الخرطوم تحن إلى التقاليد عن طريق أطباقها

السودان قارة في بلد، لذا تتعدد فيه الثقافات والبيئات والعادات والتقاليد، وتتعدد في «أطعمته الشعبية» المذاقات والنكهات وطرق الإعداد والمكونات، بل وحتى طرق التقديم وأدواته وشكل الطعام.
لكن بدخول أنحاء واسعة منه فيما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة الاستهلاك والحياة العصرية»، تأثرت الذائقة الشعبية بما أتاها وافدا عبر أجهزة الاتصال الحديثة، وما يجلبه المهاجرون من «أكلات» مهاجرة عن ثقافات شعوب أخرى.
استضافت الخرطوم مهرجانا غير تقليدي يهدف لإعادة ترويج الأغذية الشعبية وربما «تحديثها وتصنيعها»، نظمته «دال الغذائية» إحدى شركات «مجموعة دال» المملوكة لرجل الأعمال السوداني أسامة داؤود، وأطلقت عليه «مهرجان السودان للأغذية التقليدية».
وتضمن المهرجان إلى جانب الأغذية، الموسيقى والرقصات التقليدية، وطرق وأساليب زراعة وتخزين وحفظ وصنع الأنواع المختلفة من المشروبات الشعبية. كما تضمن «سوقا تاريخية» لبيع أواني الطهي التقليدية المصنوعة يدويا، ومنتجات الفخار المستخدمة لصناعة الطعام، وفي المائدة التقليدية السودانية.
وقال العضو المنتدب للشركة إيهاب عبد اللطيف داؤود إن شركته، رغم انتهاجها للأساليب العالمية للأغذية، تهتم في الوقت ذاته بتوفير الأغذية الجيدة للجميع، لذلك تسعى لجعل الأغذية التقليدية متاحة للجميع، فضلا عن شغفها بالثقافة السودانية، ويضيف: «المهرجان تطور منطقي لمشروع نقوم به بهدف التوثيق للأغذية التقليدية والثقافة المرتبطة بها».
تقليديا، فإن غذاء السودانيين مرتبط بالزراعة والمنتجات الزراعية، ففي أقاصي الغرب والجنوب والوسط، تسود الأطعمة المصنوعة من «الذرة» مثل «العصيدة، الكسرة»، والمشروبات المصنوعة من الحبوب «الذرة، الدخن» وغيرها.
فيما يسود الطعام المعتمد على القمح شمالا، وتعد «القراصة» هي الوجبة الشعبية التقليدية لتلك المناطق، بينما يقتصر تناول الخبز الذي يطلق عليه «الرغيف» أحيانا في المناطق الحضرية وشبه الحضرية.
ويستخدم السودانيون أنواعا مختلفة من الطبائخ - يطلقون عليها مُلَاح - وتعتمد بشكل كبير على اللحم الطازج والمخمر والمجفف، إضافة إلى الأسماك بأنواعها الطازجة والمجففة والمخمرة، فضلا عن الخضار والبهارات المحلية وبعض المستوردة، ومنتجات الحليب الأخرى طازجة أو مخمرة.
ولا تخلو ثقافة سودانية من الأطعمة المخمرة، ففي الشمال هناك «الفسيخ، والملوحة»، وهي عبارة عن أسماك تخمر بطرائق خاصة، ومثلها في الغرب هناك «الكجيك» وهو سمك مجفف بطريقة خاصة، واللحم المجفف «الشرموط»، وأحشاء الحيوانات المخمرة «المرس، المصران»، والنباتات المخمرة «الكول».
ولا تعد هذه الأطعمة مستساغة لكل المجموعات السكانية، فـ«الملوحة» مثلا لا تعد طعاما شهيا في مناطق واسعة من السودان، كما لا يعد «المرس والمصران» مستساغين عند أهل الشمال وبعض أهل الحضر.
وبالبحث عن مشتركات في الثقافة الغذائية السودانية، فإن «الكسرة بملاح التقلية» تكاد تكون طعاما سودانيا بامتياز، فهي تعد بالطريقة ذاتها، وتتكون من المواد نفسها «بامية مجففة، بصل، لحم مجفف» وتؤكل بالطريقة ذاتها.
تقول اختصاصية علوم وتكنولوجيا الأغذية بروفسور ست النفر محجوب بادي إن المهرجان لفتة حاولت لفت النظر لأهمية الأغذية التقليدية وأهميتها، وتضيف: «درسنا في مركز بحوث الأغذية في شمبات - جامعة الخرطوم - قبل وقت خصائص هذه الأغذية وقيمتها الغذائية، وهي تتضمن مشروبات وأغذية متكاملة من الحبوب ذات قيمة غذائية عالية».
وتوضح بروفسور محجوب أن طريقة تصنيع هذه الأغذية في غاية التقليدية، بما يجعل إعدادها صعبا على الكثيرين، مما يحفز التوجه نحو التصنيع المتقدم وبكميات أكبر لتكون في متناول اليد.
وحسب بروفسور ست النفر، فإن مركز بحوث الأغذية عمل على مشروب «الحلو مر»، باعتباره مشروبا لا غنى عنه، وعلى الكسرة، وعلى تجفيف ملاح التقلية المجفف بما يحفظ قيمته الغذائية، إضافة إلى «المديدة» وهي شوربة من الذرة والدخن، بجانب مشروبات الكركدي والعرديب والتبلدي وغيرها.
وتكشف عن محاولات لتصنيع «الكسرة» لتكون في متناول يد الناس، خاصة بعد أن خرجت النساء للعمل ولم يعد لديهن الوقت الكافي لصناعة هذه الأغذية في البيوت، تقول: «جربنا مع الخطوط الجوية السودانية تقديم كاسات العصيدة وملاح تقلية المجففين اللذين يتحولان إلى وجبة كاملة وصحية بمجرد إضافة المياه الساخنة لهما». كما أن «البليلة»، وهي وجبة تقليدية، تُصنع من الحبوب والبقوليات المغلية، باعتبارها حبوبا كاملة تختلف عن الحبوب المصنعة المبشورة، وذات قيمة غذائية عالية.
وتشير إلى أن معظم الأطعمة التقليدية السودانية «مخمرة»، مما يزيد من قيمتها الغذائية «الكسرة، الآبري الأبيض، الحلو مر، الزريعة»، ويرجع هذا إلى أن الثقافة الشعبية عرفت أن التخمير يزيد من القيمة الغذائية للأطعمة خلاف الأطعمة المصنعة أو المستوردة.
وترى ست النفر أن الثقافة الغذائية للمجتمعات السودانية جعلت من الطعام المخمر مستساغا لمجموعة ثقافية، وغير مستساغ بالنسبة لمجموعة ثقافية وجغرافية أخرى، مثل «الملوحة والمرس»، بيد أنها تقول: «الملاحظ أن هذه الأطعمة الشعبية بدأت تغزو مناطق في العاصمة الخرطوم، وبدأ الناس يعتادونها، لأن نكهة الطعام وقبول مذاقه يعتمدان على ثقافة من يأكله».
وتقول كيارا، وهي سيدة إيطالية كانت في زيارة المعرض، إن طرائق تجفيف الأسماك لفتت نظرها، وإن الأطعمة المعروضة مدهشة، وطرائق صناعتها في غاية الغرابة، ورغم أنها لم تعتد المائدة السودانية بعد، فهي تقول: «جربت بعض الأطعمة السودانية المصنوعة من الفول السوداني، وأعجبتني جدا، وحرصت على تناول طبق الفول باستمرار، عموما فإن طعام السودانيين بشكل عام يبدو شهيا».
ويقول الخبير في علم الأغذية ورئيس الجمعية السودانية لحماية البيئة د. نصر الدين شلقامي إن السودان غني بمنتجاته الزراعية، كما أنه غني بطرق استعمالها. بيد أنه يرى أن معظم الناس لم يعودوا يعرفون الطرائق، مما جعل من المعرض وسيلة شرح للطرق التقليدية في صناعة الأطعمة الشعبية، ولإعادة إنتاجها بطرق حديثة كمشروبات مثل «التبلدي، الدوم، النبق، الكركدي، العرديب»، وصناعة العصائر منها بطرق حديثة، وإعادتها للبيت السوداني بعد أن أوشكت على مغادرته للمشروبات الغازية، وكمأكولات جاهزة تدخل البيت باطمئنان.
ويصف د. شلقامي المعرض بأنه دعوة للعودة للطبيعة والغذاء الطبيعي «أورغانك»، وللعودة للطرق التقليدية في الزراعة الخالية من الأسمدة والمبيدات، ويضيف: «حين تركنا الزراعة التقليدية أصابنا الفقر، ولو رجعنا لها فسنكون قد حاربنا الفقر».