«مهرجان الرقص المعاصر»... من بيروت إلى كل العالم

شاهده العام الماضي متفرجون من 81 دولة

مشهد من أحد عروض مهرجان بيروت (تصوير: أسكن اليبول)
مشهد من أحد عروض مهرجان بيروت (تصوير: أسكن اليبول)
TT

«مهرجان الرقص المعاصر»... من بيروت إلى كل العالم

مشهد من أحد عروض مهرجان بيروت (تصوير: أسكن اليبول)
مشهد من أحد عروض مهرجان بيروت (تصوير: أسكن اليبول)

واحدة من بوادر بدء التعافي، عودة «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» (بايبود) ولو رمزياً إلى عروض، حضرها عدد قليل من الجمهور خلال عطلة الأسبوع الماضي في «قصر سرسق» في العاصمة اللبنانية، فيما تستمر بقية حفلاته على منصة «سيترن لايف». وتحت عنوان «عمارة الجسد المدمر» يشارك 70 فناناً في الدورة الـ17 لهذا المهرجان السنوي الذي له جمهور عريض في لبنان، ويصر على استمرار مسيرته رغم كل العثرات خلال السنتين الماضيتين. ثمة أفق فتحته الأزمات يخبرنا عمر راجح صاحب مشروع مهرجان «بايبود»، معتبراً أن النقل «أونلاين» الذي استجرته أزمة «كورونا»، لن يختفي، «وإن زال الوباء»، ولم يتوقف المهرجان العام الماضي فقد نقل حفلاته على الشبكة الإلكترونية، من دول مختلفة. وهذه السنة، جزء من المهرجان سيكون أونلاين على المنصة التي تم تفعيلها «سيترن لايف». ويرى راجح أن هذه المنصة فتحت أفقاً جديداً، لأن العروض على «زووم» أو وسائل التواصل المعروفة ثبت أن المشاهد عليها، غالباً ما يغادر بعد قليل من الوقت. أما المنصة التي أريد لها أن تكون موجودة خصيصاً لهذه الغاية، فيدخلها الراغب، بدفع ثمن تذكرة الحضور، أو مجاناً أحياناً، لكن المتفرج يكون أكثر جدية.
تابع المهرجان العام الماضي جمهور من 81 دولة مختلفة، وهو ما لم يكن متاحاً خلال العروض الحية. «اكتشفنا بسبب الأزمة وجود احتمالات جديدة لم نكن نعرفها، فقد شاهدنا العام الماضي على المنصة سبعة آلاف متفرج خلال أسبوع واحد فقط. كما أن تقديم العروض في الهواء الطلق، كما فعلنا في متحف سرسق، يعطي روحاً مختلفة للأعمال، ومعنى مختلفاً حين نرى جسد الراقصين يعانق ملامح المدينة».
حرص مهرجان بيروت للرقص، خلال الدورات السابقة، على التشبيك مع دول عربية، منها فلسطين ولا يزال، وقد تأجل مهرجانها إلى شهر يوليو (تموز)، بسبب الأحداث الأليمة التي تمر بها. التحولات بعد «كورونا» جعلت توجه المهرجان أكثر عالمية، بفضل الانفتاح الإلكتروني. لذلك فإن الدورة الحالية التي بدأت عروضها يوم 19 من الحالي وتستمر حتى 27 يونيو (حزيران) المقبل، تحفل بمشاركة عشرات الفنانين من دول أوروبية ومتوسطية، و10 منظمات ثقافية من ثماني مدن. وثمة تركيز هذه المرة على فعاليات إلى جانب عروض الرقص، منها الحوارات، وتبادل التجارب، وعرض الأفلام والنقاش حول الطاولات المستديرة.
المواضيع حسب راجح متصلة مع هموم الحاضر، من الأزمات الاقتصادية إلى انفجار مرفأ بيروت والطغيان والقلق. الفنانون هم جزء من الناس، ويعانون ما يعانيه الآخرون، وبالتالي هناك المشاكل الفردية، والهموم العامة التي يتشاركها الجميع. هذا ما رآه المتفرج في العرض الافتتاحي «كوسموس»، ومن ثم مع الراقصة تونسية الأصل خلود ياسين، والراقص اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش الذي هو نفسه عانى بعد تضرر بيته في انفجار المرفأ، وذلك حين قدما عرضيهما في «متحف سرسق» حياً. المتحف الذي فتح حديقته ومتجره، ولا يزال يحاول الانبعاث بعد أن ذهب به عصف الانفجار هو الآخر. وكانت مجموعة من الراقصين اللبنانيين الشباب قد قدمت عرض «استحضار سريع الزوال» بقيادة المصممة كورين سكاف، على منصة «سيترن»، و«غروند زيرو» هو عرض آخر تم تقديمه يستكشف الجسد كمساحة للهندسة المعمارية المفقودة.
يقول راجح، «لا بد من التساؤل حول الاحتمالات المتبقية للجسد، ونقاط الضعف، والمرونة، أو التمرد، وكيف يتفاعل في لحظات الأزمات. نحن ندرك أن العالم الذي نعيش فيه يمر بمرحلة تحول. بعد الظروف الاجتماعية والسياسية والصحية المروعة لعامي 2019 و2020، يبدو أنه لا مفر من أن تكون الثقافة في طليعة السؤال والاستكشاف وتجديد الفكر». حوالي 14 عرضاً يشملها المهرجان تفتح الأبواب على أسلوب مختلف في التعامل مع الحاضر.
لا يرى راجح أن المهرجان خسر بسبب أزمة «كورونا»، بقدر ما فتحت له آفاقاً جديدة. «أصبح بإمكاننا عبر المنصة والعروض أونلاين، الوصول إلى أناس لم يكونوا بالضرورة قادرين على متابعتنا في أماكن العرض. أفكر بالمرضى في المستشفيات، في المسنين، في من يعيشون بعيداً عن المدن. أصبحت العروض أونلاين، كمن يحضر فيلماً في البيت وآخر قادر على الذهاب إلى قاعة السينما، الأمران ليسا واحداً. أما نحن فقد صار بإمكاننا الانفتاح على فنانين لم نكن نتواصل معهم. أنا لم أذهب إلى الإسكندرية من عشر سنوات تقريباً، لكننا بتنا نتواصل مع راقصين هناك الآن، وهم جزء من البرنامج. كذلك يشاهد متابعو المهرجان ما سننقله من إسطنبول على مدى ثلاثة أيام كما تمكنوا بداية المهرجان متابعة عرض من ريو دي جانيرو. ويوم الثامن من المقبل، ومن ضمن برنامج المهرجان ستنقل على منصة «سيترن» تدريبات لعرض راقص يعد له عمر راجح سيقدم في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يحمل عنوان «مائة ألف طريقة للكلام». وهو مستوحى من نصوص لجلال الدين الرومي عن جوهر الحب والتواصل.
ومن عروض الشهر المقبل «رحلة إلى القدس» تستوحي لعبة الكراسي الشهيرة التي يدور حولها الأطفال على وقع الموسيقى مع علمهم المسبق، في كل مرة، أنها ناقصة، وأن واحداً منهم لن يجد له مكاناً وسيصبح خارج المنافسة.
وتمكن «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» خلال 17 عاماً من تشكيل حالة لدى جمهور الشباب الذين التفوا حول الرقص في أساليبه الجديدة، كنوع فني يستطيع أن يجمع العديد من الإبداعات المعاصرة على الخشبة في رؤية انسجامية واحدة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».