هو عالم غريب بلا ريب ويزداد غرابة كل يوم. آخر مستجداته هو الصراع بين السينما والكورونا الذي تجسّده حالة إقبال كبيرة على صالات السينما في تحدٍ تلقائي واضح للوباء الشرس الذي ينبع من ذاته ولا يبدو أنّ أحداً يستطيع السيطرة على معقله.
الدورة 74 من مهرجان «كان» هي جزء كبير من هذا الصراع. كان يجب أن يُقام مهما كانت المخاطر، وأقيم بالفعل. كان عليه أن يقود سفينة العودة إلى الطبيعي والمعتاد وفعل ذلك.
لكن، ليس وحده هو عنوان تلك العودة إلى السينما. صالات فرنسا التي تزيد على 3000 دار عرض سجّلت أعلى رقم إيرادات منذ تفشّى وباء كورونا، وذلك في الأيام الممتدة ما بين الأربعاء 30 يونيو (حزيران) ويوم الأحد الرابع من يوليو (تموز). حسب مجلة «ذا هوليوود ريبورتر» الموثوقة، سجلت صالات السينما مبيع 3 ملايين و500 ألف تذكرة وهو رقم مواز لما كانت الحال عليه في العام 2019.
في بريطانيا، ساهم الجزء الجديد من «سريع وغاضب» (الذي يحمل عنواناً منفصلاً هو F9) في دفع الإيرادات إلى أعلى مستوى لها منذ أشهر بعيدة. في أسبوعين سجل الفيلم 15 مليون دولار. هذا رغم شروط المسؤولين في الحكومة البريطانية التي حدّت من قدرة صالات السينما على الاستيعاب.
وبينما سجلت إسبانيا مبيع 612 ألف تذكرة توازي قرابة 5 ملايين دولار نقداً، تعرف ألمانيا عودة حميدة خاصّة بها، باعت خلالها (في غضون الأربعة أيام الأولى من هذا الشهر) 830 ألف تذكرة. «إف 9» ليس معروضاً هناك بعد، لذا فالمستفيد الأول هو «غودزيللا ضد كونغ».
فحص مخفّف
طبعاً، الأمور لا تسير بلا تخطيط وتصميم. ومهرجان «كان» في دورته غير العادية هذه الأيام، اندفع لتنفيذ خطّة كبيرة تحتوي على خطط عمل كثيرة.
يعرف مثلاً أهميّة أن يبرهن على أنّ عودته ليست مجرد استكمال للدورات السابقة (كان آخرها دورة 2020 المُلغاة)، بل بداية جديدة فاصلة. الكثير من الرهان على الطاولة. النجاح هو الاختيار الوحيد على كثرة المشاكل التي تكفي لإضاعة الجهود وكل الفرص.
إحدى هذه المشاكل هو كيف يتعامل المهرجان مع الوباء المنتشر. للغاية حجز مع مسؤولي مدينة «كان» عيادة للتلقيح وللفحوصات.
كل من يريد مشاهدة الأفلام عليه أن يكون مُلقّحاً. إن لم يكن، فعليه أن يجري اختبار PCR مخفف كل يومين أو PCR كامل كل ثلاثة أيام.
لكن اتصالاً على الـ«فيسبوك» مع أحد زملاء المهنة كشف أنّ الأمور (ربما في اليوم الأول على الأقل) لا تسير حسب المأمول. شكا الزميل من أنّه ما يزال - بعد 6 ساعات من إجراء الفحص - بانتظار النتيجة التي كان من المفترض إرسالها إليه في غضون ساعة أو أقل: «خسرت فيلمين وإذا لم تصلني النتيجة بعد قليل سأخسر فيلماً ثالثاً».
الفحص المخفف (أو السريع كما يطلقون عليه)، يكلّف 50 يورو في كل مرّة ويجريه المرء كل يومين ما يعني أنّه سيصرف نحو 300 يورو خلال الإحدى عشر يوماً وبضع ساعات كل يومين لإجراء الفحص.
كثيرون قرروا عدم الحضور هذا العام للسبب نفسه. في الأساس اعتمد المهرجان آلية استقبال كتلك التي اعتمدتها الحكومة الفرنسية وهي تصنيف دول العالم تبعاً لأقسام كل منها لمجموعة من تلك الدول. القادمون من أوروبا هم الآن النسبة الأكبر من الحاضرين. أولئك المنتمين إلى دول الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية والعديد من الدول الآسيوية وبريطانيا، عليهم اتخاذ مسارات مختلفة للوصول (ثم للعودة).
إذا لم يكن السينمائي أو الصحافي استخدم الجرعة الأولى من التلقيح على الأقل فالحجر مطلوب إثر وصوله. بعض البلدان (كبريطانيا مثلاً) ستفرض حظرها على العائدين من فرنسا.
موسم الجوائز
بخلاف ما سبق، هذه دورة مليئة بالأفلام، والمهرجان في سعيه للبقاء على القمّة بين كل مهرجانات العالم، حريص على تأكيد ذلك سواء برفع عدد الأفلام المتسابقة (22 فيلماً هذا العام، بينما شهدت أعوام سابقة تراجعها إلى 18 أو 19 فيلماً) وتوفير العديد من الأفلام خارج المسابقة في نطاق عروض مفتوحة أو خاصّة وتظاهرات عدّة.
الأهم هو أنّ هذا الحِراك القائم ليس في وارد أن ينتهي بانتهاء الدورة ذاتها ورجوع كل من حضر إلى بيته وعمله. فمن خلال إقامة هذه الدورة النشطة في هذا الشهر، عوض الموعد التقليدي في مايو (أيار)، يضع «كان» نفسه قائداً لمجموعة المهرجانات المتتابعة. للإيضاح هنا، وجود المهرجان الفرنسي في الشهر الخامس أبعده عن المهرجانات الكبيرة من حوله. كان على بعد قرابة ثلاثة أشهر من برلين وعلى بعد شهرين من لوكارنو وثلاثة أشهر من فنيسيا. الآن هو في الشهر السابع عند انطلاق النصف الثاني من مهرجانات العالم. النصف الذي يبلور ما يُعرف بـ«موسم الجوائز».
وجوده بعيداً عن الزحام، خدمه على نحو أقل، عندما ننظر إلى عدد أفلامه التي استطاعت التوجه إلى الأوسكار الأميركي بعد عرضها في «كان» في السنوات الأخيرة. غالبية الأفلام الأجنبية الفائزة بالأوسكار خلال السنوات السبع الماضية من عروض مهرجان فنيسيا الأقرب، زمنياً إلى موعد الأوسكار المُقام في وسط موسم الجوائز ما أتاح لأفلامه الانتقال بسلاسة من المهرجان (الذي يقام في أواخر الشهر السابع والأسبوع الأول من الشهر الثامن) إلى العروض الاحتفائية السنوية في الولايات المتحدة التي يتوّجها الأوسكار.
وجود «كان» في موقعه الجديد (يؤكد مسؤوليه أنّه وجود استثنائي وأنّه سيعود إلى موقعه السابق) يجعله لاعباً أكبر من المعتاد في موسم الجوائز. لا عجب أنّه اختار فيلماً فرنسياً ناطقاً بالإنجليزية ومن بطولة الأميركي آدم درايفر والفرنسية ماريون كوتيار للافتتاح.
«أنيت»
الفيلم هو «أنيت» للمخرج الفرنسي ليوس كاراكس الذي يطمح، كما «كان» لإيصال الفيلم إلى رواج احتفائي أوسع بعد نهاية المهرجان. هذا بالطبع مع رغبته الطبيعية في استحواذ واحدة من جوائز المهرجان الكبرى.
الفيلم هو ممارسة في الغريب والجانح من الأحداث وشخصياتها كما درجت عادة المخرج في بعض أفلامه السابقة (آخرها ما يزال «هولي موتورز»، 2012)، يدور الفيلم الجديد حول «ستاند أب كوميدي» (درايفر) الذي يبذل الكثير في سبيل النجاح، لكنّه ينظر إلى صديقته آن (كوتيار) نظرة حسد كون لديها شعبية أكبر بكثير من شعبيّته. هو يُضحك الناس وهي تُبكيهم بغنائها المؤثر، والفيلم غنائي في قسم كبير منه.
لا يبدو أنّ الفيلم حظي بالتقدير ذاته الذي حظي به فيلمه السابق قبل عشر سنوات. ردّات فعل النقاد الفرنسيين كانت متفاوتة. ردات فعل الأميركيين كانت جامعة على انتقاد ما رأوه «ضحلاً» و«مسطّحاً» و«أحداث غير مقنعة».
كاراكاس زبون قديم لمهرجان «كان»، إذ سبق له وأن عرض فيه خمس مرات من عام 1984، عبر «صبي يقابل فتاة» (خارج المسابقة)، من ثمّ «المنزل» (1997 - خارج المسابقة)، فـ«بولا إكس» (المسابقة - 1999)، و«طوكيو» (قسم «نظرة ما» سنة 2008) وبعدها «موتورات مقدّسة» (2012).
مثل أفلامه هناك من يقدّره عالياً بلا أسقف، وهناك من لا يرى فيه جهوده، إلّا المتغرب عن التقليد والبعيد عن السينما الجيدة فعلياً. ما هي هذه السينما؟ هذا سؤال يطول شرحه وله أكثر من جواب.