«اللحظة السعيدة» تجسّدها نكهة بطعم «القرية» في وسط بيروت

«فيلا كلارا» مطعم فرنسي بلمسة عشاق لبنان

الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون (حسابه الشخصي)
الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون (حسابه الشخصي)
TT

«اللحظة السعيدة» تجسّدها نكهة بطعم «القرية» في وسط بيروت

الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون (حسابه الشخصي)
الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون (حسابه الشخصي)

لـ11 عاماً، اتّخذ «فيلا كلارا» بجدرانه الزرقاء من منطقة مار مخايل البيروتية مقرّه، قبل أن يفرض الانفجار انتقاله إلى شارع آخر. في «قرية الصيفي» المجاورة لوسط البلد، ينعم المشروع المنقسم إلى جانبين بهدوء خارج صخب المدينة وزحمة أيامها. جانبه الأول، «Villa Clara le comptoir» لاستراحة فنجان القهوة والمشروبات الأخرى مع قائمة الحلويات. هذا الجانب لمَن يشاء تمضية بعض الوقت، فتُحلِّي جلسته أكوابٌ يتنوّع المُقدَّم في داخلها. الجانب الآخر على بُعد نحو 5 أمتار. إنه «Villa Clara la table» المُراد منه «صناعة اللحظة السعيدة».

كان نهار أحد في بيروت، والشمس تقترب من سخونة الظهيرة، حين وصل الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون وزوجته اللبنانية ماري إيلين معوّض إلى حيث يمضيان 15 ساعة يومياً. «إنه منزل العائلة»، يقول مؤسّسا «فيلا كلارا» لـ«الشرق الأوسط». التفاصيل ميزة مكان هندسته مشغولة بروح إنسانية، والشغف محرّكه.

الزهور جزء من هوية المكان (الشرق الأوسط)

سُمّي المشروع الذي يصرّ مؤسّساه على أنه «أبعد من مطعم»، باسمه، تيمّناً بابنتهما كلارا البالغة 15 عاماً. يرتدي الشيف أوليفييه مئزره الأبيض، مستعداً لتحضير الأطباق ووضع لمساته على النكهة. يلمح الزائر فور وصوله انهماكاً يحدُث في المطبخ، فتُعلّق ماري إيلين: «كل شيء يحصُل على الملأ. المطبخ مكشوف والزائر على اطّلاع بعملية وصول الطبق إليه، فيتأكد بنفسه من معايير النظافة».

شدَّها إلى «الصيفي فيلج» أنّ الكهرباء 24/7: «هذه أولوية الشيف». يدرك أوليفييه غوجيون ضرورة «امتياز» من هذا النوع. فطوال الحديث، ظلَّ يشدّد على أهمية المكوّنات الطازجة في مطبخه. يشير بالإصبع إلى صفّ من البندورة الجبلية الشهية على رفّ يشكّل واجهة ذلك المطبخ. يسرّه أنّ «طقس لبنان لا يزال يسمح بتعدُّد المواسم، بما يتيح تميُّز الطبق». وهو إذ يقدّم مزايا المطبخ الفرنسي في مأكولاته والخبز المتسرّبة رائحته في الهواء، لا يفوته إضفاء اللمسة اللبنانية. يقول: «لا نقدّم الصحن الرئيسي فقط، بل أيضاً ما يسبقه. هذا يشبه ثقافة المازة اللبنانية، فيكون الزائر أمام مجموعة أصناف قبل التلذُّذ بالصنف المفضّل».

الشيف الفرنسي أوليفييه غوجيون (حسابه الشخصي)

اسم بيروت محفور على الصحون، فالمكان مُستوحى من صلابتها. تراها ماري إيلين معوّض الحائزة على دكتوراه في إدارة الأعمال والتسويق، أيقونة صمود. وتذكُر منها محطاتها المضيئة، مُرسلةً كل الأحزان إلى محاولة النسيان. من هذا الإيمان بالحياة، تأتي بالزهور إلى الطاولات. ترى فيها «ألواناً، مثل لبنان». تضيف أنها تُخصّص ميزانية لشراء الزهور النضرة أسبوعياً، فتزيّن «فيلا كلارا» بها، لتلمح العين هذه الجماليات أينما صوَّبت النظر: «بعضٌ يلمسها ظناً أنها اصطناعية، فيُفاجأ بالعكس. الزهور جزء من هوية المكان. أريد منها القول إنّ بيروت حقل تنوُّع، وفرادتها في خليطها».

المطبخ مكشوف والزائر على اطّلاع بعملية وصول الطبق إليه (الشرق الأوسط)

تحطّ طائرة من فرنسا كل أسبوع مُحمَّلة بالمكوّنات الطازجة، بينها الأسماك، «كما نعدّ الحلويات على طريقتنا وبلمستنا الخاصة»، يؤكد الشيف أيضاً. وبالانتقال من «Villa Clara le comptoir» إلى «Villa Clara la table»، تظهر لوحة كبيرة تغطّي قسماً من الجدار مُجسِّدةً شكل الملعقة. يحلو لصاحبة المشروع الحديث بحميمية عن الأشياء: «أحبّ فنّ الطاولات المتقاربة، فيلحظ الزائر أنّ مسافة ضئيلة فقط تفصلها عن بعضها بعضاً. حصلنا على الصحون عبر مزادات في فرنسا، وثمة قطع تعود إلى عشرينات القرن الماضي. أما (الباركيه)، فمن القرن الثامن عشر، أتينا به من باريس». تتمهّل، قبل الإشارة إلى ثريا مطليّة بالذهب، فتشرح أنها اشترتها من البندقية. ومثل مَن يُخبر ضيفه عن أولاده، ويُعدّد مواهبهم بنبرة فخر، تُكمل: «أهوى جَمْع المقتنيات الفنية بما يفوق اهتمامي بحقيبة (إيرميس) مثلاً. حين نحبّ، يحلو القيام بما نفعله، ولا نرضى بأقل من الإتقان».

صفّ من البندورة الجبلية الشهية على رفّ المطبخ (الشرق الأوسط)

نعود مع الشيف إلى سرّ النكهة. أخبرنا من فضلك، ما مزايا مطبخك الفرنسي؟ للإجابة، يتوقف عند عشبة «الرشاد»: «إنها لبنانية، وغير مألوفة في فرنسا. أُدخلها في المكوّنات وأُبرزها في الطبق مثلاً، فأمنحه نكهة فريدة. الأمر عينه بالنسبة إلى البندورة الجبلية. ثمة مَن يظنّ أنّ هذا الصفّ المعروض منها أمام الزوّار بلاستيكي. يُفاجأون بملمسها الطازج. المطبخ فرنسي، بلمسة لبنانية تحافظ على المكوّنات الموسمية».

25 عاماً على زواج الشيف أوليفييه غوجيون من الدكتورة ماري إيلين معوّض المفتونة بالفنون، والأزهار، وحُسن تقديم الطبق. تتحدّث عن تاريخه في المطبخ، وتنقّله بين مناصب تؤكّد مكانته وسط ألمع الطهاة الفرنسيين. ما كان شيءٌ ليُقدَّم بهذه المكانة، لولا الحب.

التفاصيل ميزة مكان هندسته مشغولة بروح إنسانية (الشرق الأوسط)

حبّهما زوجاً وزوجة، وحبّهما أباً وأماً لعائلتهما، وحبٌّ مردُّه العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا، والقواسم المشتركة بين المطبخين. وأيضاً، حبّ بيروت. بحرارة، يتغزّل بها أوليفييه، ويتوقف عند كونها «مدينة وقرية في بعض شوارعها المتنوّعة التي لا تتشابه، على عكس باريس التي أصبحت مدينة فقط».

هدف المكان «صناعة اللحظة السعيدة» (الشرق الأوسط)

أتى بالمصادفة إلى عالم الطبخ، وبالمصادفة أيضاً إلى لبنان. تفوّقه الجامعي قاده إلى بلد «يتحلّى بثقافة مطبخ»، حين فُرزَ المجتهدون لبناء تجارب جديدة، فكانت بيروت قدره. فيها راكم الخبرات، وأحبَّ وتزوَّج. «فيلا كلارا» ثمرة الحبّ.



طارق إبراهيم لـ«الشرق الأوسط»: نعيش مرحلة انتقالية للعودة إلى الجذور

الشيف طارق إبراهيم في مطبخه (انستغرام)
الشيف طارق إبراهيم في مطبخه (انستغرام)
TT

طارق إبراهيم لـ«الشرق الأوسط»: نعيش مرحلة انتقالية للعودة إلى الجذور

الشيف طارق إبراهيم في مطبخه (انستغرام)
الشيف طارق إبراهيم في مطبخه (انستغرام)

في جعبته أكثر من 30 عاماً من الخبرة في صناعة الطعام. مستشار هيئة اللحوم والماشية الأسترالية.

يعدّ المصري طارق إبراهيم أول شيف عربي يحصل على لقب ماستر شيف من قبل «الجمعية العالمية للطهاة».

يدأب على زيارة بيروت باستمرار. ويجد في «صالون هوريكا» للضيافة والخدمات الغذائية، المناسبة الأفضل للقيام بهذه الرحلة.

يشتهر الشيف طارق بتحضير الأطباق الشرق أوسطية. ويعرف بتحضيره أشهى اللحوم المشوية. فهو يقدّمها في مطاعمه في مصر والساحل الشمالي ومناطق أخرى. يفتخر بما حققه حتى الآن في مجاله. ويرى أن هناك مواهب شابة جديدة واعدة في مجال الطبخ. ويتحدّث لـ«الشرق الأوسط» عن مدى تطور مطبخ البحر المتوسط: «كل شيء في الحياة يتطوّر من دون شك. ولكن بالنسبة لأطباق البحر المتوسط فهي في حالة تطور دائم. المكونات التي يتألف منها غنية وكثيرة، توفّر لنا بوصفنا طهاة قدرة على الابتكار».

يقول إن هذا المطبخ واسع جداً ويتنوع حسب البلد الأم. ويوضح في سياق حديثه: «يحضر هذا المطبخ في البلدان العربية كما في أوروبا. كل بلد يحضّر الطبق بأسلوبه فيأخذ خطّاً خاصاً به. نحن في مصر مثلاً نستخدم السمنة، وفي لبنان زيت الزيتون، وفي المغرب دهن اللحمة. فالطعام برأيي ليس اختراعاً بل ابتكار طعم مميز ومرغوب به من قبل الزبون، في الوقت نفسه».

التطور الذي يتحدث عنه الشيف طارق ينبع من البساطة. «ليس بالضرورة أن نبالغ في الابتكار، الأهم أن نحافظ على هوية الطبق. فبدل أن نضيف الليمون الحامض والزيت مثلاً على طبق سلطة، في استطاعتنا استبدال عصير البرتقال به. ويمكننا أن نلجأ إلى طعم مختلف مع عصير الفراولة أو الكرز. وبذلك نكون ابتكرنا طبق سلطة لذيذ الطعم يتألف من مكونات أساسية. ولكن فيما لو قدمنا صحن الحمص بالطحينة المخلوط مع الأفوكادو أو البروكلي والشمندر السكري، فإننا بذلك نشوه شهرة هذا الطبق».

من أطباق الشيف طارق إبراهيم (انستغرام)

يخبر «الشرق الأوسط» عن ابتكاراته التي يهمّه الحفاظ على طعمها الأصلي فيها.

«أحضر في مطعمي حساء الطماطم الأبيض اللذيذ، فنتعرّف إليه من طعمه وليس من شكله، أستخرج منه لون الطماطم الأحمر فيتحول إلى شفاف لا لون له، وأضيف إليه الحبق والكريمة. ويتفاجأ من يتذوقه بطعم الطماطم مع غياب لونها عن الطبق. وبذلك أكون قد اعتمدت التطوير وحافظت على الهوية في آن».

ملاحظاته على الساحة اليوم تقتصر على الفوضى التي تعمّها. برأيه هناك مواهب واعدة ولكنها بحاجة الى الخبرة. «ليس من السهل دخول مجال الطعام والنجاح فيه على الأصول. بعض المواهب الشابة تركن إلى إبراز مهارتها في أكثر من 20 طبق مرة واحدة، فتعتقد أن النجاح ركيزته إنتاج غزير ومنوّع. وفيما بعد، تكتشف تلك المواهب مع الوقت ضرورة اختصار ابتكاراتها بأطباق تعدّ على أصابع اليد الواحدة. فالزبون لا يهمه العدد بل الجودة والطعم. ولذلك تلك المواهب يلزمها الخبرة التي توصلها إلى مرحلة النضج فيما بعد».

الشيف طارق إبراهيم (إنستغرام)

الساحة اليوم كما يقول، تشهد مرحلة انتقالية بحيث تحاول العودة إلى الجذور. «الرجوع إلى الأصل ضرورة كي نحافظ على تاريخنا وتراثنا. وأنا سعيد بهذه العودة. لا بأس في اعتمادنا التطوير المقبول. ولكن في خضم هذه الفوضى التي نعيشها نحن معرّضون لخسارة هويتنا. فالعودة إلى الأصول أمر نلاحظه اليوم بشكل لافت. وصار المذاق الحقيقي للطبق هو الهدف الرئيسي للشيف بشكل عام».

يشدد الشيف إبراهيم على ضرورة استخدام المكوّن الطبيعي في الطعام. فالفرق يصبح واضحاً إذا ما لجأنا إلى مكونات نابعة من زراعات كيميائية. «إنهم يبحثون عن الربح السريع والوفير. وهذا الأمر أسهم في فقدان أصالة أطباق كثيرة من مطبخنا الشرقي».

يقارن بين الطبق والفنان، ويقول: «عندما يطلق الفنان أغنية يهمّه الانتشار والنجاح. ولكن بعدها يصبح قلقه مصدره إضافة النقاط إلى نجاحاته هذه. فتصبح خياراته أكثر دقة ويدرسها بشكل واف. وهواة الطهي الشباب يحاولون إبراز كل إمكاناتهم وطاقتهم في بداية المشوار. ومن ثم يحللون ويكتشفون أن الاستمرارية هي الأهم. فيأخذون بالتعاطي مع أطباقهم من باب الطبق اللذيذ والطويل الأمد».

الساحة كما يذكر لـ«الشرق الأوسط» تزخر بطهاة شغوفين بعملهم وبينهم من وصل إلى العالمية. «إنهم يشكلون مدرسة بابتكاراتهم. وعلى الشباب أن يتعلّموا منهم كي يحققوا تمنياتهم».

وعن الطبق اللبناني الذي يحب تقديمه يختم لـ«الشرق الأوسط»: «طبق البطارخ مع حبوب الثوم وزيت الزيتون. تخيلي على الرغم من شهرتنا الواسعة بهذا الطبق في مصر، لم يقدمه أحد بهذه الطريقة. وأنا تعلّمته في لبنان، أعجبت به وأنشره اليوم في مصر».