بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

ابن الأسرة الفلاحية الاشتراكي وصاحب البرنامج السياسي المرتبك

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي
TT

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

محاطاً بالمفاجآت والألغاز كان وصول بيدرو كاستيّو إلى رئاسة البيرو في انتخابات استغرق فرز أصواتها أكثر من أسبوعين بسبب الطعون التي قدّمتها منافسته كيكو فوجيموري. بيد أن الحسم جاء مع بيان صدر يوم الاثنين الفائت عن الإدارة الأميركية، وصف الانتخابات بأنها كانت «عادلة» و«نموذجية»، هذا، بينما كانت تُسمع قرقعة في الثكنات العسكرية تهدد بدخول الجيش على الخط واستعادة التقاليد الغابرة التي ما زال كثيرون يحنّون إليها في أميركا اللاتينية.
لكن الألغاز التي تحيط بوصول كاستيّو إلى الرئاسة بعد فوزه على ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري، الذي أعيد إلى السجن حيث يمضي عقوبة بتهم كثيرة بعد إلغاء العفو الذي صدر عنه سابقاً، ليست ناشئة عن سبل هذا الوصول... بل عن الغموض الذي اكتنف حملة كاستيّو الانتخابية ومواقفه الملتبسة من معظم القضايا الرئيسة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة في البيرو، فضلاً عن تلميحاته المتكررة إلى تعديل الدستور وتغيير النظام.
أبصر بيدرو كاستيّو النور منذ 51 سنة في قرية صغيرة على أطراف جبال الأنديز المطلّة على موقع «ماتشو بيتشو» الأثري الشهير. وفي الكوخ الذي تسكنه العائلة، كان يستيقظ كل يوم قبل بزوغ الفجر ليحضّر طعامه على ضوء الشمعة قبل أن يتوجّه سيراً على قدميه طيلة ساعتين في الطرق الجبلية والمنحدرات الصعبة ليصل إلى المدرسة الصغيرة التي تقع على علو 3 آلاف متر عن سطح البحر. يقول كاستيّو إنه درس على «سطح العالم» وإن الغيوم الكثيفة التي تحيط بالمكان كانت تمنعه من رؤية الهوة الساحقة التي يطلّ عليها.
يروي جيرانه أن ذلك الصبي النحيل، والقصير القامة، كان يسير دوماً بسرعة ويحرّك يديه مثل قائد الأوركسترا عندما يمرّ أمام المزارعين في حقوق الذرة والبطاطا، إلى أن ذهب أحدهم لينبّه والدته ويطلب إليها أن تعرض ابنها على الطبيب، «لأنه يبدو فاقداً لتوازنه العقلي». وعندما استفسرت منه أمه عن الأمر لدى عودته من المدرسة، قال لها: «ليس هناك ما يدعو إلى القلق... أنا لست مريضاً. لكنني أراجع دروسي في الطريق، وأكتب على الهواء... وعندما أصل إلى المدرسة أكون متأكداً من أنني حفظت كل دروسي».

بيئة فلاحية وشخصية عصامية
تقول والدته إنها أدركت منذ ذلك اليوم أن ابنها سيصل بعيداً في الحياة، رغم أنه ولد في تلك المنطقة الفقيرة والنائية من البيرو. أما والده الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة، فيقول: «أجل، بعيداً، لكن ليس حيث وصل بيدرو... فنحن لسنا سوى فلّاحين». وهنا يذكر الوالد أنه أمضى عمره يعمل في زراعة حقل يدفع بدل إيجاره لأصحابه حتى العام 1969 عندما قرّر الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (ذو الميول الاشتراكية)، بعد أيام من الانقلاب العسكري الذي قاده، خطة الإصلاح الزراعي التي وزّعت الأراضي التي كانت في حوزة حفنة من الأثرياء على الفلاحين. ويقول الوالد متذكراً: «يومها انتهت العبودية بالنسبة لنا». وبالفعل، لقد اعتاد بيدرو كاستيّو في مهرجاناته الانتخابية أن يعلّق وراءه دائماً صورة لذلك الجنرال اليساري الذي أعتق والديه وملايين الفلاحين في البيرو من العبودية.
خلال الجولة الأولى من الانتخابات، أخذ بيدرو كاستيّو حملته إلى ساحات القرى والدساكر النائية بعيداً عن مراكز السلطة في العاصمة ليما، وفي تلك المرحلة لم ترصد «الرادارات» الإعلامية هذا المُعلّم الريفي، الذي يرتدي ملابس الفلاحين ويعتمر قبّعة القش التقليدية، التي لا تفارق رؤوس السكان الأصليين في البيرو، خارج غربلة المرشحين الذين يتنافسون للوصول إلى الجولة الثانية. لكن ما كادت الجولة الأولى تشرف على نهاياتها حتى كان كاستيّو يتصدّر الاستطلاعات، محمولاً على خطاب شعبوي يساري ضد النظام القائم... واقفاً إلى جانب الفئات المحرومة والمنسيّة في الأرياف ومناطق السكان الأصليين. ومع هذا، جاء خطابه مطعّماً باقتراحات يمينية متطرفة لمكافحة الهجرة والجريمة، ورفض المساواة بين الأجناس، وإعادة التفاوض على العقود المُبرمة مع الشركات الأجنبية. ومن ثم، فإن كل الاقتراحات الأساسية التي من شأنها تغيير وجه الدولة ما زالت غير واضحة في برنامج كاستيّو الذي وصفه أحد المحللين بأنه «لوحة تجريدية في بلد يعاني من ضبابية مفرطة في المشهد السياسي منذ سنوات».
من جهة أخرى، جاء فوز كاستيّو على منافسته اليمينية المتشددة اليابانية الأصل فوجيموري بفارق ضئيل جداً (44 ألف صوت)، بعدما تعاقب على البيرو 4 رؤساء في أقل من 5 سنوات. وهو أمر يطرح مزيداً من التساؤلات حول تصوّره للدولة، ولا سيما بعد تعهده، في حال الوصول إلى سدة الرئاسة، أن ينصرف فوراً إلى وضع دستور جديد «يقرّره الشعب في جمعية تأسيسية تكرّس العمل والصحة من الحقوق الأساسية لجميع المواطنين».
هذا، وفي حين يتهم معارضو كاستيّو الرئيس الجديد بأن التعديل الدستوري الواسع الذي يرمي إليه ليس سوى «مناورة شبيهة بتلك التي قام بها هوغو شافيز في فنزويلا» لتغيير النظام ووأد الحرّيات العامة، يقول أنصاره إن الاقتراح يستلهم التجربة التشيلية الأخيرة حيث دُعي الشعب أواخر العام الفائت إلى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية المكلّفة وضع دستور جديد للبلاد يطوي نهائياً حقبة ديكتاتورية الجنرال الراحل أوغوستو بينوتشيت. لكن يبدو من الصعب أن يتمكّن كاستيّو من تحقيق هذا الوعد الانتخابي الذي كان المرمى الرئيس الذي انصبّت عليه انتقادات خصومه، إذ سيحتاج لذلك إلى ثلثي أعضاء البرلمان، في حين لا يسيطر حزبه سوى على 37 مقعداً من أصل 130. وللعلم، كان كاستيّو قد وعد خلال الحملة الانتخابية بأن الاقتراح يبقى مشروطاً بالموافقة الشعبية، وأنه سيتراجع عنه إذا قرّر الشعب رفض المساس بالدستور.

بداية سياسية متأخرة
أما حول بدايات كاستيّو السياسية الجدية، فإنه لم يظهر في المشهد السياسي حتى العام 2017 عندما قاد إضراباً نقابياً للمعلّمين، حاول بعده أن يؤسّس حزباً وطنياً للمعلمين... لكنه لم يتمكّن من جمع التواقيع اللازمة مع بداية جائحة «كوفيد 19». وبعد ذلك انخرط في الحزب الإقليمي «البيرو الحرّة» الذي يرأسه الزعيم اليساري الشعبوي فلاديمير سيرّون، المعروف بطروحاته الراديكالية، ما يطرح تساؤلات عدة عن دوره وتأثيره في الدائرة الضيّقة حول الرئيس الجديد، لكن ما يجدر ذكره هنا أن كاستيّو فكّ ارتباطه به مراراً خلال الحملة الانتخابية، إدراكاً منه بأن سيرّون يواجه معارضة شديدة بين الأوساط اليسارية في المدن الكبرى.
الشركات الأجنبية الناشطة في البيرو، وكذلك المؤسسات الرسمية التي تنظر إليها الأوساط الشعبية كمدافع عن مصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية، كانت هدفاً رئيساً لانتقادات كاستيّو ووعوده إبان الحملة الانتخابية. وخلال أحد المهرجانات في منطقة أسبينار التي تعاني منذ سنوات من أزمات واضطرابات اجتماعية بين الفلاحين وشركات المناجم الصينية والسويسرية والأميركية، قال كاستيّو: «هذه الشركات أصبحت ساعاتها معدودة». ووعد أيضاً بإنهاء بعض المؤسسات الرسمية التي اتهمها بهدر المال العام وخدمة مصالح المجموعات النافذة وملاحقة المعارضين للنظام القائم.
مثل هذه التصريحات والمواقف، إلى جانب تحذيرات خصومه من وصول مرشّح «شيوعي خطر» إلى الرئاسة، فضلاً عن الحملة الشرسة التي شنّتها ضده مراكز القوى التقليدية، وغيّبته عن وسائل الإعلام، كانت عوامل أدّت إلى تدنّي شعبيته وتراجعه في الاستطلاعات. وظل الوضع كذلك إلى أن أعلن تجمّع القوى اليسارية المعتدلة تأييده له مطلع مايو (أيار) الفائت، وهكذا بدأ بتعديل مواقفه وتصريحاته.
وحقاً، منذ بداية الشوط الأخير في الحملة الانتخابية استعاض كاستيّو عن خطاب «إلغاء» المؤسسات التي كان ينتقدها... بتعهده «بتقويتها وتصويب مسارها». إذ قال: «إن الطريق إلى قيام الدولة التي أحلم بها لأولادي وطلابي، يمرّ بتوطيد الديمقراطية وضمان الحرّيات وتعزيز المؤسسات في دورها لخدمة الشعب».
أما الشركات الأجنبية التي كان يفتح النار عليها في كل تصريحاته، ويهدد أحياناً بتأميمها، فقد بدأ يتحدث عن الجهود التي سيبذلها كي تسدّد مزيداً من الضرائب، وتنفّذ مشروعات تعود بالمنفعة على السكّان الذين يعيشون في المناطق المحيطة بالمناجم التي تستغلّها. وفي آخر خطاب ألقاه أمام عمّال مناجم الذهب، قال: «نرحّب بالشركات الخاصة الأجنبية لتعمل في بلادنا وفقاً لقواعد وشروط واضحة... علينا أن نعيد النظر في العقود المبرمة معها».
في الواقع، لم يظهر كاستيّو براعة في إطلالاته ومناظراته التلفزيونية القليلة، بل غالباً ما كان يبدو متردداً وضعيف الحجّة. غير أنه كان عندما يذهب إلى القرى والأرياف، يملأ الشوارع والساحات ويتحوّل إلى شخص آخر يتكلّم لغة أخرى تستحوذ على اهتمام أنصاره الذين كانوا يتكاثرون كل يوم.
شعبوي تقدمي تعلّم
البراغماتية متأخراً

لقد كان يعرّف نفسه معلّماً ابتدائياً في القرى النائية التي لم تصل إليها خدمات الدولة، وفلّاحاً، وعاملاً بنى بيته بيديه، وخاصة «حارساً جوّالاً» Rondero في المنظمات الشعبية المستقلّة التي أُسست في سبعينات القرن الماضي لمكافحة الجرائم في الأرياف البعيدة عن مراقبة أجهزة الأمن الرسمية. وما زالت هذه المنظمات ناشطة حتى اليوم في معظم المناطق الريفية البعيدة، تسهر على الماشية وتمنع سرقتها. أفراد هذه المنظمات من المتطوعين، يرتدون لباساً تقليدياً ويمضغون ورق الكوكا الذي يساعدهم على البقاء مستيقظين أثناء الليل. ومن عاداتهم، قبل تسليم لصوص الماشية إلى العدالة، معاقبتهم بالسياط وتوبيخهم على فعلاتهم.
وفي هذا الإطار، كان كاستيّو قد وعد خلال حملته الانتخابية باللجوء إلى هذه المنظمات لمكافحة الجريمة المستشرية في البلاد. وأعرب عن نيّته في استنساخ هذه التجربة وتعميمها على المدن وأرباضها. كذلك دعا إلى تخصيص ميزانية لها ولقوات الأمن لمؤازرتها وتدريبها، «ليس لحماية الماشية فحسب، بل للمساهمة أيضاً في توطيد الأمن والطمأنينة في البلاد». ولكن بعدما أثار هذا الاقتراح مخاوف واسعة من أن تتحوّل هذه المنظمات إلى جهاز أمني موازٍ على غرار تنظيمات مماثلة في كوبا وفنزويلا، طوى كاستيّو الفكرة وسحبها من التداول. وسحب أيضاً من البرنامج الذي أطلقه في بداية الحملة الانتخابية، اقتراحاً بإلغاء النظام التقاعدي الذي تديره الشركات الخاصة وتعويضه بخطة لتحسين هذا النظام وتعزيز الضمانات التي يوفّرها للمودعين.
لقد تردّد كاستيّو وتعثّر كثيراً في مواقفه وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية، وبدّل كثيراً من هذه التصريحات والمواقف بين الجولتين الأولى والثانية، حتى بات من الصعب معرفة ما إذا كان موقفه من القضايا والملفات الرسمية على اليسار أو على اليمين أو في منزلة بين المنزلتين. أما الأمر الأكيد في الوقت الحاضر فهو ضبابية المشروع الذي يحمله في رأسه هذا المعلّم الريفي، الذي يعترف كثيرون من مؤيديه، والذين عايشوه، أنهم يذرفون الدمع تأثراً لدى سماعه... ويقولون إنهم على استعداد في كل لحظة للزحف مجدداً بمئات الآلاف إلى العاصمة للدفاع عن فوزه ضد أي تهديد كما حصل في الأسبوعين المنصرمين عندما تأخر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وسرت إشاعات حول احتمال تدخل القوات المسلحة للإمساك بالسلطة.
لكن اليوم بات بإمكان كاستيّو أن ينام مطمئناً في قصر الرئاسة، والفضل في ذلك للدعم الصريح لفوزه من الإدارة الأميركية التي كانت منافسته اليمينية تغازلها عن بعد في الأيام الأخيرة.



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.