في مولدافيا... شباب محطّم بهجرة الوالدين

ثلث السكان غادروا البلاد بحثاً عن عمل

في مولدافيا... شباب محطّم بهجرة الوالدين
TT

في مولدافيا... شباب محطّم بهجرة الوالدين

في مولدافيا... شباب محطّم بهجرة الوالدين

في سن الثالثة والعشرين، تمثل أورا موتروك جيلاً من شباب مولدافيين نشأوا من دون ذويهم الذين دفعهم الفقر إلى الهجرة.
كانت أورا تبلغ عامين ونصف العام عندما تركتها والدتها عند جديها للذهاب إلى رومانيا المجاورة بحثاً عن عمل.
وتروي الشابة لوكالة الصحافة الفرنسية: «أخبرتني والدتي بأن نوبات غضب كانت تنتابني في كل مرة كانت تغادر فيها. كانت تخبرني بأنها ستحضر لي دمى، لكنني لم أهتم، أردت فقط أن تبقى معي»، مضيفة أن نشأتها دون والديها تركت «فجوة كبيرة».
أورا هي واحدة من ملايين الأطفال في العالم «الذين تركوا في بلدهم»، فيما ذهب أحد والديهم أو كلاهما إلى مكان آخر بحثاً عن عمل، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف).
في سوق بياترا نامت في شمال شرقي رومانيا، حيث تدير كشكا، لا تستطيع والدتها ليليا كبح دموعها قائلة: «كنت أعلم كم كانت تتألم. على مدى سنوات، ترددت أصداء بكائها في رأسي (...) لكنه كان الحل الوحيد للخروج من الفقر».
فقر وفساد مستشرٍ ونظام صحي منهك... كلها عوامل دفعت مليون شخص في مولدافيا، أو ما يقرب من ثلث السكان، إلى الهجرة منذ أوائل التسعينات. وتملك البلاد التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، واحداً من أعلى معدلات الانخفاض السكاني في العالم.
والأموال التي يرسلها المهاجرون لعائلاتهم (1.4 مليار دولار عام 2020 أو 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) تسمح للعديد من الأسر بأن تتمكن من الصمود في هذا البلد الريفي.
لكن بالنسبة إلى بعض القصر الذين بقوا في مولدافيا (أكثر من 100 ألف حالياً وفق تقديرات)، فإن هذا النزوح الجماعي كان «مأساة»، كما تقول ناديجدا زوبكو، مديرة مكتب العلاقات مع المغتربين.
وتوضح تاتيانا تورتشينا، أستاذة علم النفس في جامعة كيشيناو، أن هؤلاء الأطفال غالباً ما عاشوا تجارب مؤلمة لم يمحها الوقت ولا الهدايا المرسلة لمناسبة أعياد ميلادهم، من «شعور بعدم الأمان والشعور بالتخلي وغياب العاطفة».
كما تحدثت عن حالات سوء معاملة وانتهاك جنسي ارتكبها أقارب لهم وحتى دفع فتيات صغيرات إلى الدعارة.
ومرت أورا بتجربة سيئة في مرحلة المراهقة، وتقول: «كان لدي الكثير من الأسئلة ولم يكن لدي أحد لأناقشها معه».
لم يكن بإمكان والدتها الاتصال بها إلا مرتين أو ثلاث مرات فقط في الشهر، بسبب نقص المال، فيما هاجر والدها إلى موسكو بعدما وجد وظيفة.
اضطرت أورا للاعتناء بحديقة خضر ودواجن مع شقيقيها، وكان عليها أن تدبر أمرها بنفسها منذ أن بلغت 12 عاماً.
وهي تقول إنها أصبحت «أكثر مسؤولية». لكن «كنت غاضبة من والدَي لأنهما تركانا بمفردنا».
إلا أن هذه الطالبة في علم النفس تضيف أنها فهمت أخيراً أن «لا أحد يغادر بطيبه».
في محاولة لمكافحة تناقص عدد السكان، تقدم حكومة حوافز لإغراء المهاجرين للعودة، بما فيها دعم مالي للذين يعودون لإنشاء أعمالهم الخاصة في البلاد.
لكن يبدو أن ذلك لم يكن محفزاً كافياً. فوفقاً لمكتب تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة، لم يقبل إلا 640 مولدافياً بهذا التحدي منذ إطلاق البرنامج عام 2010.
وتوضح أولغا غاغوز، مديرة مركز البحوث الديموغرافية في كيشيناو، أن «معدل الهجرة بهدف الدراسة يتجاوز ذلك المرتبط بالبحث عن وظيفة».
وهذه الظاهرة الجديدة لا تؤدي إلا إلى تفاقم الانخفاض في معدل المواليد وهذه «كارثة»، على حد قولها.
وأدت الهجرة الجماعية مضافة إلى انخفاض معدل الخصوبة من 2.4 طفل لكل امرأة عام 1990 إلى 1.27 عام 2020، إلى انخفاض عدد المواليد من 77 ألفاً إلى 30700 سنوياً.
في بوجور، وهي بلدة صغيرة في غرب مولدافيا، أصبح مبنى إسمنتي كان معداً ليكون مدرسة، مهجوراً، إذ انخفض العدد الإجمالي للتلاميذ بمقدار الثلث منذ عام 2010.
وتتأسف مديرة المدرسة المحلية فيرا موسنياغو، قائلة: «في غضون سنوات قليلة، لن يكون هناك شباب هنا، لا أحد يريد البقاء في القرية».
أما أورا فلا تريد الهجرة وتقول: «مستقبلي في مولدافيا».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».