سلام).

- ابنة الساحل التونسي
ولدت أنس جابر في منطقة «الساحل التونسي»، (إلى الجنوب من تونس العاصمة) موطن رئيسي تونس السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وغالبية كبار المسؤولين في الدولة ورجال الأعمال في البلاد. وأورد توفيق جابر، السفير والمدير العام في وزارة الخارجية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن أنس، ابنة شقيقه رجل الأعمال رضا جابر من مواليد مدينة قصر هلال في محافظة المنستير موطن الحبيب بورقيبة. ثم نشأت وتعلمت في مدينة حمام سوسة، موطن الرئيس السابق زين العابدين بن علي، حيث استثمر أبوها أمواله ومارست أمها رياضتها المفضلة كرة المضرب في قاعات الرياضة بالفنادق السياحية.
هذا، ورغم تمركز أبرز أندية كرة المضرب والرياضات الفردية في العاصمة تونس، «فقد ساهمت المؤسسات السياحية في الساحل التونسي، موطن أنس جابر، وفي جهات أخرى في البلاد في تشجيع الرياضات الفردية واهتمام الأطفال والشباب بها. شمل ذلك كرة المضرب و(الغولف) والرماية والمبارزة...»، على حد تعبير السفير توفيق جابر، الذي نوّه بالدعم الذي لقيته ابنة شقيقه مبكراً من والديها سميرة ورضا معنوياً ومادياً.
وبعدما تألقت أنس عربياً ودولياً خلال السنوات الماضية تضاعف دعم رجال الأعمال ومسؤولي وزارة الشباب والرياضة لها، بينهم عدد من أصحاب الفنادق السياحية في محافظة سوسة (140 كلم جنوبي العاصمة). وأعلن بعضهم، مثل البرلماني والناشط السياسي حسين جنيح تبنّيهم لها، وتحدّثوا في تصريحات صحافية عن «أبوّة معنوية لها «.

- الزوج والمدرّب
إلا أن الدعم الأكبر الذي حظيت به أنس جابر خلال السنوات الخمس الماضية جاءها أساساً من زوجها كريم كمون، النجم الرياضي الذي ولد لأب تونسي وأم روسية، وبدأ مشواره الرياضي في العاصمة الروسية موسكو.
ولقد أعربت أنس جابر على صفحتها في موقع «فيسبوك»، بعد فوزها بلقبها العالمي الأول في مدينة برمنغهام البريطانية الشهر الماضي، عن شكرها كل من آمن بها ودعمها. وخصّت بالشكر مدربيها التونسيين، ونوهت تحديداً بمدربها الفنّي عصام الجلولي، ومدربها البدني زوجها كريم كمون، ورئيسة الاتحاد التونسي لكرة المضرب سلمى المولهي ومساعديها.
كريم كمون يعد، في الواقع، من أبرز لاعبي المبارزة ومدربي اللياقة البدنية التونسيين الشبان الذين اكتسبوا خبرة طيبة في روسيا. ويفسّر جانب من تألق زوجته عالمياً مرافقته لها وإشرافه المباشر على تأمين التمارين التي تضمن تحسين لياقتها البدنية وقدرتها على الصمود أمام منافساتها. وبالفعل، نشرت وسائل الإعلام مراراً صوراً طريفة عن أنس وزوجها كريم في «فواصل تدريب استثنائية» قبيل مقابلاتها في غرفتهما في الفندق. كذلك نجح «الزوج المدرّب» في تأمين دوره عندما وظّفته وزارة الشباب والرياضة التونسية، وسمحت له بالتفرّغ لتدريب زوجته النجمة ومرافقتها.
وكانت قد تباينت المواقف من تمديد تكليف كريم كمون هذه المهمة بعد تألق أنس في بطولة روسيا عام 2018؛ إذ أصدرت وزارة الشباب والرياضة قراراً بإنهاء التكليف، ودعته لتولي وظيفة جديدة في مقر الوزارة. وبرّر البعض داخل الوزارة (جامعة رياضة التنس) القرار بـ«حاجة النجمة الرياضية إلى التفرغ للتدريب الرياضي بعيداً عن تشويش الزوج المرافق». واتهم بعض الإعلاميين من اعتبروهم «غيورين» من أنس داخل اتحاد كرة المضرب التونسي ووزارة الرياضة بالوقوف وراء ذلك القرار. ومن جانبها، اتهمت أنس هيئات تونسية في مرحلة سابقة بالتقصير في دعمها مادياً؛ لأنها أسندت لها دعماً «متواضعاً جداً» قيمته 50 ألف دينار سنوياً (نحو 20 ألف دولار أميركي).
غير أن عدداً من محبّي النجمة الصاعدة والمعجبين بقدراتها، داخل قطاعي الرياضة والإعلام، اعترضوا على قرار إبعاد الزوج المدرب، وشنّوا حملة إعلامية شملت مواقع التواصل الاجتماعي. ونجحت الحملة، بصدور قرار حكومي بالتمديد لكمون، بعد جلسة رسمية في مكتب وزيرة الشباب والرياضة السابقة ماجدولين الشارني. وحسب محرز بوصيان، الرئيس السابق لجامعة كرة المضرب التونسية، أن نجاح أنس جابر بإحراز لقب عالمي في بريطانيا وألقاب دولية كثيرة شرقاً وغرباً مرتبط بتعاون مدربها الفني عصام الجلولي مع مدربها البدني زوجها كريم كمون.

- التفاؤل والأمل... زمن الإحباط
على صعيد آخر، كشفت مئات آلاف التدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي التونسية والعربية بعد انتصارات أنس جابر أخيراً في بريطانيا رغبة من تيار كبير من الشباب والكهول في تونس والعالم العربي في التنويه بـ«خبر مفرح زمن الإحباط والهزائم وخيبات الأمل». وشارك في التدوينات ساسة تونسيون من مختلف المواقع والتيارات، بينهم رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان وزعماء من الائتلاف الحاكم والمعارضة. كذلك، اعتبرت ناشطات حقوقيات تتويج أنس جابر انتصاراً جديداً للمرأة التونسية والعربية «رغم محاولات المحافظين والمتطرفين النيل من حقوقها ومن مكاسبها والتقليل من فرص بروزها». وربط أيضاً خبراء في علم الاجتماع بين انتصارات أنس الرياضية وفوز فتيات بالمراتب الأولى وطنياً في امتحانات الثانويات والجامعات. وأبرزت غالبية وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية التونسية صوراً وفيديوهات كثيرة تبرز البطلة أنس، وقد التحفت بالعلم التونسي، معلنة أنها تهدي انتصاراها وتتويجها والكؤوس التي فازت بها إلى تونس وإلى كل الرياضيات والرياضيين في بلادها وفي العالم العربي، وإلى زوجها كريم وأبويها رضا وسميرة وكل أفراد عائلتها ومدربيها وكل من آمن بها منذ كانت طفلة ثم مشاركة عادية في رياضة «الصغريات والأواسط» (أو «الوسطيات»).

- هديةلشباب «الثورة»
تجدر الإشارة إلى أن أنس وأسرتها كانتا قد اقتحمتا عالم مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام منذ حققت نجمة كرة المضرب التونسية عام 2011 انتصارات فاجأت الرياضيين في العالم والمشاركين في البطولة الفرنسية (رولان غاروس) لفئة الشباب/الأواسط. ومنذ تلك المحطة وصفت وسائل الإعلام العربية والعالمية أنس جابر بـ«أميرة كرة المضرب العالمية الصاعدة»، وصارت توصف بـ«البطلة التونسية والعربية والأفريقية».
هذا، وفاجأ رجل الأعمال رضا جابر، والد أنس، الرأي العام التونسي والعالمي بعد تتويجها في «رولان غاروس» عام 2011، عندما أعلن للصحافيين أن ابنته لم تحقق مجرد انتصار رياضي، بل حققت إنجازاً تاريخياً في ظرف مميز وطنياً ودولياً... فأهدت وهي في الـ16 من عمرها «انتصاراً إلى شباب الثورة التونسية الطموح والشباب العربي». ونوّهت سميرة الحشفي، أم أنس، منذ تتويج 2011، بقدرات ابنتها التي تطوّرت من مجرد «طفلة مرافقة لوالدتها» تشارك أحياناً في «جمع كرات المضرب» إلى لاعبة دولية تحقق انتصارات في دورات عالمية. أما جدة أنس، الحاجة بوراوية بوصفارة، فكان قد نقل عنها في تصريحات صحافية منذ إنجاز حفيدتها في «رولان غاروس» عام 2011، قولها «أنس هي مدللتي التي أثق في نجاحها وتفوّقها. وكنت أتابعها بكل شغف وأدعو ليلاً ونهاراً بأن يوفقها الله، والحمد لله على نجاحها». وفي الوقت نفسه، توقع نبيل مليكة، مدرب أنس في الفئات العمرية الشابة منذ 2011، نجاحها بأن تخوض تجارب دولية أكبر، وفسّر تفاؤله المبكر بما وصفه بعزيمتها الفولاذية وصبرها وإصرارها.

- تتويجات... ونفَس طويل
تطول قائمة تتويجات أنس جابر وانتصاراتها وطنياً وعالمياً قبل بلوغها ربع نهائي ويمبلدون قبل أيام. إذ إنها توّجت في دورة تونس الدولية لكرة المضرب في ثلاث مناسبات (2013 و2014 و2016)، وقبل تلك المحطات وبعدها، توجت في دورات الدار البيضاء (المغرب) وأنطاليا (تركيا) عام 2010. وفي البطولة الفرنسية (رولان غاروس) لفئة الشابات عام 2011.
ثم عام 2017، دخلت سباق أفضل 100 لاعبة محترفة بعد بلوغها الدور الثالث في «رولان غاروس». وفي 2018، وصلت إلى نهائي دورة موسكو الدولية، بيد أنها تعرّضت للإصابة وخسرت اللقب الذي أوشكت أن تفوز به، لكنها حققت أفضل تصنيف في مسيرتها ببلوغها المركز 61 عالمياً.
بعد ذلك، في ديسمبر (كانون الأول) 2019 فازت أنس بجائزة «أفضل رياضية عربية للعام 2019». ثم كانت محطة تتويجها الأكبر عامي 2020 و2021 بين أستراليا والخليج ثم فرنسا وبريطانيا.
بعد هذه المسيرة المتميزة، يتساءل البعض عما إذا كانت أنس جابر ستتمكن من تحسين موقعها في التصنيف العالمي في هذه الرياضة الفردية... أم يتسبب تقدمها في السن نسبياً في انسحابها تدريجياً، مثلما حصل بالنسبة لعدد كبير من زميلاتها وزملائها؟
كائناً ما كان الجواب، لا شك في أن انتصارات أنس جابر، شرقاً وغرباً، أنعشت الأمل في نفوس الشباب التونسي والعربي عموماً، والرياضيين خاصة، وأقنعتهم بأن العزيمة والتعب يمكن أن يحقّقا المعجزات.


مقالات ذات صلة

مكافحة المنشطات: مصير سينر يتحدد خلال العام الجديد

رياضة عالمية سينر تعاطى مرتين مادة كلوستيبول المحظورة  (إ.ب.أ)

مكافحة المنشطات: مصير سينر يتحدد خلال العام الجديد

أعلنت (وادا)  أن محكمة التحكيم الرياضية (كاس) لن تصدر قرارها بشأن الاستئناف في قضية لاعب كرة المضرب الإيطالي يانيك سينر.

«الشرق الأوسط» (مونتريال )
رياضة عالمية ستان فافرينكا يشارك في أستراليا المفتوحة (أ.ب)

«دورة أستراليا»: البطل السابق فافرينكا يشارك ببطاقة دعوة

أعلن منظمو بطولة أستراليا المفتوحة للتنس الجمعة أن ستان فافرينكا كان من بين 9 لاعبين حصلوا على بطاقات دعوة للمشاركة في البطولة.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
رياضة عالمية ستيسي أليستر ستتنحى عن منصب مديرة بطولة أميركا المفتوحة العام المقبل (أ.ب)

أليستر مديرة «أميركا المفتوحة» تتنحى عن منصبها بعد نسخة 2025

أعلن الاتحاد الأميركي للتنس أن ستيسي أليستر مديرة بطولة أميركا المفتوحة ستتنحى عن منصبها بعد نسخة 2025 من البطولة الكبرى وستتولى دوراً استشارياً بالاتحاد.

«الشرق الأوسط» (ميامي)
رياضة عالمية من تجهيزات كرات المضرب في لندن (أ.ب)

اتحاد التنس البريطاني يمنع مشاركة المتحولات لضمان العدالة

قال اتحاد التنس البريطاني الأربعاء إنه أجرى تحديثاً لقواعده لمنع النساء المتحولات جنسياً من المشاركة في عدد من بطولات للسيدات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
رياضة عالمية جانب من مواجهات بطولات التحدي للتنس (رويترز)

زيادة قيمة الجوائز المالية في سلسلة بطولات التحدي للتنس 2025

أعلن اتحاد لاعبي التنس المحترفين الأربعاء جوائز مالية قياسية قدرها 28.5 مليون دولار في سلسلة بطولات التحدي موسم 2025، بزيادة 6.2 مليون دولار عن هذا العام

«الشرق الأوسط» (بنغالورو)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.