مشهد سياسي متحرك في تونس

وسط دعوات لإقالة الرؤساء الثلاثة

مشهد سياسي متحرك في تونس
TT

مشهد سياسي متحرك في تونس

مشهد سياسي متحرك في تونس

تؤكد مؤشرات عديدة في تونس أن المشهد السياسي مقبل على تغييرات عميقة، من المقرّر أن يعجل بها الإعلان عن «تطوّر إيجابي» في علاقة رئاسة الجمهورية بكل من الحكومة والبرلمان، بما يضع حدا لحوالي عام من التوتر وتبادل الاتهامات.
وعلى الرغم من تصعيد عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري وبعض حلفائها في المعارضة من انتقاداتهم للغالبية البرلمانية والسياسية التي تحكم البلاد، فإن تحركات الكواليس تكشف بوادر «توافقات جديدة» قد تؤدي إلى تشكيل «حكومة سياسية» تنفتح أكثر على المعارضة والنقابات والخبراء المستقلين. ولقد صدرت الرسائل الأولى عن كون «التغيير قادم» عندما تزامن تصعيد الأطراف السياسية والنقابية المتصارعة لهجتها ضد رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة مع اجتماعات «رفيعة المستوى» ناقشت سيناريوهات «حلحلة الأزمة»، بما في ذلك، عبر تشكيل حكومة بديلة عن الحكومة الحالية التي لم يباشر 11 من أعضائها مهامهم رسمياً بسبب «فيتو» مارسه ضدهم الرئيس قيس سعيِّد.

لعل أخطر تصعيد سجل على الساحة السياسية التونسية منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، مطلع 2011، أن قيادة نقابات العمال - تحديداً «الاتحاد العام التونسي للشغل» - ، التي تلعب دوراً سياسياً كبيراً جداً في تونس، دعت إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها، وسط مطالبات بإقالة الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والحكومة والبرلمان) و«إعادة العهدة إلى الشعب».
لم تعلق رئاسة الجمهورية ولا رئاسة البرلمان ولا رئاسة الحكومة على هذه الدعوات، رغم الحملة التي شنتها قنوات إذاعية وتلفزيونية ووسائل إعلام محلية ودولية حول ما وصفته بـ«سابقة» مطالبة النقابات لرئيس الجمهورية وللبرلمان بالتنحّي.
وفي هذه الأثناء، حذّرت أطراف سياسية عديدة من مخاطر «القطيعة والصدام» بين القيادة النقابية والرؤساء الثلاثة إثر الانتقادات الحادة التي وجهتها لهم أعلى سلطة في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بين مؤتمرين (الهيئة الإدارية) في بلاغ رسمي، تحضيراً لمؤتمر استثنائي من المقرّر أن تعقده المركزية النقابية قريباً.
في المقابل، رحّبت قيادات من أحزاب المعارضة، مثل الشعب والدستوري الحر والتيار، بالدعوات إلى «تنظيم انتخابات مبكّرة»، وأورد فتحي العيادي الناطق الرسمي باسم حزب حركة النهضة (الإسلامي) البرلماني أن حزبه «مستعد لمثل هذه الانتخابات».

- استفتاء شعبي...
مع هذا، فإن معظم خبراء القانون الدستوري في البلاد، بينهم الأكاديمي كمال بن مسعود والعميد السابق لكلية الحقوق رافع بن عاشور، استبعدوا تنظيم انتخابات مبكّرة من دون حصول «توافق سياسي» على أعلى المستويات يؤدي إلى تعديل القانون الانتخابي والدستور. واستدل هؤلاء بكون الدستور الحالي لا يخوّل لأي جهة سياسية، بما في ذلك رئيس الجمهورية أو البرلمان، إلغاء نتائج انتخابات 2019 والدعوة لانتخابات مبكّرة.
من جانبها، أوضحت الخبيرة القانونية الجامعية منى كريم أن الدستور يسمح لرئيس الجمهورية بحلّ البرلمان والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها في «حالات نادرة، منها عدم حصول رئيس الحكومة الذي رشحه على تزكية الأغلبية البرلمانية مرتين متعاقبتين».
في حين رأى فتحي بالحاج، الوزير السابق والقيادي في حزب الشعب المعارض، والبرلماني فتحي العيادي، الناطق الرسمي باسم حزب حركة النهضة، أن «تنظيم انتخابات جديدة قبل تعديل القانون الانتخابي سيفرز المشهد السياسي نفسه تقريباً». ولذا، دعا عدد من النشطاء السياسيين، بينهم الوزيران السابقان محسن مرزوق وكمال الجندوبي وعميد المحامين السابق شوقي الطبيب، إلى تنظيم «استفتاء شعبي» حول تغيير طبيعة النظام السياسي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. وأطلق مجموعة من النشطاء اليساريين السابقين مبادرة «صمود» بهدف جمع عشرات آلاف تواقيع المواطنين الذين يدعمون تنظيم «الاستفتاء الشعبي».

- الرئاسة مدى الحياة؟
غير أن جلّ قادة الأحزاب الحاكمة والمعارضة، بما فيهم حمّة الهمّامي زعيم حزب العمال الشيوعي، والوزير السابق الدكتور رفيق عبد السلام، أعلنوا بوضوح معارضتهم لما نسب للرئيس قيس سعيّد ومناصرين له من دعوة إلى تنظيم «استفتاء شعبي» حول التخلّي عن «دستور الثورة» الصادر عام 2014 والعودة إلى دستور 1959، الذي انتقده معظم السياسيين منذ 2011 واتهموه بـ«التشريع للاستبداد والحكم الفردي والرئاسة مدى الحياة». وللعلم، نسب أمين عام نقابات العمال نور الدين الطبوبي للرئيس سعيّد، بعد مقابلات خاصة معه، أنه يفكر «في تنظيم استفتاء للعودة إلى دستور 1959» بحجة أن الدستور الجديد «قيّد صلاحيات رئيس الجمهورية وكرّس تضارب الصلاحيات بينه وبين رئيس الحكومة من جهة والبرلمان من جهة ثانية».
كذلك، نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية صوراً وفيديو عن اجتماع عقده قيس سعيّد مع البرلمانية السابقة والناشطة القومية العروبية مباركة البراهمي يعرض فيها صفحات من جريدة «العمل» الناطقة باسم الحزب الحاكم عام 1959 تنوّه بتصريحات الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عن دستور يونيو 1959. وأثار نشر تلك الصور والأخبار في مزيد من الانتقادات للرئيس سعيّد وبعض مستشاريه مع اتهامهم بـ«التراجع عن المكاسب الديمقراطية في دستور 2014».

- استشارة... وليست قانوناً
ولكن بعض الخبراء المتخصصين في القانون الدستوري، بينهم الأكاديمي والخبير القضائي الدولي هيكل بن محفوظ، طالبوا بـ«إخراج البلاد من أزمته السياسية ومن دوامة الصراعات حول الصلاحيات بين كبار المسؤولين في الدولة عبر استفتاء شعبي استشاري يدعو له رئيس الجمهورية». وأوضح هيكل بن محفوظ في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «دستور 2014 حدد مجالات تنظيم الاستفتاء العام بالقضايا التي لديها علاقة بملفات حقوق الإنسان، لكنه لا يمنع رئيس الدولة من الدعوة إلى استفتاء عام استشاري بما في ذلك حول التعديل الجزئي للنظام السياسي. واعتبر بن محفوظ أن «الاستفتاء الاستشاري ليس مُلزماً» لكنه يمكن أن يساعد صناع القرار على حلحلة الملفات وإخراج البلاد من (الدوامة) و(الدوران في حلقة مفرغة)».

- صلاحيات رئيس الدولة
في المقابل، تعالت في الفترة الماضية دعوات مسانِدة لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب البرلمان والحكومة.
وصدرت مثل هذه الدعوات بالخصوص عن وزيري العدل والتعليم العالي قبل 2011 الصادق شعبان والبشير التكاري، اللذين اعتبرا أن «الدستور الحالي يسمح لرئيس الجمهورية بإعلان إجراءات طوارئ عندما يكون الأمن الوطني مُهدداً، بما في ذلك عبر إجراءات استثنائية قانونية توسّع صلاحياته، وتحدّ من دور البرلمان والحكومة اللذين شلتهما الصراعات السياسية والنزاعات الحزبية والشخصية». ومن بين المفاجآت أنه كان من بين من دعوا إلى توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية الوزير السابق والقيادي المنشق عن حركة النهضة لطفي زيتون. إذ انتقد زيتون البرلمان والحكومة و«كامل المنظومة السياسية الحاكمة منذ 2011» مراراً، ثم التقى الرئيس سعيّد في قصر قرطاج، ودعا إلى «احترام مقام رئيس الجمهورية وتوسيع دور مؤسسة الرئاسة بهدف إنقاذ البلاد من أزمتها».
وكان زيتون أعلن عن موقف مماثل عندما برزت خلافات بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد - الذي كان حينذاك متحالفاً مع قيادة حركة النهضة ، وكان زيتون من الأقلية «النهضوية» التي انحازت إلى قصر قرطاج في صراعه مع الشاهد وحكومته.

- وساطات... واتفاق
وبموازاة التصريحات النارية ورفع سقف المطالب في الخطابات النقابية والسياسية، أكدت مصادر مسؤولة من عدة أحزاب وفي مصادر صنع القرار أن تونس مقبلة على مرحلة جديدة من «التوافق السياسي» تبدأ بحسم الخلافات بين قصري رئاسة الجمهورية والبرلمان من جهة... وبين قيس سعيّد وراشد الغنوشي وبعض المقرّبين منه من جهة ثانية.
وبدأ تغيير المسار بعد الإعلان عن جلسات حوار وتشاور سياسي عقدها الرئيس سعيّد مع عدة شخصيات دبلوماسية وسياسية بينها لطفي زيتون ومع صديقه القديم والزعيم اليساري السابق رضا شهاب المكَي، المعروف بلقب «رضا لينين». وبعد ذلك بأيام عقد سعيّد اجتماعا على انفراد لمدة ساعة ونصف الساعة، كان الأول من نوعه منذ العام الماضي، مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي، الزعيم التاريخي لحزب حركة النهضة.
وحسب مصادر عديدة، أسفر الاجتماع عن «توافق شامل» على تسوية الأزمة السياسية الحالية، بما في ذلك عبر احتمال إعلان تعديل حكومي واسع، واستبعاد الوزراء الذين اعترض عليهم سعيّد منذ 6 أشهر بعد الحديث عن «شبهات فساد» تحفّ بهم.

- انهيار «الحزام السياسي»؟
في هذه الأثناء صدرت عن قياديين في حزب قلب تونس، بينهم البرلماني أسامة الخليفي، انتقادات للتقارب بين حليفهم رئيس البرلمان وحزبه مع الرئيس سعيّد وحلفائه أعضاء «الكتلة الديمقراطية» في البرلمان (حزبا الشعب والتيار). وحذّر عدد من نواب «الحزام البرلماني والسياسي» للحكومة من تصدّع الائتلاف الحاكم في حال «تلويح» الغنوشي وقيادة النهضة «بإمكانية» التنازل عن رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي، الذي يحظى بدعم عشرات النواب المحسوبين على أحزاب خرجت من رحم الحزب الحاكم قبل 2011... أي التجمع الدستوري الديمقراطي.
وبعد الإفراج عن زعيم حزب قلب تونس رجل الأعمال نبيل القروي، الذي نافس قيس سعيّد في الجولة النهائية من انتخابات 2019، تعالت مجددا دعوات إلى تشكيل «تحالف سياسي جديد» يشمل مَن يوصفون بـ«الحداثيين والليبيراليين» ضد خصومهم «الإسلاميين» أي نواب حزب حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحلفائهما. وإذا ما قام هذا «التحالف» يمكن تشكيل حكومة جديدة برئاسة المشيشي يدعمهما حزب عبير موسي الدستوري، وقد يدعمها قصر قرطاج (الرئيس سعيّد)، تتعهّد في الكواليس بغلق الملفات المالية والقضائية التي تسبّبت في إيقاف نبيل القروي مرتين عام 2019 وهذا العام، وإصدار قرارات بمصادرة كل أمواله وممتلكاته مؤقتاً.
غير أن التصريحات المتفائلة التي صدرت عن شخصيات عرفت بـ«تشددها» مثل وزير الصحة السابق ونائب رئيس حركة النهضة عبد اللطيف المكي، تتزامن مع بوادر عودة التجاذبات السياسية مجدّداً. ولذلك، فإن تونس تجد نفسها مرة أخرى وهي «تدور في حلقة مفرغة» مع مسلسل «خطوة إلى الأمام.. خطوة إلى الوراء» على حد تعبير الإعلامي والأكاديمي المُنجي المبروكي. بل توشك الأوضاع أن تتعقد أكثر سلباً، بعد دخول مجموعات سياسية محسوبة على «أقصى اليسار» على الخط، وعودتها إلى اتهام قيادة حزب حركة النهضة بالتورّط في العنف والإرهاب.. بما في ذلك قتل المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي عام 2013.
ولقد لوّح المحامي رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن بلعيد والإبراهيمي، خلال مؤتمر صحافي جديد عقده مع رفاقه في الهيئة بالكشف عن «تورّط قضاة ومسؤولين كبار في الدولة منذ 10 سنوات في قضايا العنف والإرهاب»، بينهم عدد من المسؤولين في الحكومة التي سيطرت عليها شخصيات قيادية من حزب حركة النهضة عامي 2012 و2013 برئاسة المهندسين حمادي الجبالي وعلي العريّض.
في الوقت ذاته، بدأت جمعيات نسائية وحقوقية محسوبة على أحزاب يسارية تونسية حملة إعلامية شديدة اللهجة ضد مَن تصفهم بـ«الأصوليين» و«المتطرفين» الذين اتهمتهم بالنيل من حقوق المرأة والإساءة إلى زعيمة الحزب الدستوري عبير موسى ورفاقها.
أيضاً تشكلت مجموعات من الجمعيات والأحزاب التي تنظم تحركات تطالب بـ«إسقاط حكومة هشام المشيشي والبرلمان وكامل المنظومة السياسية التي أفرزتها انتخابات 2019»... وذلك عبر تشجيع «الاحتجاجات الشبابية» و«المظاهرات في الأحياء الشعبية» ردا على غلاء الأسعار وتضخم نسب البطالة والفقر والجريمة. وهي آفات تحمّل هذه المجموعات مسؤوليتها عن ـ«إخفاقات السياسيين» والمضاعفات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة كوفيد - 19 وقرارات الطوارئ الحكومية بعد إغلاق الحدود والشلل الذي أصاب قطاعات عديدة من بينها السياحة والصناعات التقليدية والخدمات.
في كل الحالات يتضح أن المشهد السياسي في تونس يعيش اليوم فترة من التحرك النشط: بعض الأفرقاء يدفعه نحو دعم الائتلاف البرلماني السياسي الحالي عبر المصالحة مع قصر قرطاج (أي رئيس الجمهورية) وبعض الأحزاب المعارضة القريبة منه، في حين يسعى البعض الآخر إلى «تفجير التناقضات» داخل هذا الائتلاف تمهيدا لتشكيل تحالفات جديدة، من شأنها أن تؤثر في مسار الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة سواء نظمت هذه الانتخابات في موعدها خلال عام 2024 أو تقرر إجراؤها مبكرا موفّى العام الحالي أو مطلع العام المقبل.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.