بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

ابن الأسرة الفلاحية الاشتراكي وصاحب البرنامج السياسي المرتبك

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي
TT

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

محاطاً بالمفاجآت والألغاز كان وصول بيدرو كاستيّو إلى رئاسة البيرو في انتخابات استغرق فرز أصواتها أكثر من أسبوعين بسبب الطعون التي قدّمتها منافسته كيكو فوجيموري. بيد أن الحسم جاء مع بيان صدر يوم الاثنين الفائت عن الإدارة الأميركية، وصف الانتخابات بأنها كانت «عادلة» و«نموذجية»، هذا، بينما كانت تُسمع قرقعة في الثكنات العسكرية تهدد بدخول الجيش على الخط واستعادة التقاليد الغابرة التي ما زال كثيرون يحنّون إليها في أميركا اللاتينية.
لكن الألغاز التي تحيط بوصول كاستيّو إلى الرئاسة بعد فوزه على ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري، الذي أعيد إلى السجن حيث يمضي عقوبة بتهم كثيرة بعد إلغاء العفو الذي صدر عنه سابقاً، ليست ناشئة عن سبل هذا الوصول... بل عن الغموض الذي اكتنف حملة كاستيّو الانتخابية ومواقفه الملتبسة من معظم القضايا الرئيسة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة في البيرو، فضلاً عن تلميحاته المتكررة إلى تعديل الدستور وتغيير النظام.
أبصر بيدرو كاستيّو النور منذ 51 سنة في قرية صغيرة على أطراف جبال الأنديز المطلّة على موقع «ماتشو بيتشو» الأثري الشهير. وفي الكوخ الذي تسكنه العائلة، كان يستيقظ كل يوم قبل بزوغ الفجر ليحضّر طعامه على ضوء الشمعة قبل أن يتوجّه سيراً على قدميه طيلة ساعتين في الطرق الجبلية والمنحدرات الصعبة ليصل إلى المدرسة الصغيرة التي تقع على علو 3 آلاف متر عن سطح البحر. يقول كاستيّو إنه درس على «سطح العالم» وإن الغيوم الكثيفة التي تحيط بالمكان كانت تمنعه من رؤية الهوة الساحقة التي يطلّ عليها.
يروي جيرانه أن ذلك الصبي النحيل، والقصير القامة، كان يسير دوماً بسرعة ويحرّك يديه مثل قائد الأوركسترا عندما يمرّ أمام المزارعين في حقوق الذرة والبطاطا، إلى أن ذهب أحدهم لينبّه والدته ويطلب إليها أن تعرض ابنها على الطبيب، «لأنه يبدو فاقداً لتوازنه العقلي». وعندما استفسرت منه أمه عن الأمر لدى عودته من المدرسة، قال لها: «ليس هناك ما يدعو إلى القلق... أنا لست مريضاً. لكنني أراجع دروسي في الطريق، وأكتب على الهواء... وعندما أصل إلى المدرسة أكون متأكداً من أنني حفظت كل دروسي».

بيئة فلاحية وشخصية عصامية
تقول والدته إنها أدركت منذ ذلك اليوم أن ابنها سيصل بعيداً في الحياة، رغم أنه ولد في تلك المنطقة الفقيرة والنائية من البيرو. أما والده الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة، فيقول: «أجل، بعيداً، لكن ليس حيث وصل بيدرو... فنحن لسنا سوى فلّاحين». وهنا يذكر الوالد أنه أمضى عمره يعمل في زراعة حقل يدفع بدل إيجاره لأصحابه حتى العام 1969 عندما قرّر الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (ذو الميول الاشتراكية)، بعد أيام من الانقلاب العسكري الذي قاده، خطة الإصلاح الزراعي التي وزّعت الأراضي التي كانت في حوزة حفنة من الأثرياء على الفلاحين. ويقول الوالد متذكراً: «يومها انتهت العبودية بالنسبة لنا». وبالفعل، لقد اعتاد بيدرو كاستيّو في مهرجاناته الانتخابية أن يعلّق وراءه دائماً صورة لذلك الجنرال اليساري الذي أعتق والديه وملايين الفلاحين في البيرو من العبودية.
خلال الجولة الأولى من الانتخابات، أخذ بيدرو كاستيّو حملته إلى ساحات القرى والدساكر النائية بعيداً عن مراكز السلطة في العاصمة ليما، وفي تلك المرحلة لم ترصد «الرادارات» الإعلامية هذا المُعلّم الريفي، الذي يرتدي ملابس الفلاحين ويعتمر قبّعة القش التقليدية، التي لا تفارق رؤوس السكان الأصليين في البيرو، خارج غربلة المرشحين الذين يتنافسون للوصول إلى الجولة الثانية. لكن ما كادت الجولة الأولى تشرف على نهاياتها حتى كان كاستيّو يتصدّر الاستطلاعات، محمولاً على خطاب شعبوي يساري ضد النظام القائم... واقفاً إلى جانب الفئات المحرومة والمنسيّة في الأرياف ومناطق السكان الأصليين. ومع هذا، جاء خطابه مطعّماً باقتراحات يمينية متطرفة لمكافحة الهجرة والجريمة، ورفض المساواة بين الأجناس، وإعادة التفاوض على العقود المُبرمة مع الشركات الأجنبية. ومن ثم، فإن كل الاقتراحات الأساسية التي من شأنها تغيير وجه الدولة ما زالت غير واضحة في برنامج كاستيّو الذي وصفه أحد المحللين بأنه «لوحة تجريدية في بلد يعاني من ضبابية مفرطة في المشهد السياسي منذ سنوات».
من جهة أخرى، جاء فوز كاستيّو على منافسته اليمينية المتشددة اليابانية الأصل فوجيموري بفارق ضئيل جداً (44 ألف صوت)، بعدما تعاقب على البيرو 4 رؤساء في أقل من 5 سنوات. وهو أمر يطرح مزيداً من التساؤلات حول تصوّره للدولة، ولا سيما بعد تعهده، في حال الوصول إلى سدة الرئاسة، أن ينصرف فوراً إلى وضع دستور جديد «يقرّره الشعب في جمعية تأسيسية تكرّس العمل والصحة من الحقوق الأساسية لجميع المواطنين».
هذا، وفي حين يتهم معارضو كاستيّو الرئيس الجديد بأن التعديل الدستوري الواسع الذي يرمي إليه ليس سوى «مناورة شبيهة بتلك التي قام بها هوغو شافيز في فنزويلا» لتغيير النظام ووأد الحرّيات العامة، يقول أنصاره إن الاقتراح يستلهم التجربة التشيلية الأخيرة حيث دُعي الشعب أواخر العام الفائت إلى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية المكلّفة وضع دستور جديد للبلاد يطوي نهائياً حقبة ديكتاتورية الجنرال الراحل أوغوستو بينوتشيت. لكن يبدو من الصعب أن يتمكّن كاستيّو من تحقيق هذا الوعد الانتخابي الذي كان المرمى الرئيس الذي انصبّت عليه انتقادات خصومه، إذ سيحتاج لذلك إلى ثلثي أعضاء البرلمان، في حين لا يسيطر حزبه سوى على 37 مقعداً من أصل 130. وللعلم، كان كاستيّو قد وعد خلال الحملة الانتخابية بأن الاقتراح يبقى مشروطاً بالموافقة الشعبية، وأنه سيتراجع عنه إذا قرّر الشعب رفض المساس بالدستور.

بداية سياسية متأخرة
أما حول بدايات كاستيّو السياسية الجدية، فإنه لم يظهر في المشهد السياسي حتى العام 2017 عندما قاد إضراباً نقابياً للمعلّمين، حاول بعده أن يؤسّس حزباً وطنياً للمعلمين... لكنه لم يتمكّن من جمع التواقيع اللازمة مع بداية جائحة «كوفيد 19». وبعد ذلك انخرط في الحزب الإقليمي «البيرو الحرّة» الذي يرأسه الزعيم اليساري الشعبوي فلاديمير سيرّون، المعروف بطروحاته الراديكالية، ما يطرح تساؤلات عدة عن دوره وتأثيره في الدائرة الضيّقة حول الرئيس الجديد، لكن ما يجدر ذكره هنا أن كاستيّو فكّ ارتباطه به مراراً خلال الحملة الانتخابية، إدراكاً منه بأن سيرّون يواجه معارضة شديدة بين الأوساط اليسارية في المدن الكبرى.
الشركات الأجنبية الناشطة في البيرو، وكذلك المؤسسات الرسمية التي تنظر إليها الأوساط الشعبية كمدافع عن مصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية، كانت هدفاً رئيساً لانتقادات كاستيّو ووعوده إبان الحملة الانتخابية. وخلال أحد المهرجانات في منطقة أسبينار التي تعاني منذ سنوات من أزمات واضطرابات اجتماعية بين الفلاحين وشركات المناجم الصينية والسويسرية والأميركية، قال كاستيّو: «هذه الشركات أصبحت ساعاتها معدودة». ووعد أيضاً بإنهاء بعض المؤسسات الرسمية التي اتهمها بهدر المال العام وخدمة مصالح المجموعات النافذة وملاحقة المعارضين للنظام القائم.
مثل هذه التصريحات والمواقف، إلى جانب تحذيرات خصومه من وصول مرشّح «شيوعي خطر» إلى الرئاسة، فضلاً عن الحملة الشرسة التي شنّتها ضده مراكز القوى التقليدية، وغيّبته عن وسائل الإعلام، كانت عوامل أدّت إلى تدنّي شعبيته وتراجعه في الاستطلاعات. وظل الوضع كذلك إلى أن أعلن تجمّع القوى اليسارية المعتدلة تأييده له مطلع مايو (أيار) الفائت، وهكذا بدأ بتعديل مواقفه وتصريحاته.
وحقاً، منذ بداية الشوط الأخير في الحملة الانتخابية استعاض كاستيّو عن خطاب «إلغاء» المؤسسات التي كان ينتقدها... بتعهده «بتقويتها وتصويب مسارها». إذ قال: «إن الطريق إلى قيام الدولة التي أحلم بها لأولادي وطلابي، يمرّ بتوطيد الديمقراطية وضمان الحرّيات وتعزيز المؤسسات في دورها لخدمة الشعب».
أما الشركات الأجنبية التي كان يفتح النار عليها في كل تصريحاته، ويهدد أحياناً بتأميمها، فقد بدأ يتحدث عن الجهود التي سيبذلها كي تسدّد مزيداً من الضرائب، وتنفّذ مشروعات تعود بالمنفعة على السكّان الذين يعيشون في المناطق المحيطة بالمناجم التي تستغلّها. وفي آخر خطاب ألقاه أمام عمّال مناجم الذهب، قال: «نرحّب بالشركات الخاصة الأجنبية لتعمل في بلادنا وفقاً لقواعد وشروط واضحة... علينا أن نعيد النظر في العقود المبرمة معها».
في الواقع، لم يظهر كاستيّو براعة في إطلالاته ومناظراته التلفزيونية القليلة، بل غالباً ما كان يبدو متردداً وضعيف الحجّة. غير أنه كان عندما يذهب إلى القرى والأرياف، يملأ الشوارع والساحات ويتحوّل إلى شخص آخر يتكلّم لغة أخرى تستحوذ على اهتمام أنصاره الذين كانوا يتكاثرون كل يوم.
شعبوي تقدمي تعلّم
البراغماتية متأخراً

لقد كان يعرّف نفسه معلّماً ابتدائياً في القرى النائية التي لم تصل إليها خدمات الدولة، وفلّاحاً، وعاملاً بنى بيته بيديه، وخاصة «حارساً جوّالاً» Rondero في المنظمات الشعبية المستقلّة التي أُسست في سبعينات القرن الماضي لمكافحة الجرائم في الأرياف البعيدة عن مراقبة أجهزة الأمن الرسمية. وما زالت هذه المنظمات ناشطة حتى اليوم في معظم المناطق الريفية البعيدة، تسهر على الماشية وتمنع سرقتها. أفراد هذه المنظمات من المتطوعين، يرتدون لباساً تقليدياً ويمضغون ورق الكوكا الذي يساعدهم على البقاء مستيقظين أثناء الليل. ومن عاداتهم، قبل تسليم لصوص الماشية إلى العدالة، معاقبتهم بالسياط وتوبيخهم على فعلاتهم.
وفي هذا الإطار، كان كاستيّو قد وعد خلال حملته الانتخابية باللجوء إلى هذه المنظمات لمكافحة الجريمة المستشرية في البلاد. وأعرب عن نيّته في استنساخ هذه التجربة وتعميمها على المدن وأرباضها. كذلك دعا إلى تخصيص ميزانية لها ولقوات الأمن لمؤازرتها وتدريبها، «ليس لحماية الماشية فحسب، بل للمساهمة أيضاً في توطيد الأمن والطمأنينة في البلاد». ولكن بعدما أثار هذا الاقتراح مخاوف واسعة من أن تتحوّل هذه المنظمات إلى جهاز أمني موازٍ على غرار تنظيمات مماثلة في كوبا وفنزويلا، طوى كاستيّو الفكرة وسحبها من التداول. وسحب أيضاً من البرنامج الذي أطلقه في بداية الحملة الانتخابية، اقتراحاً بإلغاء النظام التقاعدي الذي تديره الشركات الخاصة وتعويضه بخطة لتحسين هذا النظام وتعزيز الضمانات التي يوفّرها للمودعين.
لقد تردّد كاستيّو وتعثّر كثيراً في مواقفه وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية، وبدّل كثيراً من هذه التصريحات والمواقف بين الجولتين الأولى والثانية، حتى بات من الصعب معرفة ما إذا كان موقفه من القضايا والملفات الرسمية على اليسار أو على اليمين أو في منزلة بين المنزلتين. أما الأمر الأكيد في الوقت الحاضر فهو ضبابية المشروع الذي يحمله في رأسه هذا المعلّم الريفي، الذي يعترف كثيرون من مؤيديه، والذين عايشوه، أنهم يذرفون الدمع تأثراً لدى سماعه... ويقولون إنهم على استعداد في كل لحظة للزحف مجدداً بمئات الآلاف إلى العاصمة للدفاع عن فوزه ضد أي تهديد كما حصل في الأسبوعين المنصرمين عندما تأخر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وسرت إشاعات حول احتمال تدخل القوات المسلحة للإمساك بالسلطة.
لكن اليوم بات بإمكان كاستيّو أن ينام مطمئناً في قصر الرئاسة، والفضل في ذلك للدعم الصريح لفوزه من الإدارة الأميركية التي كانت منافسته اليمينية تغازلها عن بعد في الأيام الأخيرة.



قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
TT

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

جاء الإعلان عندما أبلغ وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري وسائل الإعلام أن «الهند والصين توصلتا إلى اتفاق على طول خط السيطرة الفعلية»، ولم يلبث أن أكد لين جيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إبرام الاتفاق.

يُذكر أن المواجهة على امتداد «خط السيطرة الفعلية» (الحدودي)، بدأت بمناوشات بين القوات الهندية والصينية على ضفاف بحيرة بانغونغ خلال مايو (أيار) 2020. ثم توترت العلاقات بين البلدين بعد اندلاع اشتباكات مميتة في يونيو (حزيران) 2020 – تضمنت استخدام الصخور والقضبان الحديدية وتبادل اللكمات - حول نهر غالوان، الواقع على ارتفاع كبير، وبانغونغ تسو في إقليم لاداخ؛ ما أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً، إلى جانب عدد غير معروف من القوات الصينية، قدّرته وسائل إعلام روسية بما يتجاوز 40. سقوط أول الضحايا على «خط السيطرة الفعلية» منذ 45 سنة دفع العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوى لها منذ حرب الحدود عام 1962. وأدّت التدابير المضادة القوية للهند، والوجود العسكري الكثيف لها، إلى مواجهة حدودية استمرت لأكثر من أربع سنوات، مع تمركز أكثر من 50 ألف جندي على الجانبين. ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن مجمل العلاقات مع الصين «يتعذر تطبيعها من دون إقرار حالة من السلام والهدوء على الحدود» بينهما.

«خط السيطرة الفعلية»... نقطة اشتعال تاريخية

يكمن السبب الجذري للصراع بين الهند والصين، في حدودهما المشتركة الممتدة لمسافة 3440 كيلومتراً، والتي يشار إليها عادةً باسم «خط السيطرة الفعلية». ولطالما كانت هذه الحدود الجبلية غير المحدّدة على نحو واضح، ولا سيما أنها تمر عبر تضاريس وعرة، مصدراً دائماً للتوتر بين القوتين النوويتين. وبعكس الحدود الدولية التقليدية، يشكل «خط السيطرة الفعلية» خط الحدود بين الصين والهند فقط «بحكم الأمر الواقع»؟ ذلك أن ثمة تبايناً كبيراً بين البلدين حيال تصوره وتعريفه.

تاريخياً، لدى كل من الهند والصين وجهة نظر خاصة مختلفة بشأن ترسيم خط السيطرة الفعلية؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال نزاعات متكرّرة حول السيطرة على النقاط الاستراتيجية على طول الحدود. وبناءً عليه؛ ما دفع إذن باتجاه هذا التطور الإيجابي في العلاقات؟

في هذا الصدد، أعرب الصحافي الهندي جواراف ساوانت، الذي يزور روسيا حالياً لتغطية أخبار مجموعة «البريكس»، عن اعتقاده بأن بين العوامل وراء ذوبان الثلوج بين نيودلهي وبكين «انتخابات الشهر المقبل في الولايات المتحدة». وشرح أن «السباق الانتخابي (الأميركي) متقارب، وثمة احتمال واضح لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض». وأردف أن تراجع مستوى التوتر بالعلاقات بين البلدين سيخدم كلاً منهما. ومن وجهة نظر الصين، فإن قيادة هندية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة منفصلة عن المصالح الغربية أفضل بالتأكيد لبكين.

أهمية قمة «البريكس»

والآن، لماذا تشكّل قمة «البريكس» السادسة عشرة لحظة مهمة، في الدبلوماسية العالمية؟

في الواقع، للمرة الأولى منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا اجتمع عدد كبير من قادة العالم في روسيا، وهو ما فُسّر بأنه فشل للمحاولات الغربية في عزل موسكو، وهذا أمر قد يؤثر كذلك على توازن القوى العالمي. ثم إنه يدور موضوع قمة هذا العام حول «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

معلومٌ أن مجموعة «البريكس» انطلقت، بداية الأمر، من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا. إلا أنها سرعان ما برزت منصةً رئيسية للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي عام 2023، انضم أعضاء جدد للمجموعة، بينهم المملكة العربية السعودية، وإيران، ومصر والإمارات العربية المتحدة؛ ما جعلها أكثر شمولاً.

واليوم، مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 60 تريليون دولار، تمثل دول «البريكس» 37.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة بذلك «مجموعة الدول السبع». ومع مواصلة «البريكس» توسعها، كبر دورها وازداد وضوحاً على صعيد إعادة تشكيل ديناميكيات القوة العالمية. وهنا أضاف الصحافي الهندي ساوانت أن «هذا النوع من الود الذي يتأمله الهنود والروس والصينيون على الأرض - إلى جانب آخرين داخل (البريكس) - من شأنه أن يثير قلق الغرب»، مشيراً إلى أن مودي وشي سيعقدان لقاءً ثنائياً على هامش القمة.

ولجهة مسألة «العزلة»، تكشف قمة «البريكس» عن أن روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة، لدى توجه قادة من مختلف الدول إلى قازان للمشاركة في مناقشات يمكن أن تشكل مستقبل الحكم العالمي. واللافت، طبعاً، أن القمة لم تجتذب حلفاء روسيا المقربين فحسب، بل اجتذبت أيضاً عدداً من الدول التي تتطلع إلى تعزيز العلاقات مع موسكو.

قمة «البريكس» المنعقدة لثلاثة أيام، وسط إجراءات أمنية مشددة، تعد أكبر حدث دولي تستضيفه روسيا منذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وفي حين يسعى بوتين، صراحةً، إلى بناء تحالف من خلال «البريكس» قادر على تحدّي «هيمنة» الغرب، صرّح رئيس الوزراء الهندي مودي أثناء زيارته روسيا بأن زيارتيه إلى روسيا في الأشهر الثلاثة الماضية «تعكسان التنسيق الوثيق والصداقة العميقة بين البلدين». وأضاف: «لقد عزّزت قمتنا السنوية في موسكو في يوليو (تموز)، تعاوننا في كل المجالات... وفي غضون 15 سنة، بنت مجموعة (البريكس) هويتها الخاصة. واليوم، تسعى الكثير من دول العالم للانضمام إليها».

وحول الموضوع الأوكراني، من وجهة نظر هندية، يرى المحلل السياسي سوشانت سارين أنه «على الصعيد الدبلوماسي، سار مودي على حبل مشدود منذ بدء الصراع في أوكرانيا... إذ تعهّدت نيودلهي بتقديم الدعم الإنساني لكييف، لكن مع تجنب الإدانة الصريحة للهجوم الروسي بالوقت ذاته. ثم في يوليو، زار مودي موسكو، أعقب ذلك بزيارة إلى كييف خلال أغسطس (آب)، داعياً إلى عقد مباحثات لإنهاء الصراع. وأثمرت جهوده بالفعل إلى دعوات إلى أن تضطلع الهند بدور وسيط بين الجانبين».

كذلك، مع إعراب مودي عن دعم الهند «حل عاجلاً» للوضع في أوكرانيا، ومعه مختلف جهود إرساء السلام والاستقرار، خاطب الزعيم الهندي نظيره الروسي قائلاً في حديث بينهما: «كنا على اتصال دائم بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونعتقد أن النزاعات يجب أن تُحل سلمياً فقط. ونحن ندعم تماماً الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار سريعاً... وكل جهودنا تعطي الأولوية للجوانب الإنسانية».

الرئيس الروسي يلقي كلمته في القمة (رويترز)

من جهتها، أضافت مصادر بوزارة الشؤون الخارجية الهندية، على صلة بمكتب «البريكس» أن «المناقشات حول إقرار عملة للـ(بريكس)، لتحدي هيمنة الدولار الأميركي تكتسب زخماً. كما تقدّم القمة منصّة للدول تعينها على توحيد صفوفها ضد العقوبات التعسفية التي يفرضها الغرب. ومع توسع (البريكس) وتطورها، بات من الواضح أن هذه المجموعة تستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نظام عالمي جديد، وتحدي الهيمنة الغربية التقليدية. وسيكون دور الهند في (البريكس)، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، أساسياً في تحديد كيفية تطور هذا التوازن الجديد للقوى».

لقاء محتمل بين مودي وشي

وعودة إلى موضوع العلاقات الهندية - الصينية، ذكّر الصحافي مانيش جها، بأنه «لم يعقد الطرفان مباحثات رسمية ثنائية منذ عام 2019؛ ولذا فإن أي تقارب اليوم سيكون تطوّراً محموداً... وسيحظى بمتابعة أميركية من كثب». وأضاف جها: «الواضح أن واشنطن استغلت فتور العلاقات بين مودي وشي للتقرّب من نيودلهي، وتعزيز التجمّعات الإقليمية مثل مجموعة (الكواد «الرباعية»)، التي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، مع العمل على الضغط على الهند للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا؛ الأمر الذي رفضته نيودلهي حتى الآن». ثم تابع: «لا يمكن تجاهل دور روسيا بصفتها وسيطاً في هذه العملية، ذلك أنها تظل شريكاً استراتيجياً رئيسياً لكل من الهند والصين. ورغم التحديات التي تفرضها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حافظت الهند على علاقة متوازنة مع روسيا؛ ما يضمن بقاء مكانتها على الساحة العالمية قوية».

في الحقيقة، هذا الوضع مربح لكل من الهند والصين. فبالنسبة للصين، التي تمرّ بفترة ركود اقتصادي، سيكون استئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي مع الهند بمثابة مكافأة. وبسبب حروب التعرفات الجمركية مع الولايات المتحدة - التي بدأت مع إدارة دونالد ترمب واستمرت خلال رئاسة جو بايدن - بدت بكين حريصة على استئناف العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، بينما يواصل القادة الميدانيون العسكريون والدبلوماسيون مناقشة وحل السقطات التي وقعت عام 2020، وهذا رغم إصرار نيودلهي على عدم استئناف العلاقات الطبيعية مع بكين إلى حين تسوية القضايا العالقة منذ وقوع المواجهات العسكرية ذلك العام.

في هذه الأثناء، تراقب واشنطن التطوّرات. وفعلاً صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأن واشنطن تتابع هذه التطورات (في العلاقات الهندية – الصينية عن قرب». لكن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت نيودلهي قد أبلغت واشنطن - الشريك الجيوسياسي الرئيسي – بالاتفاق.

في هذا السياق، نشير إلى أنه منذ مواجهات عام 2020، عززت نيودلهي علاقاتها مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره الدولتان «تحركات بكين العدوانية ضد جيرانها». وجرى تسليط الضوء على هذه العلاقة المتعمقة من خلال توقيع «اتفاقيات التعاون الدفاعي»، بما في ذلك تقارير عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ومع ذلك، ظهرت مخاوف في واشنطن بشأن التقارب المتزايد بين نيودلهي وموسكو، وخصوصاً في خضم الضغوط الغربية لعزل الرئيس بوتين دولياً، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.

من جانب آخر، من وجهة نظر الصين، فإن القضاء على أسباب الانزعاج من الهند قد يجعل الفلبين نقطة الاشتعال الرئيسية بسبب مطالبات إقليمية متضاربة. (إلى جانب تايوان، التي تدّعي الصين أحقية السيادة عليها). أما الهند فترى أن تحقيق انفراج في العلاقات مع الصين، أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يتيح لها مساحة أكبر للمناورة التفاوضية مع شركائها الغربيين، خصوصاً واشنطن، في أعقاب التوتر الدبلوماسي مع كندا.