نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

وزيرة الخارجية تدخل إلى السياسة من «باب المحاماة»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»
TT

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

في واحدة من موجات النقد التي تعرّضت لها نجلاء المنقوش، منذ تعيينها وزيرة للخارجية لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في ليبيا، تساءل البعض مستغرباً: كيف لهذه السيدة أن تذهب إلى الجنوب الليبي، وتتفقد المعابر؟ أنسيت أنها وزيرة للخارجية وليست مسؤولة عن الدفاع أو الحكم المحلي؟ إلا أنها ردت في محفل عام عندما علت صيحات المستنكرين: «أخجل أن أتحدث باسم الليبيين في الساحات الدولية ولم تطأ قدمي أرض الجنوب».
استغراب بعض المتسائلين مبعثه الجولات المفاجئة للوزيرة الجديدة، وكثرة ترحالها داخلياً وخارجياً في تحرك نادر لمسؤول ليبي حديث العهد بتوليه هذه المهمة؛ فلم يكد يمضي على تولي المنقوش، التي تسلمت حقيبة الخارجية في حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، غير أيام معدودات إلا وشغلت الرأي العام بتعاطيها مع الملفات المؤجلة والشائكة التي خلفتها الحرب على طرابلس، لذا كان طبيعياً أن تتنوع ردود الفعل حيالها، بين مؤيد، ومتحفظ، أو مُحرض عليها مثل الصادق الغرياني مفتي ليبيا السابق، الذي نعتها بأوصاف جارحة، ودعا لطردها خارج العاصمة طرابلس!
عُرفت نجلاء المنقوش فور اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط) » عام 2011 عندما انخرطت في العمل الإعلامي عبر نشاطها وآخرين بتغطية الأحداث الساخنة التي وقعت في بنغازي آنذاك. ويومذاك كانت تتواصل مع الصحافة الأجنبية لنقل الأحداث الجارية، ومنها المأساة التي ألمت بكتيبة بنغازي العسكرية يوم 20 فبراير 2011.
حينذاك ما كانت المنقوش، المحامية وأستاذة القانون الجنائي بجامعة قاريونس (بنغازي)، صحافية محترفة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها اهتمت بنقل وقائع الثورة وإيصال صوت ليبيا إلى العالم الخارجي بطرق عدة، وخصوصاً بعد قطع شبكة «الإنترنت» عن المدينة. وهنا أتاحت إجادة المنقوش اللغة الإنجليزية التواصل مع الجاليات الأجنبية بالمدينة، فراحت تعمل ضمن فريق على تأمين الغذاء والدواء لأفرادها، قبل إجلائهم من البلاد. وبالفعل، خلال الشهور الأولى للثورة أسهمت المنقوش في انخراط العديد من الشباب الليبي في العمل السياسي وإنضاج تجربتهم. ومن ثم، أصبحت المحامية الشابة منسقة «وحدة الاتصال» ما بين الشارع والمجلس الانتقالي، الذي تولى إدارة شؤون البلاد برئاسة وزير العدل المنشق عن نظام معمر القذافي المستشار مصطفى عبد الجليل. وكان من اختصاصات هذه «الوحدة» تنظيم الحلقات البحثية (السيمينارات) لأعضاء المجالس المحلية والوطنية، وإعداد البرامج التثقيفية والتوعوية. ومن هنا وجدت نجلاء المنقوش نفسها في قلب الأحداث وقريبة إلى حد ما من صانعي القرار.

النشأة والبداية
ولدت نجلاء محمد المنقوش (51 سنة) في مدينة بنغازي حاضرة شرق ليبيا، لأسرة مهتمة بالعلم، تجسّدت في والدها الدكتور محمد عبد الله المنقوش طبيب القلب وأمراض الدم. وهذا الواقع أسهم كثيراً في بناء شخصيتها وفتح المجال العام أمامها باكراً للعمل كمحامية، ثم التعمق الدراسي والالتحاق بالمجتمع المدني كواحدة من الناشطات الليبيات في مجال العمل النسائي.
وفي بنغازي، بعد التخرّج في كلية الحقوق بجامعتها، تدرجت المنقوش - التي تعود أصول عائلتها إلى مدينة مصراتة بغرب ليبيا - في مراحل التعليم المختلفة، قبل أن تحصل على الماجستير في تحويل النزاعات بمركز العدالة وبناء السلام بجامعة إيسترن مينونايت بالولايات المتحدة، ومن ثم تحصل على الدكتوراه في جامعة جورج مايسون ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن.

من «الحرب إلى السلم»
لم تكن بداية المنقوش مع متابعة الوضع الراهن عابرة. إذ كانت الحرب التي تركت أثراً غائراً في نفوس من عايشوها، أيضاً، كاشفة لمن يسعون إلى استمراريتها والتربح من ورائها، ولذا لم تتوقف المنقوش طويلاً عند هذه المحطة، بل ذهبت تُؤسس لحياتها العملية كمحامية وناشطة في المجتمع المدني. وفي هذه المرحلة ظلت عيناها على هموم بلدها التي مزقتها الحروب والاشتباكات مدة 10 سنوات، وما بوسعها فعله مع رفاقها لانتزاعها من قبضة الانقسام السياسي والتحزب الجهوي. هذا السبب كان وراء دراساتها وأبحاثها المهتمة بعملية الانتقال من الحرب إلى السلم، وبناء السلم في المجتمعات، وهو ما تجسد في تدريسها للعدالة التصالحية والتوعية بالتأهيل النفسي عقب الحروب والنزاعات المسلحة.
وللعلم، فإن للمنقوش دراسات منشورة في عام 2015؛ منها الممارسات العرفية والعدالة التصالحية في ليبيا «نهج هجين»، بجانب بحوثها في تحليل النزاعات وفضها بجامعة جورج ميسون. وهذا، بجانب كونها عضواً في «منبر المرأة الليبية من أجل السلام» وهي منظمة نسائية غير حكومية تهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية للمرأة الليبية وتعزيز حقوق المواطنة، والعمل على النهوض بليبيا.

«وزيرة الصدفة»
في الحقيقة، لعبت اعتراضات أعضاء مجلس النواب دوراً في أن تحل نجلاء المنقوش وزيرة للخارجية والتعاون الدولي. إذ كانت رغبة رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة منصبّة أولاً على إسناد الحقيبة إلى لمياء أو سدرة، القريبة من عبد الحكيم بلحاج رئيس حزب «الوطن»، إلا أنه بعد رفضها من قبل البرلمان، وقع اختياره لاحقاً على المنقوش. ومن هنا بدأت السيدة الآتية من شرق البلاد مرحلة من أشد الفترات حساسية في تاريخ الدبلوماسية الليبية؛ أقلها ضرورة ترسيخ مبدأ السيادة الوطنية، ووقف التدخلات الخارجية. وحقاً، انطلقت المنقوش سريعاً لتطالب الرأي العام الخارجي، والدول المهتمة بالملف الليبي بأحقية ليبيا بتطهير أرضها من المقاتلين الأجانب و«المرتزقة»، كي يتمكن الليبيون من إجراء انتخابات نزيهة بعيداً عن ضغط السلاح. لكن هذا المطلب فتح عليها أبواب الغضب والانتقادات، ولا سيما، من المعسكر الموالي لتركيا، ووصل الأمر بأحد وجوهه أن طالب قوات «بركان الغضب» التابعة للحكومة بـ«الخروج ضدها»، ووصفها بأنها «تخدم مشروع الأعداء»، في إشارة إلى المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني»!

«وين المنقوش»؟
مع هذا، لم تكفّ وزيرة الخارجية عن المطالبة بإخراج «المرتزقة» من ليبيا، ولسان حالها يقول «نحن نعمل على تحرير قرارنا السيادي». وعندما جدّدت مطلبها ذلك أمام مجلس النواب الإيطالي في أبريل (نيسان) الماضي، أثيرت حالة من اللغط بحجة أنها تحدثت فقط عن «المرتزقة» المواليين لأنقرة، وأغفلت مجموعات «الفاغنر» (وهي شركة أمنية روسية) المتهمين بالحرب في صفوف «الجيش الوطني الليبي». غير أن بياناً لوزارة الخارجية الليبي أُعيد نشره في اليوم التالي لزيارتها إلى إيطاليا، فسّر كيف أن بعض المواقع والفضائيات اجتزأت كلمة المنقوش، لأغراض سياسية. ومن ثم، خرجت المنقوش لتؤكد من جديدة ضرورة إخراج «جميع القوات والمرتزقة الأجانب» من أجل تنفيذ بنود «خريطة برلين»، واتفاق الحوار السياسي في تونس وجنيف.
وفي مؤتمر صحافي ضم وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا بطرابلس، أكدت الوزيرة المنقوش على أن «مبدأ السيادة الوطنية أساس غير قابل للتفاوض في استراتيجية الخارجية الليبية». وأردفت أن استقرار بلادها ينعكس بشكل إيجابي على دول الجوار، بما في ذلك أوروبا، قبل أن تنهي حديثها بالتشديد على ضرورة «خروج كل المرتزقة من أراضي الوطن وفوراً».
هنا أخذت موجة الغضب ضد المنقوش تتصاعد. بل ووصل الأمر بقوات من عملية «بركان الغضب» بالذهاب إلى فندق «كورنثيا» مقر المجلس الرئاسي بالعاصمة من أجل مقابلة رئيسه محمد المنفي، والاعتراض على تمسك المنقوش بإخراج «المرتزقة» الموالين لأنقرة بوصفهم «قوات شرعية» أتت إلى البلاد بطلب رسمي من حكومة «الوفاق الوطني»، وانتشر مقطع فيديو للقوات وهي تملأ بهو الفندق الشهير، وأحدهم يسأل في حدة وغضب: «وين المنقوش»؟
وفي حينه، تساءل الجميع: هل تدفع المنقوش ثمن مطالبتها بمغادرة «المرتزقة»؟ لكن الأخيرة لم تكف في جميع المؤتمر الصحافية مع المسؤولين الأجانب - وخصوصاً نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو - عن المطالبة بإخراج «جميع المقاتلين الأجانب» من البلاد، كما أن حكومة الدبيبة، بدورها، نفت يومذاك تشكيل أي لجان للتحقيق معها... كما ردّد البعض.

بين سبها والقطرون
وقبل أن ينتصف الشهر الثالث من عُمر حكومة الدبيبة، كانت وزيرة خارجيته الشابة قد قطعت شوطاً لا بأس به على مسارات عدة لتنبئ بتعافي الدبلوماسية الليبية. وها هي بحقيبة يد صغيرة يُطل منها كتاب، وجاكيت بذلة على ذراعها تهبط في مطار سبها الدولي من دون تكلّف، في زيارة تستهدف تفقد غالبية مناطق إقليم فزّان الذي طالما شكا من الإقصاء والتمييز والتجاهل الحكومي. وفي سبها، عاصمة فزّان، خفّت لاستقبال المنقوش قيادات تنفيذية وعسكرية ومعها أعيان ومشايخ بالجنوب، لتمكث هناك أيام تستمع وتدوّن وتناقش مشاكل سكانه.
ومن سبها، الموصوفة بـ«عروس الجنوب»، واصلت المنقوش جولتها إلى مدينة القطرون باتجاه حدود النيجر وتشاد، في أول زيارة لمسؤول ليبي إلى هذه المدينة النائية. وتعهدت من هناك بنقل الصورة الحقيقية عن الوضع في المنطقة، والمطالب التي قُدمت إلى مجلس رئاسة الوزراء بالعاصمة طرابلس. بل إنها لم تكتف بذلك، إذ ذهبت لتفقّد معبر التوم الحدودي مع النيجر، وأصغت إلى حديث المواطنين هناك. وعندما أثارت هذه الجولة غير المعهودة تساؤلات عن حدود مسؤولية وزير الخارجية، وهل بينها تفقد الحدود؟ ردت الوزيرة قائلة «أنا مسؤولة ليبية، ولا أستطيع الحديث عن قضايا الجنوب وما يتعلق بالمنافذ البرية والهجرة غير المشروعة، إذا لم أقم بزيارته، فهذا عيب في حقي».

«الحس العروبي»
من ناحية أخرى، رغم التباين الشعبي حيال شخصية المنقوش، ونظرة البعض لها على أنها تميل إلى «معسكر شرق ليبيا على حساب معسكر الغرب»، فإنها تركت وتترك انطباعاً مُرضياً للغالبية بفضل حسن عرضها أزمة بلادهم في المحافل الدولية، وبملامح وجهها التي تعكس جدية وإحساسا بأهمية المنصب، حتى وصل الأمر بالبعض لترشيحها لرئاسة الوزراء في حكومة ما بعد انتخابات ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بل هناك من أطلق عليها لقب «أنجيلا ميركل ليبيا».
هذا، وزادت المنقوش من شعبيتها عندما أظهرت حسّاً عروبياً بارتدائها للوشاح الفلسطيني الشهير أثناء استقبالها في طرابلس مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، وهو مُزين بقبة الصخرة وكلمتي «القدس لنا»، تعبيراً عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، في خطوة لاقت استحسان كثرة من الليبيين والعرب.
ولقد قرأ مقربون من وزيرة الخارجية مجمل تحرّكاتها على المسار الدبلوماسي خلال الأشهر الثالثة الماضية، بأنها لم تنفصل بعد عن كونها شخصية اتسمت منذ بدايتها بحس ثوري، تمثل في انخراطها بالحراك الشعبي الذي أودى بسقوط نظام القذافي لتحقيق حلم الوصول إلى دولة ديمقراطية قائمة على العدل والمساواة، وتؤمن بتداول السلطة. وللتذكير، قبل أن تتسلم المنقوش حقيبتها كان في ليبيا حكومتان تضمان وزيرين للخارجية، الأول محمد طاهر سيالة بالعاصمة، والثاني عبد الهادي الحويج بشرق ليبيا.

حملة تشكيك
أخيراً، كأي شيء في ليبيا، اتسعت دائرة النقد حول مسيرة المنقوش على قصَرها. فهي لم تسلم من الطعن والتشكيك بأنها «تنتصر لجبهة شرق ليبيا على غربها»، وأنها «تربية أميركية» تأسيساً على أنها حصلت على غالبية تعليمها في الولايات المتحدة! بل إن البعض تساءل عما إذا كانت المنقوش قد تحدثت خلال زيارتها مع الدبيبة إلى موسكو عن أوضاع «مرتزقة الفاغنر» في ليبيا؟ غير أن الموقف الليبي الذي عبر عنه الدبيبة خلال اجتماعه مع رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين في موسكو، كان واضحاً إذ طالب بالضغط على شركة «فاغنر» المتهمة بإرسال «مرتزقة» إلى ليبيا، لسحب عناصرها من البلاد.



قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
TT

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

جاء الإعلان عندما أبلغ وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري وسائل الإعلام أن «الهند والصين توصلتا إلى اتفاق على طول خط السيطرة الفعلية»، ولم يلبث أن أكد لين جيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إبرام الاتفاق.

يُذكر أن المواجهة على امتداد «خط السيطرة الفعلية» (الحدودي)، بدأت بمناوشات بين القوات الهندية والصينية على ضفاف بحيرة بانغونغ خلال مايو (أيار) 2020. ثم توترت العلاقات بين البلدين بعد اندلاع اشتباكات مميتة في يونيو (حزيران) 2020 – تضمنت استخدام الصخور والقضبان الحديدية وتبادل اللكمات - حول نهر غالوان، الواقع على ارتفاع كبير، وبانغونغ تسو في إقليم لاداخ؛ ما أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً، إلى جانب عدد غير معروف من القوات الصينية، قدّرته وسائل إعلام روسية بما يتجاوز 40. سقوط أول الضحايا على «خط السيطرة الفعلية» منذ 45 سنة دفع العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوى لها منذ حرب الحدود عام 1962. وأدّت التدابير المضادة القوية للهند، والوجود العسكري الكثيف لها، إلى مواجهة حدودية استمرت لأكثر من أربع سنوات، مع تمركز أكثر من 50 ألف جندي على الجانبين. ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن مجمل العلاقات مع الصين «يتعذر تطبيعها من دون إقرار حالة من السلام والهدوء على الحدود» بينهما.

«خط السيطرة الفعلية»... نقطة اشتعال تاريخية

يكمن السبب الجذري للصراع بين الهند والصين، في حدودهما المشتركة الممتدة لمسافة 3440 كيلومتراً، والتي يشار إليها عادةً باسم «خط السيطرة الفعلية». ولطالما كانت هذه الحدود الجبلية غير المحدّدة على نحو واضح، ولا سيما أنها تمر عبر تضاريس وعرة، مصدراً دائماً للتوتر بين القوتين النوويتين. وبعكس الحدود الدولية التقليدية، يشكل «خط السيطرة الفعلية» خط الحدود بين الصين والهند فقط «بحكم الأمر الواقع»؟ ذلك أن ثمة تبايناً كبيراً بين البلدين حيال تصوره وتعريفه.

تاريخياً، لدى كل من الهند والصين وجهة نظر خاصة مختلفة بشأن ترسيم خط السيطرة الفعلية؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال نزاعات متكرّرة حول السيطرة على النقاط الاستراتيجية على طول الحدود. وبناءً عليه؛ ما دفع إذن باتجاه هذا التطور الإيجابي في العلاقات؟

في هذا الصدد، أعرب الصحافي الهندي جواراف ساوانت، الذي يزور روسيا حالياً لتغطية أخبار مجموعة «البريكس»، عن اعتقاده بأن بين العوامل وراء ذوبان الثلوج بين نيودلهي وبكين «انتخابات الشهر المقبل في الولايات المتحدة». وشرح أن «السباق الانتخابي (الأميركي) متقارب، وثمة احتمال واضح لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض». وأردف أن تراجع مستوى التوتر بالعلاقات بين البلدين سيخدم كلاً منهما. ومن وجهة نظر الصين، فإن قيادة هندية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة منفصلة عن المصالح الغربية أفضل بالتأكيد لبكين.

أهمية قمة «البريكس»

والآن، لماذا تشكّل قمة «البريكس» السادسة عشرة لحظة مهمة، في الدبلوماسية العالمية؟

في الواقع، للمرة الأولى منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا اجتمع عدد كبير من قادة العالم في روسيا، وهو ما فُسّر بأنه فشل للمحاولات الغربية في عزل موسكو، وهذا أمر قد يؤثر كذلك على توازن القوى العالمي. ثم إنه يدور موضوع قمة هذا العام حول «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

معلومٌ أن مجموعة «البريكس» انطلقت، بداية الأمر، من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا. إلا أنها سرعان ما برزت منصةً رئيسية للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي عام 2023، انضم أعضاء جدد للمجموعة، بينهم المملكة العربية السعودية، وإيران، ومصر والإمارات العربية المتحدة؛ ما جعلها أكثر شمولاً.

واليوم، مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 60 تريليون دولار، تمثل دول «البريكس» 37.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة بذلك «مجموعة الدول السبع». ومع مواصلة «البريكس» توسعها، كبر دورها وازداد وضوحاً على صعيد إعادة تشكيل ديناميكيات القوة العالمية. وهنا أضاف الصحافي الهندي ساوانت أن «هذا النوع من الود الذي يتأمله الهنود والروس والصينيون على الأرض - إلى جانب آخرين داخل (البريكس) - من شأنه أن يثير قلق الغرب»، مشيراً إلى أن مودي وشي سيعقدان لقاءً ثنائياً على هامش القمة.

ولجهة مسألة «العزلة»، تكشف قمة «البريكس» عن أن روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة، لدى توجه قادة من مختلف الدول إلى قازان للمشاركة في مناقشات يمكن أن تشكل مستقبل الحكم العالمي. واللافت، طبعاً، أن القمة لم تجتذب حلفاء روسيا المقربين فحسب، بل اجتذبت أيضاً عدداً من الدول التي تتطلع إلى تعزيز العلاقات مع موسكو.

قمة «البريكس» المنعقدة لثلاثة أيام، وسط إجراءات أمنية مشددة، تعد أكبر حدث دولي تستضيفه روسيا منذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وفي حين يسعى بوتين، صراحةً، إلى بناء تحالف من خلال «البريكس» قادر على تحدّي «هيمنة» الغرب، صرّح رئيس الوزراء الهندي مودي أثناء زيارته روسيا بأن زيارتيه إلى روسيا في الأشهر الثلاثة الماضية «تعكسان التنسيق الوثيق والصداقة العميقة بين البلدين». وأضاف: «لقد عزّزت قمتنا السنوية في موسكو في يوليو (تموز)، تعاوننا في كل المجالات... وفي غضون 15 سنة، بنت مجموعة (البريكس) هويتها الخاصة. واليوم، تسعى الكثير من دول العالم للانضمام إليها».

وحول الموضوع الأوكراني، من وجهة نظر هندية، يرى المحلل السياسي سوشانت سارين أنه «على الصعيد الدبلوماسي، سار مودي على حبل مشدود منذ بدء الصراع في أوكرانيا... إذ تعهّدت نيودلهي بتقديم الدعم الإنساني لكييف، لكن مع تجنب الإدانة الصريحة للهجوم الروسي بالوقت ذاته. ثم في يوليو، زار مودي موسكو، أعقب ذلك بزيارة إلى كييف خلال أغسطس (آب)، داعياً إلى عقد مباحثات لإنهاء الصراع. وأثمرت جهوده بالفعل إلى دعوات إلى أن تضطلع الهند بدور وسيط بين الجانبين».

كذلك، مع إعراب مودي عن دعم الهند «حل عاجلاً» للوضع في أوكرانيا، ومعه مختلف جهود إرساء السلام والاستقرار، خاطب الزعيم الهندي نظيره الروسي قائلاً في حديث بينهما: «كنا على اتصال دائم بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونعتقد أن النزاعات يجب أن تُحل سلمياً فقط. ونحن ندعم تماماً الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار سريعاً... وكل جهودنا تعطي الأولوية للجوانب الإنسانية».

الرئيس الروسي يلقي كلمته في القمة (رويترز)

من جهتها، أضافت مصادر بوزارة الشؤون الخارجية الهندية، على صلة بمكتب «البريكس» أن «المناقشات حول إقرار عملة للـ(بريكس)، لتحدي هيمنة الدولار الأميركي تكتسب زخماً. كما تقدّم القمة منصّة للدول تعينها على توحيد صفوفها ضد العقوبات التعسفية التي يفرضها الغرب. ومع توسع (البريكس) وتطورها، بات من الواضح أن هذه المجموعة تستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نظام عالمي جديد، وتحدي الهيمنة الغربية التقليدية. وسيكون دور الهند في (البريكس)، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، أساسياً في تحديد كيفية تطور هذا التوازن الجديد للقوى».

لقاء محتمل بين مودي وشي

وعودة إلى موضوع العلاقات الهندية - الصينية، ذكّر الصحافي مانيش جها، بأنه «لم يعقد الطرفان مباحثات رسمية ثنائية منذ عام 2019؛ ولذا فإن أي تقارب اليوم سيكون تطوّراً محموداً... وسيحظى بمتابعة أميركية من كثب». وأضاف جها: «الواضح أن واشنطن استغلت فتور العلاقات بين مودي وشي للتقرّب من نيودلهي، وتعزيز التجمّعات الإقليمية مثل مجموعة (الكواد «الرباعية»)، التي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، مع العمل على الضغط على الهند للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا؛ الأمر الذي رفضته نيودلهي حتى الآن». ثم تابع: «لا يمكن تجاهل دور روسيا بصفتها وسيطاً في هذه العملية، ذلك أنها تظل شريكاً استراتيجياً رئيسياً لكل من الهند والصين. ورغم التحديات التي تفرضها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حافظت الهند على علاقة متوازنة مع روسيا؛ ما يضمن بقاء مكانتها على الساحة العالمية قوية».

في الحقيقة، هذا الوضع مربح لكل من الهند والصين. فبالنسبة للصين، التي تمرّ بفترة ركود اقتصادي، سيكون استئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي مع الهند بمثابة مكافأة. وبسبب حروب التعرفات الجمركية مع الولايات المتحدة - التي بدأت مع إدارة دونالد ترمب واستمرت خلال رئاسة جو بايدن - بدت بكين حريصة على استئناف العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، بينما يواصل القادة الميدانيون العسكريون والدبلوماسيون مناقشة وحل السقطات التي وقعت عام 2020، وهذا رغم إصرار نيودلهي على عدم استئناف العلاقات الطبيعية مع بكين إلى حين تسوية القضايا العالقة منذ وقوع المواجهات العسكرية ذلك العام.

في هذه الأثناء، تراقب واشنطن التطوّرات. وفعلاً صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأن واشنطن تتابع هذه التطورات (في العلاقات الهندية – الصينية عن قرب». لكن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت نيودلهي قد أبلغت واشنطن - الشريك الجيوسياسي الرئيسي – بالاتفاق.

في هذا السياق، نشير إلى أنه منذ مواجهات عام 2020، عززت نيودلهي علاقاتها مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره الدولتان «تحركات بكين العدوانية ضد جيرانها». وجرى تسليط الضوء على هذه العلاقة المتعمقة من خلال توقيع «اتفاقيات التعاون الدفاعي»، بما في ذلك تقارير عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ومع ذلك، ظهرت مخاوف في واشنطن بشأن التقارب المتزايد بين نيودلهي وموسكو، وخصوصاً في خضم الضغوط الغربية لعزل الرئيس بوتين دولياً، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.

من جانب آخر، من وجهة نظر الصين، فإن القضاء على أسباب الانزعاج من الهند قد يجعل الفلبين نقطة الاشتعال الرئيسية بسبب مطالبات إقليمية متضاربة. (إلى جانب تايوان، التي تدّعي الصين أحقية السيادة عليها). أما الهند فترى أن تحقيق انفراج في العلاقات مع الصين، أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يتيح لها مساحة أكبر للمناورة التفاوضية مع شركائها الغربيين، خصوصاً واشنطن، في أعقاب التوتر الدبلوماسي مع كندا.