بايدن يحاول إطاحة أعضاء عيّنهم ترمب في لجنة الفنون

بيري جيلو مهندس معماري من مشاريعه حديقة الورود التي جُدّدت في البيت الأبيض (نيويورك تايمز)
بيري جيلو مهندس معماري من مشاريعه حديقة الورود التي جُدّدت في البيت الأبيض (نيويورك تايمز)
TT

بايدن يحاول إطاحة أعضاء عيّنهم ترمب في لجنة الفنون

بيري جيلو مهندس معماري من مشاريعه حديقة الورود التي جُدّدت في البيت الأبيض (نيويورك تايمز)
بيري جيلو مهندس معماري من مشاريعه حديقة الورود التي جُدّدت في البيت الأبيض (نيويورك تايمز)

أخطرت إدارة بايدن أربعة أعضاء من إجمالي الأعضاء السبعة في اللجنة الفيدرالية للفنون الرفيعة، بأنّ عليهم التقدم باستقالتهم أو سيواجهون إنهاء تعاقدهم، تبعاً لما ذكره رئيس اللجنة. وتمثل اللجنة الفيدرالية للفنون الرفيعة مجموعة استشارية بمجال التصميمات عادة لا تحظى بتركيز الأضواء عليها كثيراً، لكنّها وجدت نفسها متورطة في معارك حول النسق المعماري أثناء رئاسة ترمب.
وجاء تعيين جميع الأعضاء السبعة في اللجنة من جانب الرئيس السابق دونالد جيه ترمب، منهم أربعة عُيّنوا في 12 يناير (كانون الثاني)، قبل أيام من رحيل ترمب عن البيت الأبيض.
وتقدم اللجنة المشورة بخصوص «المسائل المتعلقة بالتصميم والجوانب الجمالية محل الاهتمام الفيدرالي والمحافظة على هيبة العاصمة الوطنية»، تبعاً لما يذكره موقع اللجنة. وكان ترمب قد دفع بالتصميم المعماري إلى أتون الحروب الثقافية في وقت متأخر من رئاسته، عندما وقّع أمراً تنفيذياً يقر المعمار الكلاسيكي باعتباره النسق المفضل للبنايات الفيدرالية الجديدة، في مواجهة معارضة من مجموعات بارزة بمجالي التصميم المعماري والحفاظ على التراث التي تنتفض ضد أي خطوة ترى أنّها محاولة لفرض نسوق وطني عام.
من جهته، قال رئيس اللجنة، جاستن شوبو، الذي كان قوة محركة وراء جهود الترويج للعمارة الكلاسيكية، إنّه وثلاثة أعضاء آخرين باللجنة، المصمم المعماري ستيفين سباندل، والفنان تشاس فاغان والمهندس المعماري للمساحات الطبيعية بيري غيلو، طُلب منهم جميعاً الاستقالة. وأشار إلى أنّ أعضاء اللجنة يُعيّنون لفترة أربع سنوات، وأن السعي للإطاحة بهم سيخرق عرفاً سائداً منذ أمد طويل.
وقال شوبو في رسالة بعث بها عبر البريد الإلكتروني إنّ «إجراءات الإدارة تشكل هجوماً ضد العمارة الكلاسيكية، النسق الذي تعشقه الغالبية الكاسحة من الشعب الأميركي»، مضيفاً أنّه يأمل ألا تكون الإدارة عاقدة العزم على «إعادة قبح العمارة الخمومية أو أي من النسق الكئيبة الأخرى». من ناحيتهم، لم يستجب أي من سباندل وفاغان وغيلو لطلبات الحصول منهم على تعليق، الثلاثاء.
ومن جهته، رفض شوبو الطلب الذي وُجه إليه للتقدم باستقالته طبقاً لما ورد في مراسلات عبر البريد الإلكتروني اطّلعت عليها «نيويورك تايمز». وتكشف الرسائل أنّه تلقى طلباً رسمياً من مساعد للرئيس للتقدم باستقالته الاثنين. وذكر الخطاب أنّه في حال عدم تلقي البيت الأبيض استقالته، فإن عمله في اللجنة سيُنهى بحلول تمام السادسة مساء اليوم ذاته.
وفي رده على الرسالة، كتب شوبو أنّه «على مدار تاريخ اللجنة الممتد لـ110 عاماً، لم يسبق أن أقدم رئيس على الإطاحة بعضو في اللجنة من منصبه، ناهيك برئيس اللجنة. ومن شأن الإقدام على مثل هذه الخطوة إقرار سابقة مروعة».
على الجانب المقابل، لم تستجب المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض لطلب الحصول على تعليق، الثلاثاء.
وأوضح شوبو، الذي وقع الاختيار عليه لرئاسة اللجنة في يناير (كانون الثاني)، قبيل مغادرة ترمب منصب الرئاسة، أنّ جميع المعينين الأربعة الذين عينهم ترمب في وقت متأخر حلّوا محل أعضاء عينهم الرئيس السابق باراك أوباما قبيل رحيله عن البيت الأبيض.
جدير بالذكر أنّ العمارة الكلاسيكية لطالما شكلت قضية مثيرة للانقسام والجدل في صفوف المصممين المعماريين. وحمل القرار الذي وقعه الرئيس ترمب أخيراً عنوان «تعزيز العمارة المدنية الفيدرالية الرائعة»، وأقر العمارة الكلاسيكية باعتبارها النسق المفضل للمباني الفيدرالية الجديدة، لكنّه لم يحظر صراحة النسق الأخرى.
من جهته، دعا المعهد الأميركي للمصممين المعماريين إدارة بايدن بإلغاء القرار. في المقابل، كتب فيليب كينيكوت، الناقد الفني والمعماري البارز في «واشنطن بوست»، مقالاً في فبراير (شباط) حثّ خلاله إدارة بايدن على إقالة أعضاء اللجنة، واصفاً إياهم بأنّهم أدنى تميزاً عن سابقيهم.
جدير بالذكر، أنّ بايدن ألغى قرار ترمب بخصوص النسق المفضل للعمارة الفيدرالية في أعقاب توليه الرئاسة.
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)