صعبٌ على الابنة أن تحمل الأب في ضميرها مدى العُمر. وشاقٌّ عليها التذكُّر وممازحة الجمر. تماسكت نجوى كرم في ختام «الدنيا علّمتني» الذي عرضته «إم بي سي» ليل الأحد، إلى أن قرصتها ذكرى أبيها، فاهتزّ الدمع. تحمل المرأة كثيراً من الصلابة ومعاندة الحياة.
لكنّ الأمر يختلف تماماً أمام سيرة الوالدين. الأب تحديداً، حين يكون من قماشة النبلاء. فنانة من لبنان، ترمز إلى جباله العالية وتحاكي صخره المتجذّر بالأرض، تألّمت وتعلّمت، تلقّت السهام وأخرجتها منها ببراعة. وحده الشوق إلى الأب استفزّ دمعها، فذرفته بفخر وكرامة.
مَن مثل نجوى كرم، يروّض انفعالاته ويضبط إيقاعاته. مسؤولية كبرى أن تحمل المرأة صورة وطنها، وتحاول، رغم الزلازل، ألا تقع. «الدنيا علّمتني»، برنامج للأمل. كلّ ضيف عبرة، وخلف الشهرة وبريق الوصول، حكاية عن الدرب المزروع بالشوك والمحفوف بالخيبة.
منهم من كبُرت أشواكه حتى تسلّقت جدران الروح، ومنهم من أتقن فن تأديبها وتقليم أطرافها المسمومة. في الحالتين، لا مفرّ من المواجهة والمحاولة، والحمد.
بدأت نجوى كرم حياتها بالحلم: «صدّقتُ أحلامي ومشيت». وصدّقتْ إشارات النجوم، والعلاقة بين هذه اللآلئ المرتفعة في السماء والإنسان.
في لبنان، يقول الأجداد: «نجم فلان محبوب»، «نجم فلان ضعيف»، «نجم فلان قوي»، ومنذ صغرها تتساءل: أي علاقة لنا مع النجمات؟ لم تُرد من الإطلالة في الحلقة الأخيرة من «الدنيا علّمتني» الانجرار خلف لحظات درامية مُحبِطة. أو التورّط في بكائيات مجانية ومواقف مُفتعلة. أطلّت بالأبيض، كدلالة إلى الأمل.
ينسجم الثوب الناصع مع ألوان الكنبة وشكل الديكور المنزلي، فيريح العين. يهمّ نجوى كرم ما ستتركه الحلقة. توصل رسائل متعلّقة بالقوّة والغرور والإيمان، وتنتقي من حقل التجارب ما يُزهر ويُلهم. تتحدّث عن القرارات: «تعلّمت اتّخاذها بنفسي وتحمّل النتائج. تربّينا على أنّ الآخرين يتّخذونها عنّا. الدنيا علّمتني العكس». بدت ناضجة، متلوّعة في الأعماق، لكنّها راضية، سعيدة بهذه النسخة حيال تقبّل الذات. الخيبات كثيرة، «ولم يعدمني الفشل. تعلّمت النهوض مجدداً». تؤمن بعدالة الله: «ربّي شايف، وسيعيد إليّ حقّي لو بعد حين»، ومع كلّ اكتواء، تكتشف زاوية من زواياها الإنسانية، فيتنفّس الجرح ويعيدها أكثر قوّة إلى الحياة. أخافها الغرور، واليوم تدرك أنّ القمم ليست ملك المرء، فمقابل الارتفاع يَلوح من بعيد شبحٌ يُدعى السقوط. تكشف أوراقها: «علّمتني الدنيا الاحتفاظ بأسراري في صندوق أبيض.
ومَن لا يخجل من سرّ، يودعه الصناديق البيضاء. وتعلّمتُ البحث عن راحتي النفسية، كخطوة أولى للسعادة. فالتوقعات الكبيرة للسعادة غير موجودة، فهي تبدأ بخطوة. كلّ من مرّوا في حياتنا، تركوا فيها شكلاً من أشكال الدرس. مرّة بالصداقة ومرّة بالوفاء وقلّة الوفاء. وبالعِشرة وأولاد الأصل. هناك دائماً سبب خلف وجود الإنسان، وعليه السعي إلى ترك بصمة تبقى من بعده. بالنسبة إليّ، يستحيل العيش من دون هدف. الأهداف تجعلنا نستمتع بالنجاح مهما بلغ حجم المعاناة». تُكمل سرد الدروس: «في إمكان كلّ امرأة أن تكون تاتشرية». تُلمح إلى القوّة، كالفولاذية مارغريت تاتشر. بالقرار وتحمّل النتيجة. «تاتشرية»، روعة الوصف.
حذّرها الأب خوفاً عليها: «قد يكون اسمكِ عقدة في المستقبل لأي رجل تشائين الارتباط به. قد يأتي يوم ويَهِتُّكِ (كلمة لبنانية تعني المعايرة)، قائلاً: شو يعني، وإذا كنتِ نجوى كرم». عزَّ عليه أن تواجه «طفلته» الصعوبات.
الابنة مهما كبرت لا تكفّ عن كونها طفلة في عينَي أبيها. أراد أن يجنّبها ثمن الشهرة، فلا تفقد بساطة العيش: «أعارضكِ من أجلكِ». وباركَ مسيرتها، لكن بشرط: «حافظي على رأسي مرفوعاً». وكان كلّما مشى بين الناس، أشاروا بالإصبع: «هذا والد نجوى كرم!».
هنا غصّت. شعر الدمع برغبة في الخروج من خباياه. «يا بي شلّحتيني اسمي»، رنّت في رأسها هذه الجملة، بصوت الأب. وبكت. للشرح، «شلّحتيني» مفردة لبنانية، تعني نزعتِ مني الاسم. أي أنّه لم يعد فلان الفلاني، بل بات بين الناس «بي نجوى كرم». التصق به اسمها، ولم تعد شخصاً واحداً. أصبحت هي وهو. هي والرهبة. لكن ماذا عن الأم؟ أيَّ الدروس تركت في الابنة؟ «التضحية». تروي كيف سلختها عن محيطها وجيرانها وأهلها، وانتقلتا إلى مكان آخر، حيث الألفة أقل والوحشة قاسية. وكلّما شعرت الأم بالفقد، جلست بجانب شباك المطبخ وأطلقت بعض دمعها. «تغنّي لتتسلّى وتتذكّر». أجمل البشر مَن يحملون أصناف الوفاء في دواخلهم ويُكملون السنوات وهم ممتلئون نعمة. لم يَفُتها تذكُّر الحجْر: «علّمني أنّه لا بدّ من وجود غدٍ، مهما طالت الأيام، ولا حياة من دون حلم». المرأة جمالُها نضجها، ونجوى كرم نضجها كجمال الجبال. «تاتشرية».
8:18 دقيقة
الـ«تاتشرية» نجوى كرم: الصخر أيضاً يذرف الدمع
https://aawsat.com/home/article/3021096/%D8%A7%D9%84%D9%80%C2%AB%D8%AA%D8%A7%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9%C2%BB-%D9%86%D8%AC%D9%88%D9%89-%D9%83%D8%B1%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AE%D8%B1-%D8%A3%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D9%8B-%D9%8A%D8%B0%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%B9
الـ«تاتشرية» نجوى كرم: الصخر أيضاً يذرف الدمع
بكت في «الدنيا علّمتني» ولم يعدمها الفشل
- بيروت: فاطمة عبد الله
- بيروت: فاطمة عبد الله
الـ«تاتشرية» نجوى كرم: الصخر أيضاً يذرف الدمع
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة