عرف الشاعر السعودي الشاب إبراهيم أحمد حـلوش، كأحد الأصوات الشعرية التي صنعت تجربتها المتميزة خلال أعوام قليلة. وعرف أيضاً بنشاطه الدائب في الأمسيات الشعرية وكتابة الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، حيث كتب أكثر من أربعين أوبريتاً، من أهمها أوبريت حفل افتتاح سوق عكاظ الثامن، بعنوان «نبض الأرض»، الذي لحنه خالد العليان وأخرجه فطيس بقنة وأداه الفنان عبد الله رشاد.
أصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان: «أنثى تحرر الوجع!»، عن نادي الباحة الأدبي بالتعاون مع دار الانتشار ببيروت، في حين يستعد لإصدار المجموعة الثانية قريباً. بالإضافة لعدد من الأعمال الشعرية تحت الطبع. قبل أربع سنوات، أصيب الشاعر حلوش، بمرض أدى إلى فقده البصر. لكن النور الذي غادر العين استقر في القلب، ليشعل مصابيح الشعر وعناقيد الجمال، مع رؤية فلسفية للأشياء، إلى جانب همة عالية توقدت نشاطاً، مع طمأنينة ورضا وتصالح مع عالمه الجديد.
«الشرق الأوسط» تواصلت مع الشاعر إبراهيم حلوش المقيم في جازان أقصى الجنوب الغربي للسعودية، وأجرت الحوار التالي معه:
> حدثنا أولاً عن تجربتك الشعرية، متى بدأت؟
- لو قلت إنني ولدت عندما كنت مع العصافير وبزوغ الفجر أبحث عن لحظة غائبة... فقد صدقت...!، حينها وجدت الشعلة وكانت اللغة البكر التي كنت أتهجاها مع حنين القبرات وأسراب القطا في «وادي بيش» مع صوت أمي الذي منحني غناء النهارات وصوت أبي الذي كان يأذن للناي أن يستكين.
البدايات كانت متصلة بموسيقى الشجر... وغناء الرعاة ربما أفاجئك بأنني كنت أحدهم:
أنا شرفة للناي نايي قصيدة
وصوتي من ومض المسافات يسبك
أنا كل من ألقوا على الأرض سحرهم
أنا كل من غنوا أنا كل من بكوا
بعيني ينام الطفل ملء جفونه
وألعابه في راحتيه تفكك
يقيناً يعيد الطين تشكيل ذاته
ويركل عن عينيه من فيه شككوا
على لهب الذكرى يفت ضلوعه
ومخرج أدوار البطولة منهك
بكائية أخرى لميلاد ضحكة
عليها دماء الأبجدية تسفك
> كيف أثر التراث في تجربتك الشعرية؟
- فعلاً... لقد كان التراث بعمالقته هو المؤثر الأول، فقد قرأت كل ما أنجبه التراث والقصيدة أولاً. وسأظل مؤمناً بأن كل روح شعرية ستجد من يتلقفها... والقصيدة ما زالت تبحث عن ضوء لا يغيب.
> أي تأثير تركته عليك جازان ؟
- حين أتحدث عن جازان، سأذكر الغيب وألف ليلة وليلة والبوح القروي الصامت وكثيراً من أودية الشعر والفرح الشعبي والملهمة التي أنسنت روح القصيدة بداخلي.
«في روحه حلم لم يفقد البصر»
> كيف تصف تجربتك مع فقد البصر؟ أسمع كثيرين يقولون إن إبراهيم حلوش «في روحه حلم لم يفقد البصر».
- تجربتي لن يبصرها أحد غيري أو يعرف كنهها سواي، إنها القصيدة الما قبل والما بعد، لكنها الروح الواحدة التي لا تتغير بفقد الحواس. كينونة الحواس بالشغف، والشغف لم ولن ينطفئ كما أظن:
في روحه حلم لم يفقد البصرا
رغم الضياء الذي عن عينه استترا
يمضي وتحمله للنور بوصلة
من اليقين الذي في قلبه استعرا
يجتاز أودية المعنى ويرشده
سرب من الله في أعماقه انتشرا
يطل من شرفة الآمال وجه غدي
وفي تقاسيمه أستعذب الصورا
> كشاعر فقد البصر... هل تغيرت صورة الأشياء في داخلك... هل أصبحت ترى إلى الوجود؟
- لم أفقد شيئاً، لأن الأشياء باقية وراسخة، والطارئ لا يدوم، أنا كما أنا، والخيال كما هو! إني أمخر دائماً عباب الفلسفة لأنني ما زلت أبحث عن ذاتي التي أحلم بعبور أنيق إليها:
فتى يجيب ولم تبصره أسئلته
ألقى على البحر شعراً فانتشت رئته
يبني من الآه منفى المتعبين فما
كلت يداه، وما خانته أحجيته
يسقي عطاشى المنافي من قصائده
ولم تزل تسكر الأنخاب جمجمته
> كتبت مرة في قصيدة لك: «لن يطفئوا الإنسان فيك... يقينهم أعمى... فأشعل للوجود تأهبك»، هل ما زلت تشعل في الوجود تأهبك؟
- لم أكن أعي كيف كان ذاك البصير يخوض الحياة، وعندما عشت التجربة عرفت شعوره بصدق وحياد. ذاك البصير الذي كانت عصاه تصغي إلى موسيقاه، ذاك الذي لم يكن إلا صدى لخطوات كان يحس بها:
ما زال مخطوفاً... أعد أسماءه
وانثر بأرض العابرين سماءه
فتش عن الكلمات فيه تجد لها
صمتاً، وأشعل للدروب غناءه
> حدثني عن نشاطك... ماذا أنتجت من الشعر ومن الأعمال الأدبية خلال هذه الفترة، ماذا أنجزت على الصعيد العلمي...؟
- ما زالت نشاطاتي وأمسياتي مستمرة داخل الوطن وخارجه، وسأصدر قريباً جداً ديواني الشعري الثاني.
وأما على الصعيد العلمي فقد قبلت ببرنامج الدراسات العليا مرحلة الماجستير تخصص لغويات بجامعة الملك خالد، وأنهيت الدراسة المنهجية بامتياز، والآن أقف على مشارف اختيار موضوع الرسالة.
> يقول بدر شاكر السياب حين ابتلي بالمرض: «لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم - لك الحمد إن الرزايا عطاء - وإن المصيبات بعض الكرم»... إلى أي مدى نجحت في تحويل معاناتك إلى فرصة...
- هذه المرحلة ليست فرصة أبداً بل هي منحة ربانية صادقة قرأت في تفاصيلها روحي أكثر.
> يقول أبو العلاء المعري: «قالوا العمى منظر قبيح - قلت بفقدانكم يهون - والله ما في الوجود شيء تأسى على فقده العيون» ماذا فقدت من بهجة الأشياء؟ وماذا كسبت؟
- أحمل دائماً معي بهجة الأشياء الجميلة في ذاكرة القلب ولذا لم ولن أفقد بريقها، وتظل الحياة شعلة نقتنصها. اكتشفت الحياة بشكل أعمق... وبروحانية وصلت إليها مؤخراً، أجزم أن البياض الذي في السديم يكفي لحياة شعرية بأكملها:
قاب مـوتـیـن...
من حنین ولهفـة كان یجتازني
الطریق بخفـة
مسرعاً كنت...
أمتطي أمنیاتي
كلما اجتزت ضفة...
صرت ضفة
لمح الحزن...
في ضلوع المرایا وتراً ظامئاً یشذب عزفه...
شجر الروح...
مثمر في الحنایا كیف وارى بمقلة الریح نصفه؟
یا فناراً!...
أضاع في دفتر الكون انتظاراً رؤاه تخرس نزفه...
ربما في السدیم...
تقرأ نهراً من معانیك...
فامنح النار رشفة.
> إلى أي مدى تجد كلام بشار بن برد صائباً في تجربتك: «عميت جنيناً والذكاء من العمى - فجئت عجيب الظن للعلم معقلا - وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى - بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا».
- من وجهة نظري، كلام الشاعر الكبير بشار بن برد غير صائب، لأن لكل تجربة غناها ووحيها وتفاصيلها الخاصة... نحن متشابهان لكننا سنظل مختلفين!
> كثير من الكتاب الذين أصيبوا بالعمى كانت إلى جانبهم زوجاتهم، تضيء لهم ما فقدوه: طه حسين (مثلاً) مع زوجته الفرنسية سوزان... كيف تصف أثر زوجتك في هذا المجال؟
- زوجتي العظيمة ليلى لا تقل شأناً عمن ذكرت أو عمن سرد تاريخ الأدب أسماءهن. هذه المرأة الصادقة لم تحسسني في يوم بأنني فقدت البصر!...
وسأظل مبصراً بعيني ليلى.
حفل ديواني الأول «أنثى تحرر الوجع» باسمها كثيراً من صفحة العنوان مروراً بالإهداء إلى نصها الذي وسمت به الديوان وسأبقى ناسجاً بشموس اسمها حرير الأغنيات.
لم تكن ليلى الأساطير إلا بعض ما حظيت به من ليلى الخاصة. ستظل أنثى السماء لدي والأنثى الوحيدة.