هل يؤثر «تعزيز الخصوصية» على سوق الإعلانات الرقمية؟

هل يؤثر «تعزيز الخصوصية» على سوق الإعلانات الرقمية؟
TT

هل يؤثر «تعزيز الخصوصية» على سوق الإعلانات الرقمية؟

هل يؤثر «تعزيز الخصوصية» على سوق الإعلانات الرقمية؟

يتساءل العاملون في مجال الإعلانات عن تأثير اتجاه «غوغل» و«آبل» للتوقف عن تتبع بيانات المستخدمين لـ«تعزيز الخصوصية»، عبر ما يسمى بـ«الكوكيز» أو «ملفات ارتباط الطرف الثالث». ويأتي هذا التساؤل وسط مخاوف من «احتمالية أن يمتد تأثير هذا التوجه للناشرين من صحف ومواقع الإلكترونية تعتمد بشكل أساسي على عائدات الإعلانات الرقمية خاصة إعلانات غوغل».
خبراء إعلاميون يرون أنه مع تزايد الجدل بشأن جمع بيانات المستخدمين، بات من الضروري وضع قوانين جديدة تحمي المستخدمين وبياناتهم، وهذه القوانين ستسهم في تراجع الاعتماد على الإعلانات الرقمية.
وحسب الخبراء فإن الناشرين في منطقة الشرق الأوسط قد يواجهون تحدياً كبيراً بسبب تراجع عائدات الإعلانات الرقمية. ولذا فهم يحثون على تنويع مصادر الدخل وتطوير المحتوى لمواجهة هذه التحديات.
شركة «غوغل» كانت في يناير (كانون الثاني) 2020 قد أعلنت اعتزامها التوقف عن استخدام ملفات ارتباط الطرف الثالث بحلول عام 2022، وهي الملفات المسؤولة عن جمع البيانات الديموغرافية عن مستخدمي الإنترنت مثل: العمر، والنوع، وتفضيلات المنتجات، ومعلومات عن تاريخ عمليات البحث التي قام بها المستخدم، وتستخدم هذه البيانات في الإعلانات، لاستهداف شريحة معينة من الجمهور. وللعلم، ليس «غوغل كروم» وحده في هذا الشأن، إذ سبقه متصفحات أخرى مثل «فاير فوكس» الذي باشر الحد من تتبع البيانات منذ عام 2013، ومتصفح «سفاري» التابع لـ«آبل» الذي بدأ منع تتبع البيانات منذ عام 2017، إلا أن تأثير «غوغل» أكبر لأنه يتحكم بثلثي سوق متصفّحي الإنترنت، وذلك حسب دراسة نشرها موقع «ستاتيستا» المتخصّص في دراسات سوق الإنترنت، خلال مارس (آذار) الماضي. ووفق «ستاتيستا» فإن «80 في المائة من المسوّقين يعتمدون على ملفات ارتباط الطرف الثالث، وينفق نحو 19.7 مليار دولار على هذا النوع من البيانات، بينما يُنفق 4 مليارات دولار على حلول بديلة للإعلانات.
في هذا الشأن، تؤكد سامية عايش، الصحافية الفلسطينية والمدربة في مجال الإعلام الرقمي، في حوار مع «الشرق الأوسط» أنه «مع تزايد الجدل بشأن جمع بيانات المستخدمين وتتبع سلوكهم على المواقع المختلفة، أصبح من الضروري وضع قوانين جديدة تحمي المستخدمين وبياناتهم. وهذه القوانين الجديدة بالتأكيد ستسهم في تراجع الاعتماد على الإعلانات الرقمية ومحاولة إيجاد البديل». وأضافت أن «سوق الإعلانات الرقمية بدأت تشهد تراجعاً منذ فترة، نظراً لتغير سلوكيات المستخدمين عبر المواقع الإلكترونية، وتركيزهم على زيارة المواقع الاجتماعية، إضافة إلى الوعي المتزايد بشأن جمع بياناتهم»، مشيرة إلى أن «عائدات الإعلانات في هبوط، وهذا أمر طبيعي، وسيدفع هذه المواقع إلى ابتكار طرق جديدة للحصول على عائدات».
ويتفق مع هذا خالد البرماوي، وهو صحافي مصري وخبير في الإعلام الرقمي، قائلاً إن «هذه السياسات ستؤثر بشكل كبير على سوق الإعلانات الرقمية». وتابع موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «شركات التكنولوجيا كانت مجبرة على تعزيز الخصوصية تحت ضغوط الاتحاد الأوروبي والحملات الأخيرة. وبالفعل اتخذت شركات مثل غوغل وأمازون إجراءات للحد من تتبع بيانات المستخدمين، وإن كانت فيسبوك لم تتخذ إجراءات فعلية حتى الآن». وأردف أن «المشكلة في منطقة الشرق الأوسط ستكون في مدى تواؤم المواقع الإلكترونية مع السياسات الجديدة، لا سيما أن بعضها يتيح جميع البيانات دون استئذان».
بدوره يرى عاصم البصال، المدير التنفيذي لـ«مباشر ميديا»، وهي مجموعة سعودية متخصصة في الأسواق المالية ولها فروع في 14 دولة، أن «التأثير على الناشرين وسوق الإعلانات الرقمية حدث بالفعل قبل حتى قرارات وقف تتبع البيانات الأخيرة». وأضاف البصال لـ«الشرق الأوسط» أن «المواقع الإلكترونية وصناعة النشر تأثرت بسبب ظهور غوغل وفيسبوك في عالم الإعلانات الرقمية، وجرى تخفيض سعر الإعلان بشكل كبير ليصبح 1 في المائة، مما كان عليه في السابق، وهو ما أثر على عائدات الناشرين». واستطرد أنه «ربما كان هذا أحد الأسباب التي دفعت غوغل للإعلان عن مشروع لدعم الناشرين بـ120 ألف دولار، بينما دخلت فيسبوك لتقديم دعم للصحافيين كأفراد».
عودة إلى دراسة موقع «ستاتيستا» فإنها أشارت إلى «تراجع تقديرات عائدات الإعلانات الرقمية للمواقع الإعلامية بنسبة 5.8 في المائة عام 2020 مقارنة بعام 2019 لتقدر العائدات بنحو 578 مليار دولار». وتوقعت أن «تنمو بنسبة 12 في المائة العام الجاري مع التعافي من تأثيرات جائحة (كوفيد – 19)». وكانت دراسة أخرى لـ«ستاتيستا» في مايو (أيار) الماضي قد بينت «تراجع العائدات بسبب جائحة (كوفيد - 19)... وتوقّع المسوّقين تراجعاً آخر بسبب غياب الكوكيز، حيث يعتقد 69 في المائة من المسوّقين، أن تقنين ملفات ارتباط الطرف الثالث سيؤثر على الإعلانات الرقمية؛ لكنه لن يساعد المستخدمين في تعزيز خصوصيته وفقاً لـ62 في المائة من المسوّقين». وأيضاً بحسب موقع «ستاتيستا»، و«كحل لغياب ملفات ارتباط الطرف الثالث بدأ المسوقون البحث عن حلول تسويقية بديلة تعتمد على ملفات ارتباط الطرف الأول، والبريد الإلكتروني، والهوية الرقمية العالمية، ويعتقد 60 في المائة من المسوّقين أن الحلول المعتمدة على الهويات المتعددة ستكون ضرورية، كما ضاعف 38 في المائة من المسوقين من إنفاقهم على الحلول البديلة».
البصال برى أن الناشرين في أوروبا وأميركا «استغلوا (كوفيد - 19) رقمياً في تسريع تحولهم الرقمي، لأنهم يعتمدون على الاشتراكات بشكل أكبر كمصدر للدخل، وعلى بيع الإعلانات بشكل مباشر، لذلك ليس لديهم أزمة». ويؤكد أن «من بين عيوب إعلانات غوغل التي تعتمد عليها المواقع، هو العجز عن السيطرة على نوعية الإعلانات التي تظهر للقارئ. وبالتالي، قد تظهر إعلانات لا تتماشى مع السياسة التحريرية للمؤسسة أو حتى مع المجتمع». ومن ثم يوضح أن «السعي وراء الترافيك دمّر المحتوى، كما دمر الصناعة التي كانت مرشحة أن تتجاوز التلفزيون؛ لكنها للأسف تراجعت بسبب غوغل وفيسبوك».
أما سامية عايش فترى أن «الناشر لا يدرك أن المؤسسات التقنية باتت تستغل المحتوى الذي يقدمه لاجتذاب الجمهور، وكل ما تقدمه هذه الشركات هو المنصة، بينما الجوهر الحقيقي، هو المحتوى الذي يقدمه الناشر مجاناً. لذلك بات ضرورياً أن يحصل صانع المحتوى على ما يستحقه من عائدات مالية مقابل المحتوى، مع الحفاظ على أمان المستخدم الرقمي، بحيث لا يتحول إلى منتج في نهاية المطاف».
ووفق عايش «على المؤسسات الإعلامية ألا يكون مصدر دخلها من جهة واحدة لا تملك السيطرة عليها... فماذا لو حدث أي تغيير على سياسة الإعلانات؟». وتضيف «هذا بالتأكيد سيؤثر سلباً على الناشرين... الذين يجب أن يملكوا مصادر دخلهم 100 في المائة، أو بنسبة كبيرة. وهناك طرق أخرى كثيرة للحصول على العائدات، بدأت مؤسسات مختلفة حول العالم باستخدامها، مثل الاشتراكات، والعضويات، والتبرعات، وإقامة النشاطات وغيرها».
وتعتقد عايش أن «المحتوى الجيد القادر على الصمود واجتذاب القارئ، يمكن أن يشجع الناس على أن يدفعوا في مقابله. وعلى الناشر ألا يطلب اشتراكات كبيرة، فهو يرغب في أن يصبح الجمهور مستعداً للدفع تماماً مثل الاشتراك في منصات الأفلام، والمباريات، وألعاب الفيديو وغيرها». وتتابع «ثقافة الدفع موجودة؛ لكن ما ينقص هو المحتوى الجيد... أما السعي وراء الترافيك وعدد الزيارات، وكل هذه المعايير الكمية، فكانت سبباً أساسياً في تدهور المحتوى، إذ أصبحت المواقع تبحث عن السهل، وتنشر ما تعتقد أن الجمهور يبحث عنه، وهذه مغالطة كبيرة».
وفي حين يقترح البرماوي أن «تعتمد الصحف والمواقع نظاما إعلانيا خاصا وشراكات إقليمية لتكوين شبكة خاصة للإعلانات بعيداً عن شبكة غوغل، إضافة إلى بيع الإعلانات مباشرة للمعلن»، يحث البصال المواقع الإلكترونية «على تنويع مصادر الدخل، من خلال تقديم محتوى يمكن أن يدفع المستهلك للحصول عليه، والتعامل المباشر مع المعلنين من خلال وكالات الإعلانات، وإقناع المعلن أن الإعلان في الموقع جزء من تسويق اسمه وسمعته». ويشير البصال في هذا الصدد إلى أن «سوق الإعلانات الرقمية اختلفت، فالمعلن لم يعد يرغب في عدد مشاهدات؛ بل في أن يؤدي الإعلان إلى عملية بيع أو شراء، وهذه مشكلة في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا يتفاعل المستخدم بشكل كبير مع الإعلانات». ثم يقول إن «المشكلة في منطقة الشرق الأوسط، هو عدم وجود كيان يجمع الناشرين معاً، ليشكّلوا تكتلاً يستطيع التفاوض مع عمالقة التكنولوجيا كما يحدث في فرنسا وأستراليا. مثل هذا الكيان لو شُكّل سيجبر غوغل، وغيرها، أن تدفع للناشرين لقاء المحتوى الذي تنشره لديها مجاناً».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام