شرفتان نفخت على زجاج النافذة بكسل لتصنع هالة من الضباب الأبيض، تحجب الرؤية عن بياض الثلج خارج نافذة الشرفة الخشبية المقفلة بإتقان ربات البيوت، اللواتي لا يخرجن إلا للضرورة الملحة. وكأنها تعاكس نفسها التي لا تستطيع البقاء يوماً واحداً دون أن تخترق شوارع مدينتها الصغيرة بحجة شراء أشياء قد لا تحتاج إليها فعلاً. كأن تكون مقلمة لقلم رصاص لا تستخدمه إلا قليلاً. رسمت صورة قلب على ضباب زفيرها، خربشت بإصبع السبابة على القلب بخطوط ذات اليمين. وذات اليسار، ببطء، ثم بسرعة أقرب إلى الضجر أو إلى العصبية قصدا، لتجمّد أطراف أناملها. بدأ البرد بالدخول في يديها القريبتين من الزجاج، لم تحركهما. شرفتها تطلّ على الجانب الخلفي للعمارة حيث طريق ضيق للمارين باتجاه الشارع الرئيسي. لمحت امرأة تكاد تكون في الثلاثين من عمرها وهي تمشي جانب البناية تلبس قلنسوة طويلة من الفرو الأسود تناسب تماماً الصقيع الذي يغطي الأشجار المتلألئة بثلوج ليلة أمس، وكأنها ألماس وهي تبعث انعكاسات بين فينة وأخرى حين تضربها أشعة الشمس مخترقة الغيوم الثقيلة بجرأة، وتدفعها بقوة يائسة إلى الرحيل قليلاً عن السماء. تتوقف المرأة كل بضعة أمتار راجعة إلى نقطة البدء. «بماذا تفكر؟» قالتها (ندى) لنفسها تزامناً مع رفع المرأة لنظرها إلى البناية وباتجاه شرفة الطابق الخامس حيث تقطن ندى. ارتبكت وعدّلتْ من خمارها الصوفي على ملابسها المنزلية الخفيفة وشعرت بالحرج من كشف المرأة لمراقبتها لها. بينما هربت الأخرى بنظرها وكأنها خجلت مما قد تفكر راصدتها من علوها من كونها تمارس فضولاً في مراقبة الشرفات من تحت. أشعلت المرأة سيجارة ووضعت ظهرها بوجه البناية. تخيّلتها (ندى) تقول في سرّها «فقط دعيني وشأني، لا يهّمني لماذا أنتِ كسولة في البيت شعثاء بملابس النوم والساعة قد تجاوزت الحادية عشرة صباحاً، الأحرى أن تحركي بدنك المدلل في بيتك لا مراقبة الآخرين!». ضحكت ندى من افتراضها هذا الرد، وبرفق تركت الشرّفة مع ضحكتها المكبوسة الإيقاع التي بدأت في التلاشي بسرعة لتتحول إلى ابتسامة ثم إلى تقطيبة نادمة للحاجبين مع نزول دمعة واحدة فقيرة، وكأنها نهاية بكاء. سمحت لخمارها بالسقوط بسلاسة على أرضية الغرفة المكومة بكتب ومناديل ورقية مستعملة كثيرة امتزجت مع قطع زجاجية متناثرة على ممشى قدميها، قرب ملابس خروجها، المتروكة بإهمال على الأريكة بعد عودتها ليلة أمس حين قال لها حبيبها أتمنى لك حياة سعيدة! «برافوووووووو!» تبع صوت التهليل هذا تصفيق هائل وطويل من جهاز التلفزيون نبّهها تذكّرتْ أنّها لم تقفل الجهاز منذ الليلة الفائتة. بحركة حانية على جهاز التحكم أقفلت التلفزيون. وكأنها تعتذر عن تركه يعمل الليل كله. دفعت هيكلها بثقل على فراشها ثم سحبت الغطاء عليها وهي تتكوم على نفسها لتتدثر من برد الشرفة الذي بدأت تحسه الآن في جسدها. وبدأت تفكر بالمرأة التي أمام العمارة. أغمضت عينيها وكأنها تخاطبها وجهاً لوجه: «ربما قلقة بأن حبيبك خانك أو سيتركك - إذا كان حدسي صحيحاً - ستكونين بخير أكثر وبأمان، لا بأس عليك، ستكونين بعيدة بعد ذلك من كل هذا التوتر والقلق».
وجهان
تتفحّص وجهها في المرآة، تتلمّس خديها المليئين بآثار حبوب غائرة قديمة ببطء قلق، عاقدة حاجبيها كديدنها وكأنها تجمع حقد الساحرات الشريرات، شفتاها ترتعشان، وهي تقول بوضوح كأنها تُسمع أحدهم: أكرهكِ. تتفحص وجهها ثانية في المرآة، تتلمس وجهها بأصابع حزينة لتقول بصوت أشبه بالأنين: - آآآآآآآآآآآه يا نسيم! وجهكِ الجميل، قهقهاتكِ، عيناك المترفتان بالمرح، أنفك الصغير... شَعركِ الذي تتغنجين به... كلّها تستفزني! صوتك وأنت تردّدين «مشتاكييييييييين»، ابتسامتكِ الواسعة حين يقولون لكِ «اسم على مسمّى»... في خضم تفكيرها، يهزها صوت الهاتف، ومن أجل أن تخفي توترها عن صاحبة الصوت الآتي ترد بصوت حنو: - نعم عزيزتي نسيم...! - مشتاكييين آمال! - وأنا أيضاً كنت أفكر بكِ حقاً!
عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/5098584-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D9%87-%D8%AE%D8%A7%D9%84-%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%81-%D9%86%D9%85%D9%88%D9%87%D8%9F
كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.
ثنائية الركض والزحف
ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.
يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.
البداية المُزاحة بالاستطراد
هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.
وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية
بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.
الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز
لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».
في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.
وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.
غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»
لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».
لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.