هشام جعيط... المؤرخ التونسي الإسلامي التنويري

رحل بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 86 عاماً

هشام جعيط
هشام جعيط
TT

هشام جعيط... المؤرخ التونسي الإسلامي التنويري

هشام جعيط
هشام جعيط

فقدت تونس والعالم العربي الثلاثاء الماضي هشام جعيط، أحد آخر المؤرخين لمرحلة التأسيس الإسلامي في سنواته الأولى، والذين قضوا حياتهم منشغلين بسؤال الحضارة الإسلامية، عن عمر يناهز 86 عاماً قضاها في البحث وتسنم المراكز العلمية، غادرنا الرجل الذي يكاد لا يتخرج طالب في اختصاصي الأدب العربي أو التاريخ إلا وقرأ جانباً من نتاجاته. ولا يمكن لباحث في الشأن الإسلامي إلا وأن يعود إلى مؤلفات جعيط، شأنه شأن محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وقبلهم طه حسين، ممن ذهبوا ينبشون في الطبقات التاريخية، والخلفيات الذهنية من خلال التراث؛ لفهم مشكلات الحاضر. لكل أسلوبه والنقاط الرئيسية التي شكلت مركز الثقل في كتاباته، لكنهم مراجع في ميادينهم، وأساتذة لا يمكن الاستغناء عنهم، لمن يريد أن يفهم خلفيات معضلاتنا المعاصرة.
ولد هشام جعيط عام 1935 في العاصمة تونس، وهو سليل عائلة برجوازية من القضاة وكبار المسؤولين والمثقفين، جده الوزير الأكبر يوسف جعيط، وعمه العالم والشيخ محمد عبد العزيز جعيط. أما والده فكان من أبرز شيوخ جامع الزيتونة. هو نفسه تعلم في «المدرسة الصادقية»، التي خرّجت غالبية القيادات الإصلاحية التونسية المعروفة، وعلى رأسهم الرئيس الحبيب بورقيبة. وعُرفت هذه المدرسة بانفتاحها وبرامجها العصرية الحديثة وتعليمها اللغات الأجنبية؛ مما يفسر ربما توجهاته النقدية والعلمية المبكرة. ثم انتقل جعيط إلى فرنسا ليحصل على دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون عام 1981، عن أطروحته حول نشأة مدينة الكوفة في القرن الأول الهجري، تحت إشراف المستشرق المعروف كلود كوهين. وسيرسم هذا الموضوع الذي اشتغل عليه في البداية، مساره اللاحق، متأثراً بالفكر الاستشراقي، راغباً في الاستمرار في الرد عليه، أو البحث عن تفنيد حججه، وربما الموافقة على بعضه. وهو يقول إنه أفاد من هذه الكتابات، وقرأها باهتمام. فالسنوات الثماني التي قضاها في فرنسا كان لها أكبر الأثر على تفكيره. كان طالباً، لكن عينه على الحركة المجتمعية والحياة السياسية. وحين عاد إلى بلاده، وكان الاستقلال قد تحقق، صُدم للفرق بين ما كان يراه من حرية عند الفرنسيين، ووصول نخبة صغيرة بعينها إلى السلطة في تونس، تصفق لها الناس وتحتفي بها رغم افتقارها لروح الديمقراطية، وفوح رائحة الديكتاتورية والتسلط. فقد تبدلت أحوال البلاد، ولم يعد والده شيخاً في الزيتونة، كما تغيرت الاعتبارات والمراتب، ولم ير أن الأحوال إلى انفراج.
صدرت له كتابات بالعربية والفرنسية، أسماء العديد منها تذكّر بعناوين طه حسين، مثل ثلاثيته «في السيرة النبوية» و«الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر»، الذي عرف انتشاراً واسعاً بين القراء، وطُبع ثماني مرات. وكذلك كتاب «أزمة الثقافة الإسلامية»، و«أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة»، و«تأسيس الغرب الإسلامي»، «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» وغيرها، من الكتب، صدرت غالبيتها عن «دار الطليعة» في بيروت. كان جلّ اهتمامه ينصبّ على تشكّل المدينة العربية، والرفاه العباسي الذي تحقق، وكيف تبلورت الحواضر الكبرى؟ وتمكن الإسلام من توسيع رقعة انتشاره في سنوات وجيزة، لم تتعد العقدين؟ وهو سؤال لا يزال يستحق دراسة مستفيضة؛ إذ إن عوامل هذا النجاح المدوي، رغم وجود إمبراطوريتين كبيرتين مجاورتين، هما الفارسية والبيزنطية في تلك الفترة، لم ينل البحث الكافي، لغاية اللحظة من المتخصصين في الميدان. واهتم جعيط بالناس الذين شكّلوا المجتمع الإسلامي، لا سيما القبائل العربية، ورصد حركتهم، ومسالكهم، أكثر مما اهتم بالبلاط والخلفاء، وعهودهم. وهو محق في ذلك؛ لأنه ذهب إلى المجال الذي لم يعن فيه كثيرون.
وبقي جعيط متمسكاً بالبحث العلمي، وباعتماده على الوثائق والمستندات، كما عُني بالثقافة الشفاهية وعملية التدوين، خاصة أنه كان منشغلاً أيضاً في كتاباته، بالثقافة الأفريقية وبلاد المغرب العربي.
لم يكن مؤرخاً يمكن أن يرضي الغالبية، أو مفكراً من الضروري أن تحصد نتائجه موافقة المفكرين التقليديين، خاصة أنه ابتعد عن النهج الإيماني في الكتابة، الذي رأى فيه شبيهاً بحفلات المديح. بقي منحازاً إلى منهجه التاريخي مستعيناً بالأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم الأديان والفلسفة، مريداً بذلك أن يعصرن الدراسات الإسلامية، ويخرجها من دائرة تهم التخلف التي وجّهت إليها، لكنه هو نفسه لم يسلم من النقد. ثمة من مدحه، واعتبره حديثاً، نجح في دراسة الإسلام من الداخل، أميناً على التراث، مستعيناً بالمناهج الجديدة، ومنهم من اتهمه بالتأثر بالمستشرقين، وتقليدهم في أساليبهم، وبدل أن يتمكن من الرد عليهم، وقع في أحابيلهم، وأنه في النهاية أطلق تخمينات وتأويلات، لم يتمكن هو نفسه أن يأمن إليها.
وفي كل الأحوال، الجدل حول كتابات هشام جعيط، يزيدها أهمية، ويشجع على مزيد من البحث حولها، والمراكمة عليها. فالرجل قامة علمية. إضافة إلى أنه كان أستاذاً فخرياً في جامعة تونس، كان قد تولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) من سنة 2012 إلى 2015، وهو كذلك عضو في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون. عرفه محبوه والطلاب أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات العربية والأوروبية، ومنها جامعة ماك غيل (مونتريال) وجامعة كاليفورنيا، بركلي، ومعهد فرنسا.
ويسجل لهشام جعيط، أنه مثقف مستقل، لم يهادن سلطة، أو يتملق. فلم يكن معجباً بالطريقة التي تدار بها البلاد، ولم يتوقف عن النقد والاعتراض والمجاهرة برأيه الحر. وهو ما استجرّ عليه غضب الرئيس بن علي أيام وجوده في الحكم، فلم يمنح ذاك الشرف الذي يعطى للمؤسسين الكبار في الجامعة التونسية، وأحيل على التقاعد بمجرد انتهاء فترة خدمته الرسمية ولم يمدد له؛ عقاباً له على آرائه الاعتراضية.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.