نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

وزيرة الخارجية تدخل إلى السياسة من «باب المحاماة»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»
TT

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

في واحدة من موجات النقد التي تعرّضت لها نجلاء المنقوش، منذ تعيينها وزيرة للخارجية لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في ليبيا، تساءل البعض مستغرباً: كيف لهذه السيدة أن تذهب إلى الجنوب الليبي، وتتفقد المعابر؟ أنسيت أنها وزيرة للخارجية وليست مسؤولة عن الدفاع أو الحكم المحلي؟ إلا أنها ردت في محفل عام عندما علت صيحات المستنكرين: «أخجل أن أتحدث باسم الليبيين في الساحات الدولية ولم تطأ قدمي أرض الجنوب».
استغراب بعض المتسائلين مبعثه الجولات المفاجئة للوزيرة الجديدة، وكثرة ترحالها داخلياً وخارجياً في تحرك نادر لمسؤول ليبي حديث العهد بتوليه هذه المهمة؛ فلم يكد يمضي على تولي المنقوش، التي تسلمت حقيبة الخارجية في حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، غير أيام معدودات إلا وشغلت الرأي العام بتعاطيها مع الملفات المؤجلة والشائكة التي خلفتها الحرب على طرابلس، لذا كان طبيعياً أن تتنوع ردود الفعل حيالها، بين مؤيد، ومتحفظ، أو مُحرض عليها مثل الصادق الغرياني مفتي ليبيا السابق، الذي نعتها بأوصاف جارحة، ودعا لطردها خارج العاصمة طرابلس!
عُرفت نجلاء المنقوش فور اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط) » عام 2011 عندما انخرطت في العمل الإعلامي عبر نشاطها وآخرين بتغطية الأحداث الساخنة التي وقعت في بنغازي آنذاك. ويومذاك كانت تتواصل مع الصحافة الأجنبية لنقل الأحداث الجارية، ومنها المأساة التي ألمت بكتيبة بنغازي العسكرية يوم 20 فبراير 2011.
حينذاك ما كانت المنقوش، المحامية وأستاذة القانون الجنائي بجامعة قاريونس (بنغازي)، صحافية محترفة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها اهتمت بنقل وقائع الثورة وإيصال صوت ليبيا إلى العالم الخارجي بطرق عدة، وخصوصاً بعد قطع شبكة «الإنترنت» عن المدينة. وهنا أتاحت إجادة المنقوش اللغة الإنجليزية التواصل مع الجاليات الأجنبية بالمدينة، فراحت تعمل ضمن فريق على تأمين الغذاء والدواء لأفرادها، قبل إجلائهم من البلاد. وبالفعل، خلال الشهور الأولى للثورة أسهمت المنقوش في انخراط العديد من الشباب الليبي في العمل السياسي وإنضاج تجربتهم. ومن ثم، أصبحت المحامية الشابة منسقة «وحدة الاتصال» ما بين الشارع والمجلس الانتقالي، الذي تولى إدارة شؤون البلاد برئاسة وزير العدل المنشق عن نظام معمر القذافي المستشار مصطفى عبد الجليل. وكان من اختصاصات هذه «الوحدة» تنظيم الحلقات البحثية (السيمينارات) لأعضاء المجالس المحلية والوطنية، وإعداد البرامج التثقيفية والتوعوية. ومن هنا وجدت نجلاء المنقوش نفسها في قلب الأحداث وقريبة إلى حد ما من صانعي القرار.

النشأة والبداية
ولدت نجلاء محمد المنقوش (51 سنة) في مدينة بنغازي حاضرة شرق ليبيا، لأسرة مهتمة بالعلم، تجسّدت في والدها الدكتور محمد عبد الله المنقوش طبيب القلب وأمراض الدم. وهذا الواقع أسهم كثيراً في بناء شخصيتها وفتح المجال العام أمامها باكراً للعمل كمحامية، ثم التعمق الدراسي والالتحاق بالمجتمع المدني كواحدة من الناشطات الليبيات في مجال العمل النسائي.
وفي بنغازي، بعد التخرّج في كلية الحقوق بجامعتها، تدرجت المنقوش - التي تعود أصول عائلتها إلى مدينة مصراتة بغرب ليبيا - في مراحل التعليم المختلفة، قبل أن تحصل على الماجستير في تحويل النزاعات بمركز العدالة وبناء السلام بجامعة إيسترن مينونايت بالولايات المتحدة، ومن ثم تحصل على الدكتوراه في جامعة جورج مايسون ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن.

من «الحرب إلى السلم»
لم تكن بداية المنقوش مع متابعة الوضع الراهن عابرة. إذ كانت الحرب التي تركت أثراً غائراً في نفوس من عايشوها، أيضاً، كاشفة لمن يسعون إلى استمراريتها والتربح من ورائها، ولذا لم تتوقف المنقوش طويلاً عند هذه المحطة، بل ذهبت تُؤسس لحياتها العملية كمحامية وناشطة في المجتمع المدني. وفي هذه المرحلة ظلت عيناها على هموم بلدها التي مزقتها الحروب والاشتباكات مدة 10 سنوات، وما بوسعها فعله مع رفاقها لانتزاعها من قبضة الانقسام السياسي والتحزب الجهوي. هذا السبب كان وراء دراساتها وأبحاثها المهتمة بعملية الانتقال من الحرب إلى السلم، وبناء السلم في المجتمعات، وهو ما تجسد في تدريسها للعدالة التصالحية والتوعية بالتأهيل النفسي عقب الحروب والنزاعات المسلحة.
وللعلم، فإن للمنقوش دراسات منشورة في عام 2015؛ منها الممارسات العرفية والعدالة التصالحية في ليبيا «نهج هجين»، بجانب بحوثها في تحليل النزاعات وفضها بجامعة جورج ميسون. وهذا، بجانب كونها عضواً في «منبر المرأة الليبية من أجل السلام» وهي منظمة نسائية غير حكومية تهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية للمرأة الليبية وتعزيز حقوق المواطنة، والعمل على النهوض بليبيا.

«وزيرة الصدفة»
في الحقيقة، لعبت اعتراضات أعضاء مجلس النواب دوراً في أن تحل نجلاء المنقوش وزيرة للخارجية والتعاون الدولي. إذ كانت رغبة رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة منصبّة أولاً على إسناد الحقيبة إلى لمياء أو سدرة، القريبة من عبد الحكيم بلحاج رئيس حزب «الوطن»، إلا أنه بعد رفضها من قبل البرلمان، وقع اختياره لاحقاً على المنقوش. ومن هنا بدأت السيدة الآتية من شرق البلاد مرحلة من أشد الفترات حساسية في تاريخ الدبلوماسية الليبية؛ أقلها ضرورة ترسيخ مبدأ السيادة الوطنية، ووقف التدخلات الخارجية. وحقاً، انطلقت المنقوش سريعاً لتطالب الرأي العام الخارجي، والدول المهتمة بالملف الليبي بأحقية ليبيا بتطهير أرضها من المقاتلين الأجانب و«المرتزقة»، كي يتمكن الليبيون من إجراء انتخابات نزيهة بعيداً عن ضغط السلاح. لكن هذا المطلب فتح عليها أبواب الغضب والانتقادات، ولا سيما، من المعسكر الموالي لتركيا، ووصل الأمر بأحد وجوهه أن طالب قوات «بركان الغضب» التابعة للحكومة بـ«الخروج ضدها»، ووصفها بأنها «تخدم مشروع الأعداء»، في إشارة إلى المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني»!

«وين المنقوش»؟
مع هذا، لم تكفّ وزيرة الخارجية عن المطالبة بإخراج «المرتزقة» من ليبيا، ولسان حالها يقول «نحن نعمل على تحرير قرارنا السيادي». وعندما جدّدت مطلبها ذلك أمام مجلس النواب الإيطالي في أبريل (نيسان) الماضي، أثيرت حالة من اللغط بحجة أنها تحدثت فقط عن «المرتزقة» المواليين لأنقرة، وأغفلت مجموعات «الفاغنر» (وهي شركة أمنية روسية) المتهمين بالحرب في صفوف «الجيش الوطني الليبي». غير أن بياناً لوزارة الخارجية الليبي أُعيد نشره في اليوم التالي لزيارتها إلى إيطاليا، فسّر كيف أن بعض المواقع والفضائيات اجتزأت كلمة المنقوش، لأغراض سياسية. ومن ثم، خرجت المنقوش لتؤكد من جديدة ضرورة إخراج «جميع القوات والمرتزقة الأجانب» من أجل تنفيذ بنود «خريطة برلين»، واتفاق الحوار السياسي في تونس وجنيف.
وفي مؤتمر صحافي ضم وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا بطرابلس، أكدت الوزيرة المنقوش على أن «مبدأ السيادة الوطنية أساس غير قابل للتفاوض في استراتيجية الخارجية الليبية». وأردفت أن استقرار بلادها ينعكس بشكل إيجابي على دول الجوار، بما في ذلك أوروبا، قبل أن تنهي حديثها بالتشديد على ضرورة «خروج كل المرتزقة من أراضي الوطن وفوراً».
هنا أخذت موجة الغضب ضد المنقوش تتصاعد. بل ووصل الأمر بقوات من عملية «بركان الغضب» بالذهاب إلى فندق «كورنثيا» مقر المجلس الرئاسي بالعاصمة من أجل مقابلة رئيسه محمد المنفي، والاعتراض على تمسك المنقوش بإخراج «المرتزقة» الموالين لأنقرة بوصفهم «قوات شرعية» أتت إلى البلاد بطلب رسمي من حكومة «الوفاق الوطني»، وانتشر مقطع فيديو للقوات وهي تملأ بهو الفندق الشهير، وأحدهم يسأل في حدة وغضب: «وين المنقوش»؟
وفي حينه، تساءل الجميع: هل تدفع المنقوش ثمن مطالبتها بمغادرة «المرتزقة»؟ لكن الأخيرة لم تكف في جميع المؤتمر الصحافية مع المسؤولين الأجانب - وخصوصاً نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو - عن المطالبة بإخراج «جميع المقاتلين الأجانب» من البلاد، كما أن حكومة الدبيبة، بدورها، نفت يومذاك تشكيل أي لجان للتحقيق معها... كما ردّد البعض.

بين سبها والقطرون
وقبل أن ينتصف الشهر الثالث من عُمر حكومة الدبيبة، كانت وزيرة خارجيته الشابة قد قطعت شوطاً لا بأس به على مسارات عدة لتنبئ بتعافي الدبلوماسية الليبية. وها هي بحقيبة يد صغيرة يُطل منها كتاب، وجاكيت بذلة على ذراعها تهبط في مطار سبها الدولي من دون تكلّف، في زيارة تستهدف تفقد غالبية مناطق إقليم فزّان الذي طالما شكا من الإقصاء والتمييز والتجاهل الحكومي. وفي سبها، عاصمة فزّان، خفّت لاستقبال المنقوش قيادات تنفيذية وعسكرية ومعها أعيان ومشايخ بالجنوب، لتمكث هناك أيام تستمع وتدوّن وتناقش مشاكل سكانه.
ومن سبها، الموصوفة بـ«عروس الجنوب»، واصلت المنقوش جولتها إلى مدينة القطرون باتجاه حدود النيجر وتشاد، في أول زيارة لمسؤول ليبي إلى هذه المدينة النائية. وتعهدت من هناك بنقل الصورة الحقيقية عن الوضع في المنطقة، والمطالب التي قُدمت إلى مجلس رئاسة الوزراء بالعاصمة طرابلس. بل إنها لم تكتف بذلك، إذ ذهبت لتفقّد معبر التوم الحدودي مع النيجر، وأصغت إلى حديث المواطنين هناك. وعندما أثارت هذه الجولة غير المعهودة تساؤلات عن حدود مسؤولية وزير الخارجية، وهل بينها تفقد الحدود؟ ردت الوزيرة قائلة «أنا مسؤولة ليبية، ولا أستطيع الحديث عن قضايا الجنوب وما يتعلق بالمنافذ البرية والهجرة غير المشروعة، إذا لم أقم بزيارته، فهذا عيب في حقي».

«الحس العروبي»
من ناحية أخرى، رغم التباين الشعبي حيال شخصية المنقوش، ونظرة البعض لها على أنها تميل إلى «معسكر شرق ليبيا على حساب معسكر الغرب»، فإنها تركت وتترك انطباعاً مُرضياً للغالبية بفضل حسن عرضها أزمة بلادهم في المحافل الدولية، وبملامح وجهها التي تعكس جدية وإحساسا بأهمية المنصب، حتى وصل الأمر بالبعض لترشيحها لرئاسة الوزراء في حكومة ما بعد انتخابات ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بل هناك من أطلق عليها لقب «أنجيلا ميركل ليبيا».
هذا، وزادت المنقوش من شعبيتها عندما أظهرت حسّاً عروبياً بارتدائها للوشاح الفلسطيني الشهير أثناء استقبالها في طرابلس مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، وهو مُزين بقبة الصخرة وكلمتي «القدس لنا»، تعبيراً عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، في خطوة لاقت استحسان كثرة من الليبيين والعرب.
ولقد قرأ مقربون من وزيرة الخارجية مجمل تحرّكاتها على المسار الدبلوماسي خلال الأشهر الثالثة الماضية، بأنها لم تنفصل بعد عن كونها شخصية اتسمت منذ بدايتها بحس ثوري، تمثل في انخراطها بالحراك الشعبي الذي أودى بسقوط نظام القذافي لتحقيق حلم الوصول إلى دولة ديمقراطية قائمة على العدل والمساواة، وتؤمن بتداول السلطة. وللتذكير، قبل أن تتسلم المنقوش حقيبتها كان في ليبيا حكومتان تضمان وزيرين للخارجية، الأول محمد طاهر سيالة بالعاصمة، والثاني عبد الهادي الحويج بشرق ليبيا.

حملة تشكيك
أخيراً، كأي شيء في ليبيا، اتسعت دائرة النقد حول مسيرة المنقوش على قصَرها. فهي لم تسلم من الطعن والتشكيك بأنها «تنتصر لجبهة شرق ليبيا على غربها»، وأنها «تربية أميركية» تأسيساً على أنها حصلت على غالبية تعليمها في الولايات المتحدة! بل إن البعض تساءل عما إذا كانت المنقوش قد تحدثت خلال زيارتها مع الدبيبة إلى موسكو عن أوضاع «مرتزقة الفاغنر» في ليبيا؟ غير أن الموقف الليبي الذي عبر عنه الدبيبة خلال اجتماعه مع رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين في موسكو، كان واضحاً إذ طالب بالضغط على شركة «فاغنر» المتهمة بإرسال «مرتزقة» إلى ليبيا، لسحب عناصرها من البلاد.



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.