بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

ابن الأسرة الفلاحية الاشتراكي وصاحب البرنامج السياسي المرتبك

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي
TT

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

محاطاً بالمفاجآت والألغاز كان وصول بيدرو كاستيّو إلى رئاسة البيرو في انتخابات استغرق فرز أصواتها أكثر من أسبوعين بسبب الطعون التي قدّمتها منافسته كيكو فوجيموري. بيد أن الحسم جاء مع بيان صدر يوم الاثنين الفائت عن الإدارة الأميركية، وصف الانتخابات بأنها كانت «عادلة» و«نموذجية»، هذا، بينما كانت تُسمع قرقعة في الثكنات العسكرية تهدد بدخول الجيش على الخط واستعادة التقاليد الغابرة التي ما زال كثيرون يحنّون إليها في أميركا اللاتينية.
لكن الألغاز التي تحيط بوصول كاستيّو إلى الرئاسة بعد فوزه على ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري، الذي أعيد إلى السجن حيث يمضي عقوبة بتهم كثيرة بعد إلغاء العفو الذي صدر عنه سابقاً، ليست ناشئة عن سبل هذا الوصول... بل عن الغموض الذي اكتنف حملة كاستيّو الانتخابية ومواقفه الملتبسة من معظم القضايا الرئيسة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة في البيرو، فضلاً عن تلميحاته المتكررة إلى تعديل الدستور وتغيير النظام.
أبصر بيدرو كاستيّو النور منذ 51 سنة في قرية صغيرة على أطراف جبال الأنديز المطلّة على موقع «ماتشو بيتشو» الأثري الشهير. وفي الكوخ الذي تسكنه العائلة، كان يستيقظ كل يوم قبل بزوغ الفجر ليحضّر طعامه على ضوء الشمعة قبل أن يتوجّه سيراً على قدميه طيلة ساعتين في الطرق الجبلية والمنحدرات الصعبة ليصل إلى المدرسة الصغيرة التي تقع على علو 3 آلاف متر عن سطح البحر. يقول كاستيّو إنه درس على «سطح العالم» وإن الغيوم الكثيفة التي تحيط بالمكان كانت تمنعه من رؤية الهوة الساحقة التي يطلّ عليها.
يروي جيرانه أن ذلك الصبي النحيل، والقصير القامة، كان يسير دوماً بسرعة ويحرّك يديه مثل قائد الأوركسترا عندما يمرّ أمام المزارعين في حقوق الذرة والبطاطا، إلى أن ذهب أحدهم لينبّه والدته ويطلب إليها أن تعرض ابنها على الطبيب، «لأنه يبدو فاقداً لتوازنه العقلي». وعندما استفسرت منه أمه عن الأمر لدى عودته من المدرسة، قال لها: «ليس هناك ما يدعو إلى القلق... أنا لست مريضاً. لكنني أراجع دروسي في الطريق، وأكتب على الهواء... وعندما أصل إلى المدرسة أكون متأكداً من أنني حفظت كل دروسي».

بيئة فلاحية وشخصية عصامية
تقول والدته إنها أدركت منذ ذلك اليوم أن ابنها سيصل بعيداً في الحياة، رغم أنه ولد في تلك المنطقة الفقيرة والنائية من البيرو. أما والده الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة، فيقول: «أجل، بعيداً، لكن ليس حيث وصل بيدرو... فنحن لسنا سوى فلّاحين». وهنا يذكر الوالد أنه أمضى عمره يعمل في زراعة حقل يدفع بدل إيجاره لأصحابه حتى العام 1969 عندما قرّر الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (ذو الميول الاشتراكية)، بعد أيام من الانقلاب العسكري الذي قاده، خطة الإصلاح الزراعي التي وزّعت الأراضي التي كانت في حوزة حفنة من الأثرياء على الفلاحين. ويقول الوالد متذكراً: «يومها انتهت العبودية بالنسبة لنا». وبالفعل، لقد اعتاد بيدرو كاستيّو في مهرجاناته الانتخابية أن يعلّق وراءه دائماً صورة لذلك الجنرال اليساري الذي أعتق والديه وملايين الفلاحين في البيرو من العبودية.
خلال الجولة الأولى من الانتخابات، أخذ بيدرو كاستيّو حملته إلى ساحات القرى والدساكر النائية بعيداً عن مراكز السلطة في العاصمة ليما، وفي تلك المرحلة لم ترصد «الرادارات» الإعلامية هذا المُعلّم الريفي، الذي يرتدي ملابس الفلاحين ويعتمر قبّعة القش التقليدية، التي لا تفارق رؤوس السكان الأصليين في البيرو، خارج غربلة المرشحين الذين يتنافسون للوصول إلى الجولة الثانية. لكن ما كادت الجولة الأولى تشرف على نهاياتها حتى كان كاستيّو يتصدّر الاستطلاعات، محمولاً على خطاب شعبوي يساري ضد النظام القائم... واقفاً إلى جانب الفئات المحرومة والمنسيّة في الأرياف ومناطق السكان الأصليين. ومع هذا، جاء خطابه مطعّماً باقتراحات يمينية متطرفة لمكافحة الهجرة والجريمة، ورفض المساواة بين الأجناس، وإعادة التفاوض على العقود المُبرمة مع الشركات الأجنبية. ومن ثم، فإن كل الاقتراحات الأساسية التي من شأنها تغيير وجه الدولة ما زالت غير واضحة في برنامج كاستيّو الذي وصفه أحد المحللين بأنه «لوحة تجريدية في بلد يعاني من ضبابية مفرطة في المشهد السياسي منذ سنوات».
من جهة أخرى، جاء فوز كاستيّو على منافسته اليمينية المتشددة اليابانية الأصل فوجيموري بفارق ضئيل جداً (44 ألف صوت)، بعدما تعاقب على البيرو 4 رؤساء في أقل من 5 سنوات. وهو أمر يطرح مزيداً من التساؤلات حول تصوّره للدولة، ولا سيما بعد تعهده، في حال الوصول إلى سدة الرئاسة، أن ينصرف فوراً إلى وضع دستور جديد «يقرّره الشعب في جمعية تأسيسية تكرّس العمل والصحة من الحقوق الأساسية لجميع المواطنين».
هذا، وفي حين يتهم معارضو كاستيّو الرئيس الجديد بأن التعديل الدستوري الواسع الذي يرمي إليه ليس سوى «مناورة شبيهة بتلك التي قام بها هوغو شافيز في فنزويلا» لتغيير النظام ووأد الحرّيات العامة، يقول أنصاره إن الاقتراح يستلهم التجربة التشيلية الأخيرة حيث دُعي الشعب أواخر العام الفائت إلى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية المكلّفة وضع دستور جديد للبلاد يطوي نهائياً حقبة ديكتاتورية الجنرال الراحل أوغوستو بينوتشيت. لكن يبدو من الصعب أن يتمكّن كاستيّو من تحقيق هذا الوعد الانتخابي الذي كان المرمى الرئيس الذي انصبّت عليه انتقادات خصومه، إذ سيحتاج لذلك إلى ثلثي أعضاء البرلمان، في حين لا يسيطر حزبه سوى على 37 مقعداً من أصل 130. وللعلم، كان كاستيّو قد وعد خلال الحملة الانتخابية بأن الاقتراح يبقى مشروطاً بالموافقة الشعبية، وأنه سيتراجع عنه إذا قرّر الشعب رفض المساس بالدستور.

بداية سياسية متأخرة
أما حول بدايات كاستيّو السياسية الجدية، فإنه لم يظهر في المشهد السياسي حتى العام 2017 عندما قاد إضراباً نقابياً للمعلّمين، حاول بعده أن يؤسّس حزباً وطنياً للمعلمين... لكنه لم يتمكّن من جمع التواقيع اللازمة مع بداية جائحة «كوفيد 19». وبعد ذلك انخرط في الحزب الإقليمي «البيرو الحرّة» الذي يرأسه الزعيم اليساري الشعبوي فلاديمير سيرّون، المعروف بطروحاته الراديكالية، ما يطرح تساؤلات عدة عن دوره وتأثيره في الدائرة الضيّقة حول الرئيس الجديد، لكن ما يجدر ذكره هنا أن كاستيّو فكّ ارتباطه به مراراً خلال الحملة الانتخابية، إدراكاً منه بأن سيرّون يواجه معارضة شديدة بين الأوساط اليسارية في المدن الكبرى.
الشركات الأجنبية الناشطة في البيرو، وكذلك المؤسسات الرسمية التي تنظر إليها الأوساط الشعبية كمدافع عن مصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية، كانت هدفاً رئيساً لانتقادات كاستيّو ووعوده إبان الحملة الانتخابية. وخلال أحد المهرجانات في منطقة أسبينار التي تعاني منذ سنوات من أزمات واضطرابات اجتماعية بين الفلاحين وشركات المناجم الصينية والسويسرية والأميركية، قال كاستيّو: «هذه الشركات أصبحت ساعاتها معدودة». ووعد أيضاً بإنهاء بعض المؤسسات الرسمية التي اتهمها بهدر المال العام وخدمة مصالح المجموعات النافذة وملاحقة المعارضين للنظام القائم.
مثل هذه التصريحات والمواقف، إلى جانب تحذيرات خصومه من وصول مرشّح «شيوعي خطر» إلى الرئاسة، فضلاً عن الحملة الشرسة التي شنّتها ضده مراكز القوى التقليدية، وغيّبته عن وسائل الإعلام، كانت عوامل أدّت إلى تدنّي شعبيته وتراجعه في الاستطلاعات. وظل الوضع كذلك إلى أن أعلن تجمّع القوى اليسارية المعتدلة تأييده له مطلع مايو (أيار) الفائت، وهكذا بدأ بتعديل مواقفه وتصريحاته.
وحقاً، منذ بداية الشوط الأخير في الحملة الانتخابية استعاض كاستيّو عن خطاب «إلغاء» المؤسسات التي كان ينتقدها... بتعهده «بتقويتها وتصويب مسارها». إذ قال: «إن الطريق إلى قيام الدولة التي أحلم بها لأولادي وطلابي، يمرّ بتوطيد الديمقراطية وضمان الحرّيات وتعزيز المؤسسات في دورها لخدمة الشعب».
أما الشركات الأجنبية التي كان يفتح النار عليها في كل تصريحاته، ويهدد أحياناً بتأميمها، فقد بدأ يتحدث عن الجهود التي سيبذلها كي تسدّد مزيداً من الضرائب، وتنفّذ مشروعات تعود بالمنفعة على السكّان الذين يعيشون في المناطق المحيطة بالمناجم التي تستغلّها. وفي آخر خطاب ألقاه أمام عمّال مناجم الذهب، قال: «نرحّب بالشركات الخاصة الأجنبية لتعمل في بلادنا وفقاً لقواعد وشروط واضحة... علينا أن نعيد النظر في العقود المبرمة معها».
في الواقع، لم يظهر كاستيّو براعة في إطلالاته ومناظراته التلفزيونية القليلة، بل غالباً ما كان يبدو متردداً وضعيف الحجّة. غير أنه كان عندما يذهب إلى القرى والأرياف، يملأ الشوارع والساحات ويتحوّل إلى شخص آخر يتكلّم لغة أخرى تستحوذ على اهتمام أنصاره الذين كانوا يتكاثرون كل يوم.
شعبوي تقدمي تعلّم
البراغماتية متأخراً

لقد كان يعرّف نفسه معلّماً ابتدائياً في القرى النائية التي لم تصل إليها خدمات الدولة، وفلّاحاً، وعاملاً بنى بيته بيديه، وخاصة «حارساً جوّالاً» Rondero في المنظمات الشعبية المستقلّة التي أُسست في سبعينات القرن الماضي لمكافحة الجرائم في الأرياف البعيدة عن مراقبة أجهزة الأمن الرسمية. وما زالت هذه المنظمات ناشطة حتى اليوم في معظم المناطق الريفية البعيدة، تسهر على الماشية وتمنع سرقتها. أفراد هذه المنظمات من المتطوعين، يرتدون لباساً تقليدياً ويمضغون ورق الكوكا الذي يساعدهم على البقاء مستيقظين أثناء الليل. ومن عاداتهم، قبل تسليم لصوص الماشية إلى العدالة، معاقبتهم بالسياط وتوبيخهم على فعلاتهم.
وفي هذا الإطار، كان كاستيّو قد وعد خلال حملته الانتخابية باللجوء إلى هذه المنظمات لمكافحة الجريمة المستشرية في البلاد. وأعرب عن نيّته في استنساخ هذه التجربة وتعميمها على المدن وأرباضها. كذلك دعا إلى تخصيص ميزانية لها ولقوات الأمن لمؤازرتها وتدريبها، «ليس لحماية الماشية فحسب، بل للمساهمة أيضاً في توطيد الأمن والطمأنينة في البلاد». ولكن بعدما أثار هذا الاقتراح مخاوف واسعة من أن تتحوّل هذه المنظمات إلى جهاز أمني موازٍ على غرار تنظيمات مماثلة في كوبا وفنزويلا، طوى كاستيّو الفكرة وسحبها من التداول. وسحب أيضاً من البرنامج الذي أطلقه في بداية الحملة الانتخابية، اقتراحاً بإلغاء النظام التقاعدي الذي تديره الشركات الخاصة وتعويضه بخطة لتحسين هذا النظام وتعزيز الضمانات التي يوفّرها للمودعين.
لقد تردّد كاستيّو وتعثّر كثيراً في مواقفه وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية، وبدّل كثيراً من هذه التصريحات والمواقف بين الجولتين الأولى والثانية، حتى بات من الصعب معرفة ما إذا كان موقفه من القضايا والملفات الرسمية على اليسار أو على اليمين أو في منزلة بين المنزلتين. أما الأمر الأكيد في الوقت الحاضر فهو ضبابية المشروع الذي يحمله في رأسه هذا المعلّم الريفي، الذي يعترف كثيرون من مؤيديه، والذين عايشوه، أنهم يذرفون الدمع تأثراً لدى سماعه... ويقولون إنهم على استعداد في كل لحظة للزحف مجدداً بمئات الآلاف إلى العاصمة للدفاع عن فوزه ضد أي تهديد كما حصل في الأسبوعين المنصرمين عندما تأخر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وسرت إشاعات حول احتمال تدخل القوات المسلحة للإمساك بالسلطة.
لكن اليوم بات بإمكان كاستيّو أن ينام مطمئناً في قصر الرئاسة، والفضل في ذلك للدعم الصريح لفوزه من الإدارة الأميركية التي كانت منافسته اليمينية تغازلها عن بعد في الأيام الأخيرة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.