لبنان يتألق بعد غياب في احتفالات جائزة «موريكس دور»

في عيدها الـ20 تستذكر فنانين رحلوا بسبب «كوفيد ـ 19»

لبنان يتألق بعد غياب في احتفالات جائزة «موريكس دور»
TT

لبنان يتألق بعد غياب في احتفالات جائزة «موريكس دور»

لبنان يتألق بعد غياب في احتفالات جائزة «موريكس دور»

رغم الأجواء القاتمة المسيطرة على الحالة العامة في لبنان من اقتصادية وسياسية وبيئية وغيرها، فإن بصيص أمل على الصعيد الفني يلوح في الأفق. قريباً وبعد غياب دام نحو سنتين، يعود الاحتفال بجائزة «موريكس دور». ولكن هذه المرة ستختلف طريقة إحيائه بحيث ستتسم أجواؤه بالبساطة والاختصار.
الغياب عن الساحة كان قسرياً بسبب أزمات متلاحقة أصابت المشهد اللبناني. اليوم قرر كل من الطبيبين فادي وزاهي حلو، وهما منظما الحفل إعادة لبنان إلى الضوء رغم كل شيء. هذه السنة سيحتفلان بمناسبة مميزة ألا وهي مرور 20 عاماً على تأسيسهما للـ«موريكس دور».
متشابكة وغير واضحة بعد معالم وتفاصيل الاحتفال وكيفية تنظيمه، لكن الأخوين حلو متمسكان بإقامته تحت عنوان «الأمل رغم الألم»، فهما يرغبان في الإبقاء على بيروت عاصمة لا تموت ولا تستسلم لليأس. ولذلك بدآ في الاستعداد للاحتفال، مع لجنة فنية ضخمة تختار الفائزين وقد تم تجديدها مع إضافة عناصر فنية عليها. فيشارك فيها هذا العام كل من الفنانين غسان صليبا وأروى وروميو لحود، والكاتب شكري أنيس فاخوري. وضع اللمسات الأخيرة بات قريباً على حفل ستشهده العاصمة في شهر أغسطس (آب) المقبل.
ويقول الدكتور زاهي حلو، في حديث لـ(«الشرق الأوسط»): «لم نحدد بعد تاريخاً نهائياً للحفل ولا المكان الذي سيستضيفه. ولكننا في صدد دراسة كل حيثيات الحفل ومن المرجح إقامته في بيروت، كما أننا وصلنا إلى خواتيم عملية التصويت للأعمال الفنية الأفضل، إذ انطلقنا حالياً بالمرحلة النهائية منها بعد أن بدأنا بها منذ نحو أسبوعين عبر صفحاتنا الإلكترونية». ويتابع «هذه السنة ستكون خيارات لجنة الـ«موريكس» صعبة، إذ هناك تراكم أعمال فنية رائعة شهدناها على مدى العامين المنصرمين. والجوائز ستطال أعمال سنوات 2019 و2020 و2021. وكلنا نعلم أن السنوات الثلاث زخرت بأغنيات ومسلسلات على المستوى المطلوب».
يتحدث دكتور زاهي حلو عن الحفل المرتقب بحماس وبغصة في الوقت نفسه؛ فهو يعلم في قرارة نفسه أن العين بصيرة واليد قصيرة. لا رعاة للحفل ولا ميزانية ضخمة تسمح لهما بإقامته كما كان دائماً. ويقول في حديثه لـ(«الشرق الأوسط»): «كل ما نعرفه هو أننا سنقيم الحفل رغم كل الصعوبات المادية التي تواجهنا، أضيفي إليها حالة غير مستقرة يعيشها لبنان على جميع الأصعدة. الجميع متحمس لإعادة لبنان إلى خريطة الثقافة والفن. المجهود موجود، كما أننا نمسك بأيادي بعضنا ونشد عليها، لنؤكد على إصرارنا وتمسكنا بتنظيم الحفل».
لن يتسم حفل «موريكس دور» هذه السنة بالفخامة وبالسجاد الأحمر وبمشهدية أزياء «هوت كوتير» التي كان ينتظرها مشاهد الحفل. ستغيب عنه مظاهر حفلات الـ«Gala» التي تتسم بها عادة احتفالات الـ«موريكس دور». فالاختصار والبساطة سيكونان هما العنوان الرئيسي.
ويعلق دكتور حلو: «طابع الوطنية سيسوده من دون شك لأن ما مررنا به وما شهدته بيروت يستحق التكريم. ومن عنوان الحفل (الأمل رغم الألم) يمكننا أن نتوقع برنامجاً يدور في فلك الوطن أولاً. سنقوم بما تمليه علينا واجباتنا تجاه مدينتنا. فالحفل هو كناية عن رسالة نبعث بها إلى العالم أجمع لنقول إن بيروت باقية».
وعن البرنامج المنتظر تقديمه في الحفل يرد دكتور زاهي حلو: «الاهتمام الأكبر سيكون بالمحتوى وبذكرى مرور 20 عاماً على انطلاقة الجائزة. سيتضمن الحفل مفاجآت جميلة غير منتظرة، وضيوفاً يمرون معنا لأول مرة. الأجواء ستكون مختلفة تماماً عن الدورات السابقة، كما نخصص تكريمات ولفتات لفنانين رحلوا عنا بسبب إصابتهم بـ(كوفيد - 19)؛ فهؤلاء يستحقون منا هذا التكريم».
جائزة الموركس دور ستتوزع على العمل الأفضل في فئات مختلفة بينها ما يتعلق بالأعمال الغنائية ونجومها من عرب ولبنانيين. وكذلك تشمل المسلسلات العربية والمحلية، وبينها أفضل ممثل عربي وتدور بين ألكسندر علوم (مسلسل أم بديلة) وقصي الخولي (خمسة ونص) وأحمد عز (هجمة مرتدة) وباسل خياط (الكاتب وحرب أهلية). وكذلك نجمة الغناء وتتنافس عليها كل من إليسا وعبير نعمة وكارول سماحة ونانسي عجرم وغيرهن. كما فئة أفضل فيلم سينمائي لبناني وتتنافس عليها «بالصدفة» لباسم كريستو و«ساعة ونص وخمسة» لنديم مهنا، و«جدار الصوت» لأحمد غصين وغيرها. ومن المسلسلات اللبنانية المتنافسة «2020» و«أولاد آدم» و«الباشا» و«الهيبة الرد» و«الهيبة الحصاد» و«أسود» وبالقلب» و«دانتيل». إضافة إلى جوائز أخرى مثل أفضل فيديو كليب، وأفضل أغنية عربية وجائزة الجمهور، وأفضل شارة مسلسل، وأفضل أغنية لبنانية.
ويعلق دكتور حلو: «حاولنا اتباع مبدأ الاختصار بكل شيء، فكلما طالت مدة الحفل كانت كلفته أكبر. وجميع الأعمال المرشحة للجوائز تبدأ من عام 2019 لغاية شهر مايو (أيار) من عام 2021 ولذلك المنافسة ستكون حامية. ولكن هدفنا الأول والأخير هو توجيه تحية إلى بيروت وتحويل الأنظار إليها، من خلال عمل فني يؤكد على لبنان ودوره الثقافي الريادي».
وتعد الـ«موريكس دور»جائزة لبنانية سنوية بدأت أول مرة في 4 يونيو (حزيران) 2000 بواسطة الطبيبين زاهي وفادي حلو، بهدف الاعتراف بالإنجازات التي تحققت في مجال الفن في لبنان والمنطقة العربية والعالم.
ويختم دكتور حلو: «نعرف تماماً أننا نقوم بعمل ليس من السهل إتمامه في الظروف القاهرة التي نعيشها؛ فالبلاد مرت بأزمات متتالية، ولم تزل تتخبط حتى الساعة. ولكننا آثرنا التأكيد على أن بيروت صامدة رغم الإمكانيات المادية الخجولة. ورغم كل شيء ستتابعون حفلاً مميزاً وغنياً، يتخلله إلقاء نظرة سريعة على كل ما استطعنا إنجازه على امتداد السنوات الـ20 السابقة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)