«لوبين» يعود للشاشات بعدما أسر المشاهدين في جزئه الأول

المسلسل تسبب في زيادة مبيعات روايات موريس لابلان وانتعاش سياحي

عمر ساي في مسلسل «لوبين» (إيمانويل غوميير- نتفليكس)
عمر ساي في مسلسل «لوبين» (إيمانويل غوميير- نتفليكس)
TT

«لوبين» يعود للشاشات بعدما أسر المشاهدين في جزئه الأول

عمر ساي في مسلسل «لوبين» (إيمانويل غوميير- نتفليكس)
عمر ساي في مسلسل «لوبين» (إيمانويل غوميير- نتفليكس)

لا يمكن لأي شخص الزعم أو الادعاء بتوقع النجاح العالمي الكاسح الذي حققه مسلسل «لوبين» من إنتاج شبكة نتفليكس الترفيهية في الآونة الأخيرة.
عندما ظهرت المجموعة الأولى المكونة من 5 حلقات في 8 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، كانت جُل آمال فريق العمل تدور حول أن يخرج أداء المسلسل جيداً بدرجة كافية في موطنه الأصلي فرنسا، حيث يمكن لعنوان المسلسل - الذي يشير إلى بطل الروايات الكلاسيكية الشهيرة التي كانت ذائعة الصيت في أوائل القرن العشرين - أن يُحقق فارقاً من نوع ما، حيث يتصدر الممثل «عمر ساي» بطل العمل استطلاعات الرأي للأعمال الفنية لدى أغلب مشاهير الفن هناك.
يقول داميان كوفرور، المنتج الأصلي للمسلسل لدى «نتفليكس» فرنسا، في لقاء تم عبر الفيديو: «ركزنا جهودنا للوهلة الأولى في العثور على قصة يمكن لأن تجد قبولاً لدى المشتركين الفرنسيين في نتفليكس». (تمت ترجمة أغلب مقابلات هذا المقال عن المادة الفرنسية الأصلية).
غير أن مسلسل «لوبين» حقق نجاحاً هائلاً متجاوزاً كل التوقعات، وتحول إلى ظاهرة فنية عالمية، وأحد أنجح أعمال شبكة نتفليكس للمحتوى الأصلي بغير اللغة الإنجليزية. والآن، وصلت المجموعة الثانية من 5 حلقات، الجزء الثاني، من المسلسل كما أطلقت عليها «نتفليكس»، وهي جاهزة للعرض في كافة أنحاء العالم منذ الأمس الجمعة. وبالنسبة للمسلسل الذي كانت توقعات نجاحه أكثر تواضعاً في بادئ الأمر، من شأن خروج الجزء الثاني إلى النور أن يشكل الحدث الفني التلفزيوني الأهم خلال موسم الصيف الحالي.
يقول المخرج والسيناريست الإنجليزي جورج كاي عن نجاح الجزء الأول من المسلسل: «بصفتي رجلاً» بريطانيا، ربما تظن أنني أقول: لن أصدق ذلك إلا عندما أراه بنفسي، ولا داعي للحماسة المفرطة حول الأمر. غير أننا تمكنا من تحقيق نوع رائع من النجاح في كافة أرجاء العالم من حيث ردود فعل المشاهدين، وهو أمر غير معتاد بالنسبة إلى أغلب عروض وبرامج نتفليكس المعروفة، في إشارة إلى معدل الاستهداف الإقليمي لأغلب برامج الشبكة حول العالم.
كان الممثل التلفزيوني مامادو هيدرا، البالغ من العمر 16 عاماً، والذي ظهر للمرة الأولى على شاشات التلفاز وهو يقوم بدور بطل الفيلم «آساني ديوب» في فترة المراهقة، في حالة من المفاجأة والذهول.
وقال في مقابلة بالفيديو من خارج منزله في ضاحية «فيتري سير سين» بالعاصمة باريس: «لم أكن أتوقع أياً من ذلك أبداً. ثم لاحظت انفجاراً في التعليقات والمدونات على «تويتر» و«إنستغرام». وظننت أن المسلسل سوف يمر مرور الكرام كأي مسلسل آخر. ولكنني لم أكن أتصور تحقيق مثل هذا النجاح الكبير الهائل حول العالم».
لأن يتسلل مسلسل «لوبين» إلى قلوب المشاهدين عبر مختلف شاشات التلفاز حول العالم كان من الدروس المهمة لبطل العمل «آساني ديوب». وبعد كل شيء، لقد تعلم من شخصية اللص الظريف أرسين لوبين أن العمل على مرأى ومسمع من الجميع يمكن أن يكون من أفضل السبل في تفادي جذب الانتباه الذي لا طائل من ورائه. ولقد عبر الممثل «عمر ساي» عن هذه الفكرة في لمحة دعائية في يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث وضع ملصقاً دعائياً للمسلسل في محطة مترو باريس مع التزامه بارتداء كمامة الوجه الواقية.
من أبرز الأسس الرئيسية لهذا المسلسل أنه من الأعمال الفنية الصديقة للأسرة من دون إحراج أو خجل، الأمر الذي يُحسب له الحسابات في أوقات تُفرض فيها على الناس قرارات الإغلاق العامة في كثير من البلدان حول العالم.
تقول الممثلة الفرنسية كلوتيد هيسمي، التي تقوم بدور جولييت بيليغريني، السيدة الشابة الأنيقة التي تميل إلى مغازلة بطل المسلسل آساني: «لقد تأثرت كثيراً عندما علمت أن ولدي ووالدي يشاهدان نفس حلقات المسلسل سوياً. لقد أحببت رؤية هذا النوع من الأعمال الترفيهية العائلية الجيدة للغاية».
يقول المنتج الفرنسي داميان كوفرور، من بين النقاط القوية الأخرى في المسلسل هي عدم محاولته الكشف على بعض خصوصيات الحضارة الفرنسية القديمة، وأضاف موضحاً: «تلك هي الطريقة التي تنتج بها الروايات التلفزيونية التي تجوب أنحاء العالم من دون عائق يعرقلها، نظراً لأنها أصلية في جوهرها»، في إشارة منه إلى مسلسل «من قتل سارة» المكسيكي، ومسلسل «البرابرة» الألماني، من بين عروض وبرامج «نتفليكس» الأخرى التي تركز على تناول الثقافات المحلية وتجد القبول والنجاح مع عرضها في العديد من البلدان.
أعاد مسلسل «لوبين» الفرنسي للرأي العام اهتمامه بالكتب الأصلية للمؤلف القديم موريس لوبلان، صاحب رواية أرسين لوبين الأولى، والتي كانت ضمن المجال العام منذ عام 2012 وحتى الآن، تماماً كما عزز المسلسل التاريخي الأميركي القصير «خطة الملكة» من مبيعات رقع الشطرنج حول العالم إثر عرضه للمرة الأولى في العام الماضي.
كانت دار هاشيت الفرنسية للنشر، وهي الناشر الرئيسي لروايات موريس لوبلان في فرنسا، قد تواصلت مع شبكة نتفليكس قبل عدة سنوات بعد مطالعة خبر موجز عن المسلسل الذي تعتزم الشبكة إنتاجه. وتتذكر السيدة سيسل تروان، المديرة التنفيذية لدى دار هاشيت رومانس للنشر، أن شبكة نتفليكس قد فرضت تعتيماً محكماً حول المسلسل، ولم تُفصح سوى عن عدة لقطات يتيمة من كتاب لوبين الذي ورثته شخصية «آساني ديوب» بطل العمل عن والده السيد باباكر- (الممثل الأسمر فارغاس آساندي من ساحل العاج)، ثم تركه إلى نجله راؤول (الفتى الفرنسي إيتان سيمون).
قالت السيدة تروان في مقابلة بالفيديو: «بدءاً من يناير (كانون الثاني) الماضي، أصدرنا نسخة من رواية أرسين لوبين اللص الأنيق، بنفس صورة الغلاف القديمة، كمثل تلك التي يفضل الناس الاحتفاظ بها في مكتبة منازلهم. ولم نتكهن بما يمكن توقعه من وراء ذلك، ومن ثم قمنا بطباعة 10 آلاف نسخة من الرواية». وأضافت تقول: «لقد بيعت العشرة آلاف نسخة على الفور، واتجهنا إلى طباعة 17 ألف نسخة أخرى بعد ذلك. ولا يبدو أننا سوف نتوقف عن مواصلة طباعة تلك الرواية قريباً».
وتزامناً مع حلقات الجزء الثاني من المسلسل، تعيد دار هاشيت للنشر طباعة رواية «الإبرة المجوفة» من تأليف موريس لوبلان، مرة أخرى، مع نفس الغلاف الأساسي القديم الذي يظهر لدى الوالد بابكر في المسلسل، وإنما باللون الأزرق هذه المرة. وقالت السيدة تروان عن ذلك: «بدا الأمر وكأنه: هذا عظيم للغاية، لا بد أننا سوف نعيد طباعة المجموعة القصصية بأكملها! ولكننا لن نتمكن من استخدام علامة نتفليكس إلا مع الروايتين الأوليين فقط، بالنسبة إلى الآونة الراهنة على أقل تقدير». وأضافت تقول إن المبيعات قد ارتفعت على الصعيد الدولي أيضاً، حيث أبدت إحدى دور النشر من كوريا الجنوبية اهتمامها في طباعة نفس الرواية بنفس صورة الغلاف التي ظهرت في المسلسل الفرنسي، ثم وصلتنا خطابات بنفس الاهتمام من دور نشر إيطالية، وإسبانية، وبولندية، وبرتغالية.
ليس من المعتاد أن تسفر أعمال «نتفليكس» الناجحة عن ارتفاع في مبيعات الروايات، فلقد حقق مسلسل «Unorthodox» نجاحاً معتبراً عند عرضه في فرنسا، ولكن السيدة تروان قالت إن دار هاشيت للنشر لم تتمكن من بيع سوى 6 آلاف نسخة من مذكرات ديبورا فيلدمان التي استند إليها المسلسل المذكور، مع ما يقرب من 4 آلاف نسخة إلكترونية أخرى فقط.
ولن يكون من العجيب أن يسفر نجاح مسلسل «لوبين» عن تحسين حالة السياحة أيضاً، سيما مع ارتفاع معدلات السفر مرة أخرى في الآونة الأخيرة. إذ إن بعض مواقع تصوير المسلسل، مثل متحف اللوفر ومتحف أورساي لديها ما يكفيها من حشود الزائرين بالفعل. ولكن بلدة «إيتريتا» الساحلية المطلة على ساحل نورماندي قد شهدت تدفقات من السياح والزوار الذين أثار اهتمامهم مشاهدة المتحدرات الجيرية والتكوينات الصخرية التي لعبت دوراً محورياً في أساطير لوبين مع المشاهد الختامية التي ميزت نهاية الجزء الأول من المسلسل الشيق. كما يمكن للزوار أيضاً مشاهدة منزل الروائي موريس لوبلان القديم في بلدة «إيتريتا»، حيث قام بتأليف العديد من أقاصيص أرسين لوبين، والذي تحول إلى متحف في الوقت الراهن، كما يقول السيد إريك بوديت من مكتب السياحة المحلي في البلدة.
أما بالنسبة إلى السيناريست جورج كاي، فهو لا يملك ما يكفي من الوقت للتجول في الريف الفرنسي. فهو منشغل الآن في صياغة سيناريو مسلسل صغير حول شخصية القاتل المتسلسل الحقيقي بيتر ساتكليف، والمعروف باسم «سفاح يوركشاير»، من سبعينيات القرن الماضي. ويقول السيد كاي عن ذلك: «ذلك العمل يشغل النصف الواعي المتبقي من عقلي، ويجعلني أبعد ما أكون عن الوقوع في براثن الحماس الشديد للأعمال الكبيرة والناجحة للغاية».
ولكن السيد كاي يواصل العمل أيضا على المجموعة القادمة من حلقات مسلسل «لوبين» الفرنسي. وهو يقول عن ذلك أيضاً: «لقد أعلنت الشركة عن ذلك بصورة خفية للغاية، فهناك بعض الأدلة وبعض الرموز المدفونة هنا أو هناك. ومن شأن الجزء الثالث أن يمثل انطلاقة أخرى نحو مجموعة رائعة من المغامرات الجديدة، وإنني أتطلع كثيراً إلى استعادة ذلك القدر الكبير من المرح والإمتاع الذي شهدناه في حلقات المسلسل الأولى».

* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)