«كايرو» يواجه منغصات الحياة بالبهجة

معرض يضم 55 لوحة ما بين المقاهي والبيوت والطرقات

لم يتوقف الشغف بالفن
لم يتوقف الشغف بالفن
TT

«كايرو» يواجه منغصات الحياة بالبهجة

لم يتوقف الشغف بالفن
لم يتوقف الشغف بالفن

بينما تتمسك الحكومة المصرية بفرض العديد من الإجراءات الاحترازية تجاه جائحة «كورونا»، يقدم الفنان جوزيف الدويري صورة عامة تحمل قدراً كبيراً من المرح والبهجة لزخم الحياة بها مسلطاً الضوء على صخب عاصمتها متنقلاً ما بين مقاهيها وطرقاتها وبيوتها، عبر أسلوب سردي بصري تميزت به نحو 55 لوحة من الإكريلك على الكاتفاس، يضمها معرضه المقام الآن في غاليري «آكسيس» تحت عنوان «كايرو».
من قلب الواقع المصري بكل بساطته وعفويته جسد الفنان مشاهد تربط بين الإنسان والمكان لكن بعد أن صبغ ذلك كله برؤية فلسفية مفادها «الضد بالضد» أو كما تقول القصيدة الشهيرة بـ«القصيدة اليتيمة»: «والضد يظهر حسنه الضد» انطلاقا من أن منغصات الحياة تكون هي ذاتها المحرك الأساسي نحو الاستمتاع بالحياة.
يقول الدويري لـ«الشرق الأوسط»: «لو لم تكن هناك منغصات لما عرفنا معنى السعادة، ولو لم يكن هناك معاناة لما عرفنا طعم الراحة، ولم يدرك كثيرون مدى جمال الدنيا، ولم يصبحوا شغوفين بها إلا بعد سيطرة الجائحة على العالم بأسره!».
تزخر اللوحات بلقاءات الأحباب وجلسات السمر والأداء المشترك بين سكان القاهرة التي تلفها الضحكات والإحساس بالرضا والتصرفات المرحة العفوية التي أكدتها استخدامه لبالتة ألوان ساطعة وزاعقة، يقول الفنان: «بسبب الإجراءات الوقائية من كوفيد - 19 شعر الناس بالمنع والحبس الاضطراري لفترات طويلة ما جعلهم يشعرون بالحنين لأيام وذكريات كانت تجمعهم مع الأقارب والأصدقاء، وأضحت الحياة التقليدية الطبيعية حلم كل إنسان على كوكب الأرض، وما أن تحسنت الأمور قليلاً وبدأت مصر تسمح ببعض مما كان ممنوعاً مع التمسك ببعض الإجراءات حتى أصبح المصريين في حالة شغف بالعودة إلى لقاء الأحباء والتوجه إلى المقاهي والشوارع والمتنزهات بكل ازدحامها وصخبها بعد أن تغيرت نظرة الكثيرين تجاه الحياة لتصبح أكثر إيجابية وبهجة في مواجهة مختلف الأزمات، لا كورونا وحدها».
مرور الفنان نفسه بتجربة ذاتية مماثلة أضفى على أعماله قدراً واضحاً من الصدق والواقعية، فقد ترك المنزل الهادئ الذي يقطنه في إحدى التجمعات السكانية الراقية «كمبوند» في مدينة 6 أكتوبر منذ نحو عام عائداً إلى منزل العائلة في وسط البلد بعد أن شعر بالاختناق من الهدوء القاتل الذي زاده الإفراط في استخدام الإجراءات حيث يعيش: «أرفض تماما الاستهتار بالفيروس أو مواجهته بحالة من اللامبالاة، لكن في الوقت نفسه أرحب بالإيجابية تجاهه عبر التطعيم والتمسك بسائر الأسباب العلمية، إضافة إلى الروح المعنوية المرتفعة التي تقوي المناعة، وارتباط ذلك بالفكاهة التي يتميز بها المصريون، وتزداد سطوتها في مواجهة الأزمات».
لكن لا يعني ذلك أن الأعمال تعكس منطقة «وسط البلد» وحدها بل لا ترتبط بالعاصمة وحدها أيضاً برغم عنوان المعرض الذي يحمل اسمها: «العنوان مجرد رمز، فالشخوص والمشاهد إنما تشير إلى طبيعة الحياة في مصر كلها» وفق الدويري.
يعد المعرض مرحلة جديدة في حياة الفنان وصل خلالها إلى حالة من النضج الفني، فبعد أن التقينا في معارضه السابقة باحتفاء واضح بالجسد البشري وتشريحه على حساب المضمون، نجده في هذا المعرض يقدم أعمالا تتميز بزخم الأفكار التي تؤكد الهوية المصرية وإبراز فلسفة الترابط العميق بين الإنسان والمكان عبر العادات والتقاليد والممارسات اليومية، يوضح: «كانت أعمالي السابقة نتاجاً لأفكار تدور في مخيلتي لتراكم خبرات وانفعالات سابقة مررت بها، إلى أن قادتني مصادفة إلى الخروج من الذاتية إلى قلب الواقع».
ويتابع: «كنت أجلس بمفردي في مقهى بمنطقة حيوية وتابعت من وراء الزجاج صخب الحياة وتناقضاتها وتشابكات علاقاتها ما بين الإنسان والآخر والعمارة والحيوانات الأليفة وغير ذلك من حالات تعكس ما يمكن وصفه بـ«قمة الانسجام... وقمة التضاد» في آن واحد، لاكتشف أن ثمة ثروات يشغى بها الواقع تلهم الفنان وتستفزه لتقديم منتج إبداعي جديد كل لحظة».
ورغم أن بعض لوحاته في المعرض المستمر حتى 16 يونيو (حزيران) الجاري تقترب من فن الكاريكاتير من فرط ما تحمله من لمسات ساخرة وأحيانا مبالغة في تناولها الفكاهي لوجع الواقع إلا أن الفنان يؤكد أنه لا يقدم هذا الفن: «تقع أعمالي في منطقة واقعة ما بين الكاريكاتير وفن الكتاب وهي منطقة رفيعة ورقيقة للغاية، إذا مالت قليلاً تجاه إحداهما فإن ثمة اختلال شديد يصيبها ويفقدها معناها».
ويردف الدويري: «لا ترمي لوحاتي إلى السخرية، لكن لكل رسم وجهة نظر ومعنى، وتستند الرسومات في الأساس إلى الوجوه والتعبيرات من دون محاكاة للكاميرا، ومن دون تعمد، فما يحدث أنني أشاهد البشر وأنفعل بهم، وبطبيعة الحال لكل إنسان وجه مختلف ولكل وجه شفرة للتعامل معه، وحين أبدأ في الرسم أجد البشر الذين انفعلت بهم ينسابون على المسطح ويحتل كل منهم مكانه الذي يعرفه جيداً في اللوحة كما لو كانوا أبطال عمل درامي، كما تتحدد ملامح وجه كل منهم بعد أن أكون قد توصلت لشفرته حسب إحساسي به».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».