ناصر الشثري... عاش مستشاراً للملوك والأمراء ودُفِنَ بجوارهم

العالم نجل العلّامة «أبي حبيب» حاجّ القذافي... ورحل محباً ومحبوباً

TT

ناصر الشثري... عاش مستشاراً للملوك والأمراء ودُفِنَ بجوارهم

ودعت الرياض أمس الجمعة الشيخ ناصر بن عبد العزيز الشثري، أحد الشخصيات السعودية التي لازمت ملوك الدولة السعودية وأمراءها، وكان محبًا ومحبوبًا من الجميع، وارتبط اسم الراحل بالملوك: خالد وفهد وعبد الله، والأمير سلطان رحمهم الله، وصولًا إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي زاره في المستشفى ومنزله عدة مرات، كما زاره ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خلال عيد الفطر الماضي، واطمأن على صحته واعتبر نفسه ابنًا له، حين رفض الجلوس في المقعد المخصص له وأصر على الجلوس بالقرب من الشيخ، وتبادل معه أحاديث المودة والتقدير، وكان للراحل مع الملوك والأمراء السعوديين قصص محبة متبادلة تنم عن تقديرهم وثقتهم في الشيخ الراحل.
وشهدت مقبرة «العود» الواقعة جنوب العاصمة السعودية الرياض وعرفت بمقبرة الملوك، مواراة الشيخ ناصر بن عبد العزيز الشثري، الثرى بعد حياة حافلة بالعطاء والحضور اللافت في كل المجالات، وبرحيله انطوت صفحة ناصعة من صفحات الوطن، دونت حياة شخصية كانت حاضرة في المشهد السعودي ونقشت اسمها في ذاكرة الوطن بمداد من الإخلاص والوفاء والمحبة والحكمة، وحسن الرأي وقول الحق، وقد كان شفيعا ووسيط خير لأصحاب المظالم والحاجات، وكل هذا أهلّه لأن يكون ملازمًا لملوك الدولة وأمرائها ومستشارا لهم، إضافة إلى تمتعه بعلاقات وصلات قوية ومميزة، مع قادة ومسؤولي الدول الخليجية والعربية والعالمية، حيث كان الراحل اسما ثابتا في قائمة الوفود الرسمية السعودية التي رافقت عددا من ملوك الدولة السعودية وأعمدة الحكم في زياراتهم الخارجية أو ضمن الجانب السعودي أثناء زيارة قادة وزعماء الدول إلى الرياض.
عاش الراحل في بيت عرف بحبه للعلم حيث كان والده متبحرا بعلوم زمانه، واشتهر بأبي حبيب وارتبط هذا الاسم بالعائلة وتفردت به، وسجل الراحل الشيخ ناصر الشثري اسمه أحد شهود وشخوص قصص وروايات حقيقية كثيرة، لعل أبرزها ما يتعلق بطروحات الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وهي قصص أقرب إلى التراجيديا، منها إلى الواقع، بعضها تم تسجيلها في مؤلفات، وأخرى تم تداولها بين الناس تتعلق بالموضوع نفسه، لكنها جميعا تدل على واسع علم الشيخ الراحل وحكمته وقدرته على الرد في مسائل حاضرة لديه ولا تقبل الاختلاف أو الاجتهاد، إضافة لمواقف في مجالات أخرى كما كشفت عن تميزه بالحكمة وقول الحق الذي يراه في خدمة من يعمل معهم ويقدم لهم النصح أو الاستشارات دون خوف أو وجل لقناعته أن ما يطرحه سيجد ردة فعل إيجابية ومقنعة، فقد كان الناصح الأمين، والشفيع ووسيط الخير الصادق، لكل من يطرق بابه لإيصال مظلمته وحاجته إلى المعنيين من ملوك وأمراء ومسؤولين ووزراء وعلماء ووجهاء، إذا كان مقتنعا بوجاهتها وليس فيها تجاوز، كما كان الراحل المدافع المخلص عن مسائل وقضايا تتعلق بدينه ووطنه وقيادته.
أحاط الوزير غازي القصيبي الذي كان قريبا منه ببعض من القصص في هذا الشأن، كان الشيخ الراحل ناصر الشثري أحد شخوصها ومنها قصة العقيد الراحل معمر القذافي التي كانت علاقات بلاده ليبيا مع الدول العربية ومنها السعودية ينتابها في كثير من الأحيان الفتور والشد والجذب، ثم العودة إلى رأب الصدع، وفتح صفحة جديدة لعلاقات أكثر قوة ووضوحا، ونسيان الماضي، وقد تبادل زعماء السعودية والعقيد القذافي الزيارات بين البلدين، وجرت خلالها قصص منها قصة حدثت أثناء زيارة الملك خالد لليبيا بدعوة من رئيسها القذافي عام 1980م، بحضور الذكرى العاشرة لثورة الفاتح، وكان الوفد السعودي المرافق للملك خالد يضم شخصيات كبيرة، والشيخ الشثري من ضمنهم، والدكتور غازي القصيبي راوي هذه القصة في كتابه «الوزير المرافق»، حيث ذكر أن من ضمن برنامج الزيارة للوفد السعودي برئاسة الملك خالد رحلة إلى الجبل الأخضر واصطحبهم الرئيس القذافي، أقلتهم حافلة، وخلال الرحلة تحدث القذافي عن موضوعات وقضايا وأفكار متنوعة ما بين سياسية واقتصادية وغيرها، بعضها أزعج الوفد السعودي، فانبرى له الوفد، ومنهم الشيخ الشثري بفصاحته وسعة اطلاعه في العلوم الشرعية والتاريخية، وقدم حججا وأسانيد تبين التجاوزات التي طرحها القذافي باعتبارها خارجة عن الثابت والمألوف، وبعدها عن الواقعية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد تم تداول قصة حدثت للشيخ الشثري مع القذافي خلال الزيارة، والذي دعاه الأخير للبقاء في ليبيا أياما بعد مغادرة الوفد السعودي، لاصطحابه في جولات مماثلة على معالم ليبيا وكان الملك خالد وأعضاء الوفد يستمعون إلى ما عرضه القذافي على الشيخ ناصر، فما كان الملك خالد إلا أن ابتسم موجهًا الحديث للشيخ الشثري ويثنيه عن قبول عرض القذافي ملمحا بدعابته إلى أن الشثري بقبوله عرض البقاء في ليبيا سوف يواجه المصير نفسه الذي واجهه الإمام الشيعي موسى الصدر، قائلا: «إذا قعدت في ليبيا فسوف يغيب شمسك مثل ما غيب شمس موسى الصدر»، في إشارة إلى الشكوك والاتهامات التي تم تداولها بهذا الشأن حول اختفاء الصدر وما زال ملف الاختفاء مفتوحًا إلى اليوم رغم مرور أكثر من أربعة عقود على هذا الحادث، وعندما انتهى الملك خالد من كلامه تعالت الضحكات.
ويحمل الإعلامي السعودي الزميل عبد الله ناصر الشهري ممثل وكالة الأسوشييتد برس الأميركية في السعودية في ذاكرته قصصا عن الراحل الشيخ ناصر الشثري، عايشها بنفسه حيث أبلغ «الشرق الأوسط» أمس أن الراحل كان محل ثقة القيادة السعودية خلال عدة عقود كما أنه وسيط وشفيع خير لكثير من أبناء السعودية، وساهم بحضوره في حل كثير من الإشكالات وقضاء حوائج عدد من أصحاب الحاجات.
يقول الشهري : أثناء زيارة الملك خالد إلى بريطانيا قررت الحكومة البريطانية أن يكون قصر باكنغهام مقرًا لإقامة جلالته تكريمًا له فكان الشيخ ناصر إلى جانب الأمير سلطان الوحيدين اللذين أقاما مع الملك خالد في القصر، مضيفا: كان الراحل الشثري محل ثقة الأمير سلطان وكان يعهد إليه بإيصال بعض صدقاته وتغطياته للأسر المحتاجة وقضاء مديونيات البعض من المعسرين وتفقد أحوال أسرهم.
وأشار إلى أنه شخصيا ذهب إليه يطلب شفاعته للتعجيل بإصدار قرار في قضية معروضة أمام مجلس القضاء الأعلى، من شأنه إنهاء نزاع بين قريتين فلم يتردد الراحل في إيصال هذا الطلب، وكان تدخله سببا في إنهاء ذلك النزاع.


مقالات ذات صلة

ولي العهد يؤدي صلاة الميت على الأميرة الجوهرة بنت عبد العزيز

الخليج ولي العهد يؤدي صلاة الميت على الأميرة الجوهرة بنت عبد العزيز

ولي العهد يؤدي صلاة الميت على الأميرة الجوهرة بنت عبد العزيز

أدّى الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، صلاة الميت، على الأميرة الفقيدة الجوهرة بنت عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمها الله - التي أقيمت عقب صلاة الجمعة في جامع الإمام تركي بن عبد الله بمدينة الرياض. كما أدى الصلاة مع ولي العهد، الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في مملكة البحرين، وأبناء الفقيدة - رحمها الله: الأمير فهد بن خالد، والأمير سعود بن خالد، والأمير أحمد بن خالد. وأدى الصلاة مع ولي العهد على الفقيدة - رحمها الله - كل من: الأمير محمد بن ناصر أمير منطقة جازان، والأمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض، والأمير تركي بن عبد ا

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الديوان الملكي السعودي يعلن وفاة الأمير متعب بن عبد العزيز

الديوان الملكي السعودي يعلن وفاة الأمير متعب بن عبد العزيز

أعلن الديوان الملكي السعودي اليوم (الاثنين) وفاة الأمير متعب بن عبد العزيز، عن عمر 88 عاماً، وسيصلى عليه يوم غد الثلاثاء بالمسجد الحرام، في مكة المكرمة. والأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود، من مواليد الرياض عام 1931م، تقلد منصب وزير الشؤون البلدية والقروية، وهو الابن السابع عشر من أبناء الملك عبد العزيز الذكور، وشغل عدة مناصب وزارية حتى عام 2009؛ حيث قدم حينها استقالته من وزارة الشؤون البلدية والقروية. وتقلد الأمير الراحل عدة مناصب أهمها: أمير منطقة مكة المكرمة، ووزير الأشغال العامة والإسكان، ووزير الشؤون البلدية والقروية، ووزير المياه والكهرباء. وابتعث الأمير متعب بن عبد العزيز إلى الولايات ال

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج خادم الحرمين يصل إلى مكة المكرمة لقضاء العشر الأواخر من رمضان

خادم الحرمين يصل إلى مكة المكرمة لقضاء العشر الأواخر من رمضان

يقضي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك بجوار بيت الله الحرام، حيث وصل مساء أمس إلى مكة المكرمة قادماً من جدة. وكان في استقباله لدى وصوله الى قصر الصفا، الأمير فيصل بن تركي بن عبد الله، والأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، والأمير عبد الله بن بندر بن عبد العزيز نائب أمير منطقة مكة المكرمة، والأمير فيصل بن محمد بن سعد وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة المساعد للحقوق. كما كان في استقباله، الشيخ الدكتور صالح بن حميد عضو هيئة كبار العلماء المستشار في الديوان الملكي، والشيخ عبد الله المنيع عضو هيئة كبار ال

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
الخليج خادم الحرمين بحث مع الزياني المستجدات في الساحة الخليجية

خادم الحرمين بحث مع الزياني المستجدات في الساحة الخليجية

استقبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أمس في مكتبه بقصر السلام في جدة، الدكتور عبد اللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي هنأ الملك سلمان بشهر رمضان المبارك، فيما استعرض اللقاء، عدداً من الموضوعات على الساحة الخليجية. وكان خادم الحرمين الشريفين استقبل أمس في جدة، عميد السلك الدبلوماسي سفير جمهورية جيبوتي لدى السعودية ضياء الدين سعيد بامخرمة، ورؤساء المجموعات الدبلوماسية المعتمدين لدى المملكة وهم كل من: سفير إريتريا رئيس المجموعة الأفريقية محمد عمر محمود، وسفير سلطنة عمان رئيس المجموعة العربية أحمد بن هلال البوسعيدي، وسفير الأرجنتين رئيس مجموعة أمي

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج خادم الحرمين يلتقي رئيس لجنة الشؤون الخارجية في {النواب} الأميركي

خادم الحرمين يلتقي رئيس لجنة الشؤون الخارجية في {النواب} الأميركي

التقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في مكتبه بقصر اليمامة في الرياض، أمس، إد رويس رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)