البنتاغون يحجم عن محاسبة فلين على دعوته لانقلاب عسكري

TT

البنتاغون يحجم عن محاسبة فلين على دعوته لانقلاب عسكري

طرح تأييد الجنرال المتقاعد مايكل فلين، أول مستشار للأمن القومي للرئيس السابق دونالد ترمب، القيام بانقلاب عسكري على الطريقة التي نفذها الجيش في ميانمار، نقاشاً حول الأسباب التي أدت حتى الساعة إلى إحجام البنتاغون عن القيام بمحاسبته. وفي مؤتمره الصحافي اليومي خلال هذا الأسبوع، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع جون كيربي رداً على سؤال عما إذا كان البنتاغون يفكر، أم لا، في اتخاذ إجراء ضد فلين، إنه «ليس على علم بأي جهد أو مصلحة في القيام بذلك في هذه القضية». وأضاف كيربي: «من دون التحدث عن هذه القضية بالذات، لكن يمكن إعادة الضباط المتقاعدين إلى الخدمة الفعلية لمواجهة اتهامات تأديبية إذا لزم الأمر، لكنه أمر نادر للغاية». واتهم فلين بأنه يتحدى احترام الجيش للسلطة المدنية، وهو مبدأ أساسي لأخلاقيات القوات المسلحة الأميركية. وفي حديثه أمام حشد نظمته منظمة «كيو أنون» المتطرفة في ولاية تكساس الأسبوع الماضي، سئل فلين الذي حافظ على تأييده القوي لترمب، وشارك في غالبية التحركات التي جرت رفضاً لنتائج انتخابات 2020، ومن بينها التجمعات في واشنطن، عن سبب عدم إمكانية حدوث انقلاب مشابه للانقلاب الذي حدث في ميانمار في الولايات المتحدة. وأجاب فلين عن السائل الذي عرّف نفسه على أنه أحد أفراد مشاة البحرية قائلاً: «أعتقد يجب أن يحدث هذا هنا من دون سبب». لكن فلين تنصل لاحقاً من تصريحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً إن كلماته فسرت بطريقة خاطئة من قبل وسائل الإعلام. غير أن تعليقاته كثفت الدعوات التي صدرت عن كثير من المشرعين وغيرهم من النقاد، عن إحجام الجيش حتى الساعة عن محاكمته بتهمة إثارة الفتنة، خصوصاً أنه لا يزال يتلقى راتباً تقاعدياً من الجيش. وبحسب القوانين العسكرية الأميركية، يمكن للجيش استدعاء الأفراد المتقاعدين لمحاكمتهم على جرائم مزعومة بموجب القانون الموحد للعدالة العسكرية، حتى ولو جرت بعد تقاعدهم. لكن الخبراء يقولون إن هذا النوع من المحاكمات لم يحصل سوى بضع عشرات من المرات منذ القرن التاسع عشر. لكن البنتاغون أظهر قليلاً من الاهتمام بمتابعة مثل هذه الخطوة، في ظل ضعف الأسس القانونية لرفع القضية، والتي يمكن الطعن بها في كثير من المحاكم. ويرى آخرون أن فتح هذا الملف في هذا الوقت بالذات من شأنه أن يعيد إحياء القضايا الخلافية التي يرغب الرئيس الأميركي جو بايدن في تلافيها، ويعيد فتح ملف الخلافات والانتقادات التي وجهت للمؤسسة العسكرية. وكانت تلك الخلافات اندلعت على خلفية الأحداث التي جرت عام 2020 في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل الرجل الأسود جورج فلويد، والتي أدت لاحقاً إلى استقالة وزير الدفاع مارك إسبر، بسبب رفضه إقحام الجيش في قمع تلك الاحتجاجات، وكذلك موقف الجيش من الهجوم على مبنى الكابيتول. وكان فلين قد أظهر تأييداً كبيراً لترمب منذ عام 2016، الذي عينه مستشاراً للأمن القومي في بداية عهده. لكن تمت إقالته بعد أقل من شهر واحد إثر اندلاع ملف اتصاله بالحكومة الروسية، الذي أدى إلى فتح تحقيق قاده المحقق الخاص روبرت مولر عن احتمال وجود تواطؤ بين حملة ترمب وروسيا، وقاد في نهاية المطاف إلى أول محاولة لعزل ترمب من منصبه. واعترف فلين بأنه مذنب في الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن تلك الاتصالات، لكن ترمب عفا عنه في وقت لاحق. وتحول فلين إلى أحد أبرز الأصوات الداعية لقلب نتائج الانتخابات لمصلحة ترمب، وأعرب في اجتماع حاشد في ديسمبر (كانون الأول) 2020 في واشنطن، عن يقينه بأن ترمب سيبقى في منصبه، طالباً من أنصار الرئيس السابق «القيام بتضحيات». وبعد أيام، اقترح فلين على ترمب إعلان الأحكام العرفية وأن يأمر «بإعادة» التصويت في الولايات المتأرجحة الرئيسية. وأدت تعليقاته إلى صدور إدانات واسعة له من قبل طيف سياسي واسع من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، من بينهم النائبة الجمهورية ليز تشيني ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، التي غردت في ذلك الوقت بأنه «لا ينبغي لأي أميركي أن يدافع أو يدعم الإطاحة العنيفة بالسلطة في الولايات المتحدة». وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إقالتها من موقعها القيادي في الحزب الجمهوري ومن مجلس النواب الشهر الماضي.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟