احتواء «التنين الصيني» العملاق دونه صعوبات كبرى

مع تشابك المصالح واختلاف الأولويات واستراتيجيات بكين العملية

احتواء «التنين الصيني» العملاق دونه صعوبات كبرى
TT

احتواء «التنين الصيني» العملاق دونه صعوبات كبرى

احتواء «التنين الصيني» العملاق دونه صعوبات كبرى

تستعرض الصين علانية طموحاتها الجيو - سياسية، متحدية في خضم ذلك نفوذ وهيمنة الكثير من القوى الأخرى. وفي إطار تأكيده على طموحات بلاده صراحة، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ عام 2017، أن الصين دخلت حقبة جديدة ويجب «أن تحتل صدارة العالم». وبالنظر إلى عدد سكانها البالغ ملياراً و300 مليون نسمة، تحظى الصين بالموارد البشرية اللازمة لنشر قوات عسكرية ضخمة وفي الوقت ذاته توفير العمالة اللازمة للمصانع.
وحقاً، كان من شأن الصعود الصيني على امتداد العقدين الماضيين إعادة صياغة المشهد السياسي العالمي. وبداية من انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في ديسمبر (كانون الأول) 2001، تمكّنت الصين سريعاً من تحويل اقتصادها من كونه «مصنع العالم المنخفض التكلفة» إلى قوة عالمية رائدة بمجال التكنولوجيات المتقدمة. وعلى امتداد هذه الطريق، تحوّلت الصين إلى ثاني أكبر اقتصادات العالم، ولا تسبقها راهناً سوى الولايات المتحدة، وفق أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2020.
بينما يتوقع الخبير الاقتصادي الهندي أرفيند سوبرامانيان، أن تحل العملة الصينية محل الدولار الأميركي باعتبارها العملة الاحتياطية الأولى في العالم قبل عام 2035، صاحب الصعود الاقتصادي الصيني تأكيد متزايد من قبل بكين على نفوذها على الصعيد الجيو - سياسي؛ الأمر الذي يعكس تنامي إمكانات القوتين الصلبة والناعمة لدى الصين.
كذلك، ينظر خبراء ومعلقون على نحو متزايد إلى الصين باعتبارها قوة عالمية عظمى، ومن المعتقد على نطاق واسع أن الصعود الصيني يوحي بتوزيع جديد للقوة على الصعيد العالمي. وفي هذا الصدد، علقت نيروباما راو، وزيرة الخارجية السابقة والسفيرة الهندية السابقة لدى الصين، قائلة «في العقد الماضي، عملت بكين على نحو ممنهج من أجل بسط هيمنتها الاقتصادية والعسكرية، كما من خلال نفوذها الناعم بمجال الديون. كذلك زادت ملامح الاستبداد في ظل حكم شي. وتستقي الصين اليوم سلوكها القوي القائم على استعراض العضلات من قدراتها الاقتصادية والعسكرية الجديدة وصورتها باعتبارها تقترب من كونها قوة عظمى».
وأضافت راو، أنه إبّان فترة عملها في بكين، اكتشفت أن الصين تتميز بقدر كبير من المرونة في تعاملاتها الدبلوماسية، وأنه ليس لديها مشكلة في التعامل مع أنظمة ديمقراطية أو حكام استبداديين أو حكام ديكتاتوريين عسكريين ما دام أن تعاملها معهم يصبّ في مصالحها الاقتصادية والسياسية. وأردفت راو، أن بكين لا تعبأ باللون الآيديولوجي لشركائها، بجانب أنها تعتمد على مجموعة متنوعة من الأدوات، من الاستثمار الاقتصادي إلى الدبلوماسية العامة إلى الإكراه العسكري، وتتعاون مع مجموعة متنوعة من الدول الأخرى من أجل تحقيق الأهداف الصينية.

«مبادرة الحزام والطريق»
الصين تتمتع حقاً بتاريخ طويل في مجالي المساعدات والاستثمار في العالم النامي. واليوم، تتخذ مبادرتها «الحزام والطريق» خطوات كبرى ليس داخل آسيا وأفريقيا فحسب، بل كذلك داخل أوروبا. وتُعد «مبادرة الحزام والطريق» الأداة الأساسية التي تسعى الصين من خلالها إلى إطالة أمد تحالفاتها الجديدة وتوسيع دائرة نفوذها العالمي.
وتساعد هذه المبادرة على ربط الصين وآسيا وروسيا وأوروبا برّاً، بجانب أنها تربط المناطق الصينية الساحلية بآسيا وجنوب المحيط الهادي والشرق الأوسط. ويرى خبراء أن «المبادرة» ترمي فعلياً إلى توسيع نطاق النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري الصيني حول العالم.
أيضاً، يصف البعض مجمل الاستراتيجية الجيو - اقتصادية والسياسية التي تنتهجها الصين في إطار «مبادرة الحزام والطريق» بأنها تدور حول الاستثمار وإثقال دول أخرى بالديون وإضعافها. والملاحظ أن الرئيس شي قدّم قروضاً تنموية هائلة لدول في جنوب آسيا وأوروبا، ولقد أسيئت إدارتها أو استولت عليها حكومات فاسدة. وعندما تعجز الدول عن سداد الديون، تستولي الصين على أصول استراتيجية تملكها.
داخل أفريقيا، حيث لا توجد للصين مصالح جيو - سياسية راهناً، لا يصر شي على سداد القروض، وذلك في بادرة حسن نوايا منه يعتبرها بمثابة استثمار على المدى الطويل. في حين يشير تقرير صادر عن البنك الآسيوي للتنمية عام 2017، إلى أن استثمارات البنية التحتية في آسيا تتطلّب 26 تريليون دولار حتى عام 2030، ويتأهب الاقتصاد الصيني البالغ حجمه 13 تريليون دولار، بالتأكيد للمساهمة فيها.
يضمن هذا النهج للصين نصيباً لمنتجاتها داخل أسواق الدول المشاركة في «مبادرة الحزام والطريق». إلا أن الملاحظ أن بكين تعمد على نحو متزايد إلى استغلال شراكاتها الاقتصادية من أجل تعزيز مصالحها السياسية أيضاً. وخلف المزايا التجارية المباشرة التي تعرضها، تساعد المبادرة الصين على بناء علاقات صديقة وإقرار معايير صناعية، وربما إتاحة الوصول إلى شبكات المعلومات والبنى التحتية، وفي المقابل، تعاون هي في بنائها... الأمر الذي سيخلق بدوره سبلاً جديدة أمام النفوذ السياسي والدبلوماسي لبكين داخل وسط آسيا وجنوبها وأفريقيا وأوروبا.

قوة عسكرية صاعدة
في هذا السياق، يعلّق بهونشوك ستوبادان، السفير الهندي السابق والزميل رفيع المستوى بمعهد دراسات وتحليلات الدفاع، قائلاً «بعدما كان الجيش الصيني في الماضي متواضع التدريب والتسليح، نجحت القوات العسكرية الصينية اليوم في تحويل نفسها إلى قوة قادرة على القتال في البر والبحر والجو والفضاء، بجانب المجال (السيبراني). وحالياً، يعتبر الجيش الصيني الأضخم على مستوى العالم؛ إذ يضم مليونَي فرد تحت السلاح، بجانب تمتع الصين بثاني أكبر موازنة دفاع بقيمة 202 مليار دولار. وتتمثل الأولوية أمام القيادة في بكين اليوم في تحديث الجيش الصيني على نحو كامل بحلول عام 2027، بالتزامن مع مئوية تأسيسه. وللعلم، يوجه الرئيس شي مزيداً من الإنفاق إلى تطوير أنظمة تسليح متطورة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ويحصل الجيش على معدّاته المتطورة على نحو متزايد من جانب صناعة دفاع صينية نجحت في تحويل نفسها إلى عنصر عالمي فاعل.
ولكن رغم ما سبق، لا ينصب اهتمام الصين حصراً أو بصورة أساسية على الجانب العسكري من التنافس على الساحة الدولية، ذلك أن الجيش يشكل مجرد جزء من إجمالي التهديد الصادر العملاق الصيني، في حين تظل التنمية السياسية والاقتصادية تمثلان أولويات أعلى.
ويضيف ستوبادان، أنه بخلاف الحال مع المؤسسة العسكرية السوفياتية، التي نشرت قواتها وقدراتها على الساحة العالمية، يبقى اهتمام الجيش الصيني منصباً على الأزمات الطارئة القريبة من أرض الوطن. ولكن مع ذلك، فإن تشييد قواعد عسكرية صينية في الخارج، بجانب تعزيز الأسطول وقوات مشاة البحرية، يوحيان بوضوح أن الجيش في المستقبل سيكون قادراً على تنفيذ عمليات مستدامة على مسافة بعيدة للغاية على الأراضي الصينية.

تحدي الولايات المتحدة
وبالفعل، بلغ الصعود الصيني درجة أصبح يشكل عندها تحدياً مباشراً للزعامة الأميركية على مستوى العالم. وجاءت جائحة «كوفيد ـ 19» لتفاقم حالة التنافس ما بين الصين والولايات المتحدة. ومن المؤكد أنه كانت هناك من قبل تحديات أمام الهيمنة الأميركية على العالم خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان أبرزها الاتحاد السوفياتي. غير أن موسكو عجزت في نهاية الأمر عن مضاهاة القوة الأميركية أو تشكيل تحدٍ حقيقي أمام نظام الاقتصاديات المفتوحة الذي أقرته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الصين تبدو اليوم مصدر تحدٍ كبير - حتى أكبر عن الاتحاد السوفياتي السابق - لمكانة الولايات المتحدة، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل الاقتصادي كذلك.
للدلالة على ما تقدم، عام 2019، بلغ إجمالي الناتج الداخلي للولايات المتحدة 21.4 تريليون دولار، بينما بلغ إجمالي الناتج الداخلي للصين 14.1 تريليون دولار تبعاً للقيمة الاسمية. ومن حيث تعادل القوة الشرائية، بلغ إجمالي الناتج الداخلي الصيني 27 مليار دولار. وفيما يتعلق بتنافسية الشركات، كان للصين 119 شركة بقائمة «فورتشن غلوبال» الذي يضم 500 شركة، بينما بلغ عدد الشركات الأميركية الواردة في القائمة 121، وذلك عام 2019. ومن حيث الابتكار تبعاً للإنفاق بمجال البحث والتطوير في البلاد، تصدرت الولايات المتحدة العالم بفارق كبير عمّن يليها بإنفاق بلغ 581 مليار دولار عام 2018، بينما حلّت الصين في المرتبة الثانية بإنفاق بلغ 293 مليار دولار. وتقدمت الدولتان معاً بفارق كبير عن الدولة صاحبة المركز الثالث، اليابان، التي بلغ إنفاقها 193 مليار دولار.
مثل الولايات المتحدة، فإن الصين بلد في حجم قارة وتملك مثلها موارد هائلة. وثمة أمر آخر لا يقل أهمية، هو أن اقتصادها حقق نمواً مستمراً، وهو يحتل المرتبة الثانية عالميا اليوم ولا يسبقه حجماً سوى الاقتصاد الأميركي. وتبعاً لما ورد بتقرير «تفويض للقيادة عام 2020: رؤية واضحة للإدارة الأميركية ـ مقتطفات»، فإن نمو الاقتصاد الصيني لم يكن السبب الوحيد وراء تفاقم التوتر بين بكين وواشنطن، وإنما من الواضح أن بكين عمدت على نحو متزايد إلى تحدي النظام الدولي في صورته الراهنة فيما يخص الخطوط البحرية على امتداد ساحل المحيط الهادئ، في مياه تحمل نصف تجارة العالم. هذا، ولطالما هددت الصين، تايوان التي تعتبر بمثابة «جيب» ديمقراطي في المنطقة، وادعت أن الصين أنه يحق لها استخدام أي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة، لفرض إعادة «الإقليم المارق» إليها.
علاوة على ذلك، حرصت الصين على توسيع نطاق علاقاتها التجارية مع أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي؛ الأمر الذي شكل تهديداً للهيمنة الأميركية التاريخية في هذه المنطقة. وقّدرت دراسة صادرة عن «المجلس الأطلسي»، مؤسسة فكرية مقرها واشنطن، ارتفاع حجم التجارة بين دول أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي من ناحية والصين من ناحية أخرى لأكثر عن 700 مليار دولار أميركي بحلول عام 2035.

النفوذ داخل أوروبا
أوروبيا أيضاً، شهدت الروابط بين أوروبا والصين تنامياً هائلاً. واليوم، تعد الصين المصدر الأكبر للواردات لأوروبا وثاني أكبر سوق تصديرية للقارة. وتشكل الصين 19 في المائة من إجمالي السلع المستوردة داخل الاتحاد الأوروبي، وترتفع هذه النسبة بدرجة كبيرة للغاية في بعض الدول مثل تشيكيا ولكسمبورغ. ثم إن الصين ثالث أكبر سوق متلقية لصادرات الاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة وبريطانيا.
وفيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين من جانب الاتحاد الأوروبي، تأتي ألمانيا وفرنسا في الصدارة، لكن تبقى هناك دول أخرى أصغر اقتصادياً مثل السويد ولكسمبورغ وآيرلندا على مسافة غير بعيدة من الجارتين الأوروبيتين.
أما ألمانيا فهي تمثّل حالة نادرة كدولة عضو بالاتحاد الأوروبي؛ إذ لديها فائض تجاري أمام الصين. ذلك أن 44 في المائة من صادرات الاتحاد الأوروبي للصين تأتي من ألمانيا. كذلك تحولت شركات ألمانية إلى عناصر تجارية راسخة داخل السوق الصينية؛ الأمر الذي جعل ألمانيا أكبر المستثمرين داخل الصين.
حتى الآن، استثمرت الصين 60 مليار دولار داخل أوروبا، في الوقت الذي وقّعت 23 دولة أوروبية على «مبادرة الحزام والطريق» الصينية. وخلال المنتدى الثاني لـ«مبادرة الحزام والطريق» المنعقد في بكين خلال أبريل (نيسان) 2019، حضر ما لا يقل عن 12 رئيس دولة ورئيس حكومة أوروبياً، بينهم مسؤولون من النمسا، والمجر، وإيطاليا، واليونان، والبرتغال، وتشيكيا، ومالطة.

الصورة في آسيا
وفي آسيا، مع تزايد القوة الصينية باستمرار، بدأ نفوذ بكين يحل محل نفوذ واشنطن داخل أجزاء من آسيا بعدما استمر فيها لعقود عديدة. والواضح أن الحدود العامة للتنافس المستعر بين واشنطن وبكين سيرسم ملامح مستقبل قارة آسيا بأكملها.
لتاريخه، لا تزال القدرات العسكرية الأميركية مهيمنة على آسيا، لكن الصين شرعت فعلاً في بناء قوة عسكرية متزايدة ونفوذ اقتصادي؛ سعياً منها لإعادة ترتيب شكل المنطقة، وجذب الكثير من حلفاء واشنطن التقليديين نحوها. وبالتوازي، زادت التجارة بين جميع الدول الآسيوية والصين على نحو ملحوظ؛ ما خلق وضعاً يفتقر إلى التوازن، ويتطور يوماً بعد آخر مع تفوق معدل النمو الاقتصادي الصيني على نظيره الأميركي. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن دولاً بمنطقة آسيا المطلة على المحيط الهادي، منها اليابان والصين والدول الـ10 الأعضاء في منظمة «آسيان»، وقّعت على اتفاق «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» الذي يغطي قرابة ثلث الاقتصاد العالمي، وذلك بعد ثماني سنوات من المفاوضات، التي انسحبت منها الهند العام الماضي. وتغطي هذه الاتفاقية التجارية 2.2 مليار نسمة بإجمالي ناتج داخلي يبلغ 26.2 تريليون دولار. وبين الدول الأخرى الموقّعة على «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية ـ الأمر الذي يبني أكبر «منطقة تجارة حرة» على مستوى آسيا تضم نحو ثلث سكان العالم.
أبهيجيتها سنغ، من قسم الدراسات الشرقية بجامعة دلهي، يقول بهذا الشأن «رغم الصدع السياسي القائم بين طوكيو وبكين حول السيادة على جزر سيكاكو التي تطلق عليها الصين اسم جزر دياويو، ورغم شعور اليابان بالقلق من الصعود العسكري الصيني وسلوك بكين القوي في بحري الصين الجنوبي والشرقي، تعدّ اليابان ثالث أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية داخل الصين وثالث أكبر شريك تجاري لها، وتقدّر قيمة التعاون التجاري بينهما بـ317 مليار دولار على امتداد السنوات الـ45 الماضية».
وأخيراً، مع انشغال العالم بجائحة «كوفيد - 19»، تواصل الصين تعزز تحصينها لجزرها في بحر الصين الجنوبي، من دون استجابة تذكر من المجتمع الدولي. وحالياً، يوجد لدى الصين عشرات الممرات وحظائر الطائرات لطائرات مقاتلة على عدد من الجزر، وكذلك صواريخ تسيارية مضادة للسفن وبطاريات مضادة للطائرات ودفاعات صاروخية.

لا مؤشرات في الأفق على إمكانية لجم «القوة الصينية»
> تعد مسألة نفوذ الصين من القضايا الشديدة التعقيد عند التعامل معها من خلال استراتيجيات الاحتواء القديمة، أو حتى التهديد بالعقوبات التجارية. فالصين عملاق اقتصادي أضخم بكثير من الاتحاد السوفياتي السابق. وهنا يقول نيرانجان ساهو من الـ«أوبزرفر ريسرتش فاونديشن» شارحاً «تمكنت القوى الغربية بسهولة من احتواء الاتحاد السوفياتي نظراً لأنه رغم كونه قوة عسكرية عملاقة، كان اقتصاده أصغر بكثير وغير مندمج بدرجة مؤثرة في الاقتصاد العالمي. على النقيض من ذلك، فإن الصين تشكل ثاني أكبر اقتصاد في العالم (ومن المحتمل أن تتفوق على الولايات المتحدة في غضون أقل عن عقد) ولا تزال محور ًالتجارة العالمية الراهنة والنظام الاقتصادي. ثم إنها قوة عظمى بالمجال التكنولوجي ولديها ترسانة عسكرية ضخمة. وعليه، ليس من السهل فرض العزلة على الصين. وتبدو أمثلة الخوف من الرقابة وحظر شبكات (هواوي) للجيل الخامس شاهدا على ذلك».
ويضيف ساهو «بينما قررت بعض الدول الديمقراطية المتقدمة مثل أستراليا، وألمانيا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وبعدها بفترة الهند، منع (هواوي) من بناء شبكات الجيل الخامس داخل أراضيها، فإن الكثير من دول أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية أبدت ترحيبها بدخول (هواوي) في منظوماتها للاتصال عن بعد. وينطبق الأمر ذاته على (مبادرة الحزام والطريق)، ذلك أن الكثير من الدول الأوروبية سعت علانية لجذب استثمارات صينية في البنية التحتية الحيوية ويعتبر اتفاق التجارة الحرة الأخير بين الصين والاتحاد الأوروبي نموذجاً على ذلك. وعليه، فإن احتواء الصين لن يكون بالأمر اليسير، بل وربما يخلق فوضى كبرى تعصف بالاقتصاد العالمي».
وفيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، فإنه على ما يبدو يخوض معركة وجودية في مواجهة قيادات شعبوية وأحزاب كارهة للأجانب. ويفضح توقيع الاتحاد الأوروبي على «اتفاقية الاستثمار الشامل» مع الصين في وقت قريب - رغم انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأخيرة بحق الأويغور المسلمين وتقويضها الحريات السياسية داخل هونغ كونغ - الضعف الذي يشعر به الاتحاد الأوروبي. ووفق محللين، نجحت الصين في دفع رجالها عبر صفوف الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية. وعليه، فإنه بمجرد طرح اسمها، تبدو جميع الكيانات الدولية في صفها. وبالتأكيد سيسهل على الصين استغلال هذه الظروف لمصلحتها، الأمر الذي حققته بالفعل داخل آسيا (في إطار النزاعات المشتعلة في بحر الصين الجنوبي، ونفوذها المتزايد داخل «آسيان»، وكذلك في أفريقيا وأوروبا، تحديداً دول وسط وشرق أوروبا). وتذكر المبادرات التي تقودها الصين، خاصة منتدى «16 زائد واحد» مع دول أوروبية والدفاع المستميت من جانب اليونان ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي عن السجل الصيني بمجال حقوق الإنسان، الجميع وبوضوح أنه ليس من السهل عزل قوة عظمى صاعدة وكبح جماحها.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.