لا يمكن الفصل بين ما تمر به السينما العراقية اليوم، لا عما تمر به السينما في أكثر من بلد عربي من أزمات ولا عن نتائج الحياة السياسية التي عاشها العراق وما زال يعيشها حتى اليوم. كلا الحالين نتيجة لتردي أوضاع وضياع بوصلة محددة وهادفة ومدعومة.
لم تشهد السينما العراقية، إذا أردنا التدقيق، مرحلة تفوّق يرتفع عن بضعة أعمال فردية، لا على صعيد الفن ولا على صعيد حضورها الفعلي في ساحة السينما العربية. لم تخلُ بالطبع من مخرجين جيدين في تأمين أعمالهم بما تتطلبها من بصمات فنية وذاتية أو، كتنفيذ تقني جيد بعناصر السينما الروائية السائدة، كحال فيصل الياسري أو محمد شكري جميل أو صاحب حداد أو كاميران حسني. هؤلاء وآخرون من حولهم قادوا، في واحد من فترات التاريخ غير البعيد، محاولات السينما العراقية لإثبات حضورها عربياً فقط، ولخلق مكانة عالمية لها في بعض المرّات.
لاحقاً، ومنذ عشرين سنة خرجت مواهب جديدة مثل رعد مشتت ومحمد الدراجي وعبّاس فاضل و- مؤخراً - أحمد عبد من بين آخرين. لكن لا شيء من هذه المحاولات، باستثناء أفلام لمحمد الدراجي، مثل «ابن بابل» و«فوق رمال بابل»، فاز بحضور عالمي وإن فعل، فإن الظروف داخل العراق تحجب فرص المواصلة والارتقاء.
بين هذين الجيلين مجموعة من المخرجين الآتين من أجيال مختلفة خرجوا من تحت كنف النظام السابق أو الذي تلاه ليحققوا أعمالهم خارج وطنهم ومنهم قتيبة الجنابي وقاسم حول وسمير جمال الدين.
التزام بعدم النقد
أن تخلق وضعاً عالمياً لسينما في بلد معيّن أو لسينمائي واحد منها ليس بالأمر المستحيل، لكنه من بين أصعب الأهداف وأقساها. والسينما العراقية جرّبت أكثر من بوابة لتحقيق هذه الغاية التي هي من حقّها وحق مخرجيها.
بدأت المحاولات المتباعدة لخلق سينما عراقية نشطة في الأربعينات على أيدي طامحين لتعاون مصري - عراقي أثمر عن حفنة من الأفلام في النصف الثاني من ذلك العقد من بينها «ليلى في بغداد» لأحمد كامل مرسي و«القاهرة بغداد» لأحمد بدرخان.
في الخمسينات بدأ عدد من المخرجين العراقيين تكوين الأرضية الفعلية للسينما العراقية: قدّم عبد الجبار توفيق ولي «من المسؤول؟» وكاميران حسني أنجز «سعيد أفندي»، وقام حيد العمر بإخراج «فتنة وحسن».
بعد تسلم حزب البعث الحكم في العراق حدث المٌتوقّع وتم إنشاء «المؤسسة العامّة العراقية للسينما والمسرح» التي قامت، كما كان متوقعاً أيضاً، بمحو قدرة السينما غير المدعومة من الحكومة على البقاء، وعززت الأفلام المنتجة من قِبل المؤسسة وحدها. هذا التعزيز كان لقاء ثمن فادح: إنجاز أفلام تروّج لسياسة الدولة (ليس بعيداً عن المنظومة الشيوعية في الشرق الأوروبي) وتشمل على دعوات وطنية وبث روح الإيمان بالحزب والدولة.
لم يشمل هذا النحو من الترويج كل فيلم قامت المؤسسة بإنتاجه، لكن الهدف الكبير هو إلزام كل من يريد أن يصنع فيلماً بتقديم مشاريع لا تحمل أي نقد أو صورة تعتبر سلبية، هذا إذا لم تتحدث مباشرة عن إنجازات العراق كحال أي منبر سياسي آخر.
كان من الممكن، حيال هذا الواقع، ملاحظة أن بعض المخرجين عالج هذا الوضع بالالتفاف حوله عبر الحديث عن أوضاع سياسية خارجية. قاسم حول (الذي كان لا يزال يعمل في العراق حينها) حقق «بيوت في ذلك الزقاق» (1977) ثم خرج من العراق ليحقق أفلاماً تخص القضية الفلسطينية، أحدها «عائد إلى حيفا» (عن رواية غسّان كنفاني) سنة 1982 وهو بقي بعد ذلك خارج العراق وأنجز أعمالاً متباعدة مثل «المغني» و«بغداد خارج بغداد». الأول (2009) عن جبروت صدّام حسين والآخر (2015) عن تاريخ العراق الفني والثقافي قبل فترة تلك المرحلة. فيصل الياسري صبّ اهتمامه بالحديث عن بيروت الحرب في فيلمه «القنّاص». لكن هذا المجال لم يكن رحباً ليتّسع لكل من يريد الهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقه.
رسالة وطنية
بعد أن قدّم السوري - الأميركي مصطفى العقاد فيلمه «الرسالة»، سنة 1976. منبّهاً إلى حسنات الإقدام على تحقيق مشروعات تاريخية كبيرة بطواقم عالمية، قررت المؤسسة إسناد ثلاث مهام على هذا النحو إلى ثلاثة مخرجين. اختارت العراقي محمد شكري جميل لتحقيق «المسألة الكبرى» مع طاقم عراقي - بريطاني أمام وخلف الكاميرا وتمويل لم يتوفر لأي فيلم آخر من الأفلام العراقية، حتى بالنسبة للمخرج المُلم ذاته الذي كان أنجز «الظامئون» و«الأسوار» (1973 و1979 على التوالي). حمل الفيلم رسالة وطنية تقع في نطاق الثورة ضد الاحتلال البريطاني. أوليفر ريد الذي قام قبل عامين بالاشتراك في فيلم العقّاد الثاني «أسد الصحراء» قاد البطولة الإنجليزية هنا.
للفيلمين الآخرين تمّت الاستعانة بالمخرجين المصريين توفيق صالح، الذي كان يعمل محاضراً جامعياً في العراق، وصلاح أبو سيف. تم إسناد مهمّة تنفيذ فيلم «الأيام الطويلة» (1980) لصالح و«القادسية» (1981) لأبو سيف. والمرء قد يحتار في تفاصيل تحديد أي من المهمّتين كانت أكثر صعوبة: إنجاز فيلم يتناول - ضمن قوائم وخطوط عرض وطول ثابتة - حياة صدّام حسين في شبابه حتى وصوله للسُلطة أو إنجاز فيلم تاريخي
الدعوة إلى حرية التعبير
اختيار موضوعي الفيلمين لغرض سياسي ليس عيباً، ولا هو حكر على نظام دون آخر. المسألة هنا هو أن كليهما كان مرتبطاً كمشروع بشروط ورقابة سياسية، خرج منها أبو سيف وتوفيق صالح برضا القيادة وبنقد، أغلبه جائر ومنحاز، من قِبل الوسط النقدي في العالم العربي.ww
المرحلة التالية بعد نهاية الحقبة الصدّامية وعدت بالكثير. مبدئياً تم نزع السدّادة عن عنق الزجاجة والدعوة إلى حرية التعبير في السينما. وضمن هذه الدعوة هطلت أفلام نشدت الاستفادة من عطلة موقوتة للقوانين الصارمة السابقة. كان طبيعياً أن تنبري السينما العراقية الجديدة لتصوير الأمس الغارب ومساوئه كما يراها المخرجون. للأسف، مع غياب الملكية الفنية لمعظم ما تم تحقيقه في هذا الإطار، لم تستطع غالبية هذه الأفلام تجاوز الرغبة في تسديد سهام الانتقام، هذا في الوقت الذي لم يتطوّر فيه النظام الاقتصادي ولا السياسي ولا الاجتماعي للدولة، بل مورست كذلك أشكال تعسف واضطهاد جديدة بالإضافة إلى الشكوى من الفساد التي ما زالت موضوعاً مطروحاً إلى اليوم. وكما لم تجرؤ أفلام الأمس على نقد النظام السالف، فإنها لا تبدو قادرة كذلك على نقد النظم التي لحقت به.
غالبية هذه الأفلام محقّة في إطلاق صرخة الألم، ومن بينها أفلام محمد الدراجي «أحلام» و«ابن بابل» و«تحت رمال بابل»، لكن القلّة داخل أو خارج الحدود، هي التي تميّزت بشغل فني يُضاهي تلك الرسالة ويبلورها كعمل لا يمكن تجاهله، كما حال فيلم سمير جمال الدين التسجيلي «أوديسا عراقية» (2014) وفيلمي قتيبة الجنابي الروائي «الرحيل من بغداد» (2010) والتجريبي «قصص العابرين» (2017). أفلام حققها الاثنان حول أحوال العراقيين خارج الحدود.
اليوم، يهبط حجم الإنتاجات العراقية في الداخل والخارج معاً. كان وجود مهرجانات أبوظبي ودبي والدوحة عاملاً لتحفيز الهمم ولتأمين التمويل ورصف الطموحات لا بالنسبة للسينما العراقية وحدها، بل لسينما كل بلد عربي كذلك. لكن هذه المهرجانات توقفت للأسف وبقيت مهرجانات بميزانيات لا تتيح لها لعب دور يمتد من الدعم المادي إلى الجوائز المالية الكبيرة على النحو ذاته من الفاعلية.