«ليالي مع الدواجن» يمزج الخيال بالبهجة

معرض مصري يشارك فيه 24 تشكيلياً

حركة وطرافة في أعمال المعرض (الشرق الأوسط)
حركة وطرافة في أعمال المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«ليالي مع الدواجن» يمزج الخيال بالبهجة

حركة وطرافة في أعمال المعرض (الشرق الأوسط)
حركة وطرافة في أعمال المعرض (الشرق الأوسط)

تحت عنوان «ليالي مع الدواجن» يحتضن غاليري «أركيد» في حي المعادي بالقاهرة، حالياً، نحو 85 عملاً فنياً تمتزج فيها الطرافة بالخيال، والفُكاهة برشاقة الحركة، والحيوية بالنشاط؛ ورغم غرابة ثيمة المعرض التي قد تفتح المجال للتفكير بشأن الفلسفة أو الرمزية التي تقف وراءها، فإن الأعمال لا تجسد سوى مشاهد مبهجة لدواجن متباينة الأشكال والألوان كصيغة معادلة للبيئة بعيداً عن صخب الحياة.
تناول الدواجن في الفن التشكيلي ليس جديداً، لكنه محدود إلى حد كبير، فباستثناء الفنان المصري الذي يحتفي بنحت الديوك استلهاماً من بيئته الريفية، وبعيداً عن الرسوم التقليدية المصاحبة لكتب الأطفال في الثقافات المختلفة، قلما نجد الدواجن في الأعمال الفنية، فحتى بالنسبة للفن الفرعوني الذي اعتاد أن يجسد الحيوانات الموجودة في بيئته، ظهر «الديك» بشكل نادر للغاية، حتى يكاد يكون من الصعب الإشارة إلى أعمال شهيرة تنتمي إلى الحضارة المصرية القديمة تجسده، ربما باستثناء شفافة من الحجر الجيري مرسوم عليها الديك بالحبر الأسود ويحتفظ بها المتحف البريطاني، وحتى حين تناولتها لوحات عالمية، فقد كانت تمثل في الغالب عنصراً هامشياً، فعلى سبيل المثال في لوحة «بائعة الدجاج» للرسام الإنجليزي هنري هربرت (1859 - 1929)، كانت البطولة فيها للسيدة التي تحمل الدجاج في إطار اهتمام الفنان برسم المناظر الطبيعية الريفية، وكذلك جاءت لوحة «دكان بائعة الدجاج» للفنان جيرار دو، أما في اللوحة الشهيرة «دورية الليل» لرمبرانت فقد كانت مخالب الدجاجة الميتة التي تحملها سيدة داخل مشهد متنوع الشخوص والمفردات رمزاً للخصم المهزوم.
لكن الأمر يختلف بالنسبة لهذا المعرض الذي يفسح المجال لـ24 فناناً مصرياً من أجيال مختلفة لتحويل الدواجن إلى صيغة معادلة للحياة والنشاط والسلام الذاتي، فكأنما يقدم رصداً للحياة اليومية للدواجن، فلا يكاد يعثر المتلقي داخل الأعمال على بشر أو أي كائنات أو مفردات أخرى، إنما هو أمام مجموعات من الدواجن تلهو هنا وهناك، أو تتناول طعامها وشرابها، أو هي في حالة سكون، إلى جانب بعض الأعمال السيريالية لها، وحتى حين قدمت إحدى اللوحات أجزاء من أجساد بشرية فقد جاءت الوجوه لدواجن تقف في ثبات وثقة لتفرض سيطرتها الكاملة حتى وإن كانت تحمل شيئاً من الرمزية العابرة المقصودة أو غير المقصودة.
وفي السياق ذاته، تكتمل الصورة النهائية للمعرض بأطياف من الحيوية والصفاء والابتعاد عن الأعمال المستغرقة في عالمي الجمال الحسي والبشري المعتادين، لترتكن إلى التعبير عن هذه الكائنات واسعة الانتشار في الريف المصري، تقول ليلى الفاروق مديرة غاليري «أركيد» لـ«الشرق الأوسط»، «في إطار حرصنا على المساهمة في إنعاش الحركة التشكيلية، وصنع أجواء إبداعية مختلفة، نقدم من حين إلى آخر أفكاراً تطلق العنان للخيال، وتحفز على الابتكار، على سبيل المثال قدمنا العام الماضي فكرة غير تقليدية وهي (ليالي مع القوارض)، وفي هذا العام نقدم (ليالي مع الدواجن) كفكرة تحمل قدراً من الطرافة».
ووفق الفاروق، فإن «أعمال المعرض تتماهى مع رؤية الغاليري من حيث إنه لا الفن ولا الجمال يرتبطان بشكل معين، كما أنهما لا يلتزمان كذلك بأطر أو بمفاهيم ثابتة، فليس معنى أننا بصدد أعمال فنية أن نقدم بالضرورة مناظر جميلة أو أشكالاً بديعة من الطبيعة كالزهور والجبال والبحار».
يقدم الفنان وليد طاهر 4 أعمال من الحبر والألوان، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، «هناك صدفة غريبة ترتبط بمشاركتي في هذا المعرض، وهي أنه قبل تواصل الغاليري معي لدعوتي للمشاركة، كنت بالفعل قد بدأت في رسم الدواجن في مجموعة من الأعمال! ولم يكن ذلك حباً للدواجن في حد ذاتها، أو حتى لهدف محدد كضمها لكتاب جديد أو غيره؛ إنما لأنني من وقت إلى آخر أرسم شيئاً أجده ملحاً داخلياً، قد يكون هذا الشيء مجرد (فورم) فقط، لكني أجري وراءها بشغف، وذلك أمر طبيعي؛ فالفنان قد يحتاج أن يتخلص من المعنى في بعض الأحيان، وأن يمتع المشاهدين بشكل تشكيلي يتميز فقط بالألوان المبهجة والنسب الصحيحة والتكوين المختلف، وهكذا كان تجسيد الدواجن بكل طرافتها وانسيابية حركتها ولطفها وحب الإنسان لها».
ويمثل طرح هذه الفكرة من دون تحميلها أي فكر عميق أو معانٍ فلسفية في معرض فني حالة صحية تماماً، حسب طاهر، لأنه «حين يتناول الفنان ثيمة ما من دون مرجعية أدبية أو خلفية تاريخية وغير ذلك، فإن الأمر يكون بمثابة تعبير عن هويته التشكيلية البحتة واستنطاقاً لقيم بصرية خالصة».
فيما تبرز النوستالجيا في أعمال الفنانة الشابة آية الحسيني، التي تأتي انعكاساً لتأثرها بأصولها الريفية، وتقول لـ«الشرق الأوسط»، «لطالما استمعت إلى حواديت جدتي، ووصفها لكل تفاصيل الريف المصري حيث وُلدت وعاشت طفولتها، وحتى حين انتقلت للعيش في المدينة، فقد حملت مع حقائبها ثقافتها ومعطيات بيئتها، ومن ذلك تخصيص مساحة من حديقة المنزل لتربية الطيور، ما جعلني منذ صغري أهتم بالدواجن التي تربيها وأرقبها وأرصد نموها وانسيابية حركتها وحنانها المتدفق من وجهة نظري، فقد كنت أنسج في خيالي القصص حولها، وحين كبرت واحترفت التصوير الفوتوغرافي كانت الدواجن من أولويات اهتمامي، وأجد متعة خاصة في التقاط الصور لها، من هنا جاء ترحيبي بالمشاركة في المعرض، إلى جانب أنني قد لمست تميزه فلم يصادفني من قبل فكرة أن تكون الدواجن محور أي تظاهرة فنية».
وتماهياً مع فكرة احتفاء المعرض بالبيئة، تشارك الفنانة فاطمة أبو دومة بعمل «صديق للبيئة»، إذ يستند إلى استخدام الحبر على ورق معاد تدويره من قش الأرز، تقول الفنانة لـ«الشرق الأوسط»، «تعمدت استخدام هذه الخامة لأنها صديقة للبيئة، فبدلاً من حرق القش وتلويث البيئة حولته إلى عمل فني، تأكيداً على فكرة إحالة القبح إلى جمال».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)