تقنيات مصغّرة لكل شيء... من فحوص «كوفيد ـ 19» إلى الآلات الطابعة

علم الموائع الدقيقة يفتح آفاقاً واسعة في الطب والتكنولوجيا

«مختبر على رقاقة» بتقنيات الموائع الدقيقة
«مختبر على رقاقة» بتقنيات الموائع الدقيقة
TT

تقنيات مصغّرة لكل شيء... من فحوص «كوفيد ـ 19» إلى الآلات الطابعة

«مختبر على رقاقة» بتقنيات الموائع الدقيقة
«مختبر على رقاقة» بتقنيات الموائع الدقيقة

عند الحديث عن تقنيات الميكرو والنّانو، غالباً ما يذهب تفكير النّاس إلى الأجهزة الإلكترونية الصغيرة كالهواتف والروبوتات الصغيرة والرقائق. ولكنّ فحوص «كوفيد - 19»، التي تلعب دوراً محورياً في السيطرة على الوباء اليوم، تعدّ هي الأخرى نوعاً من التقنيات المتناهية الصغر. يقدّم الكثير من فحوص «كوفيد - 19» نتائج أكيدة في غضون ساعات قليلة من دون الحاجة إلى إرسال عيّنة إلى المختبر، ويعتمد معظم هذه الفحوص على مقاربة تسمّى «علم الموائع الدقيقة».
وبصفتي أستاذاً في الهندسة الحيوية وأعمل على «علم الموائع الدقيقة» microfluidics في أبحاثي، أعرف أن هذه التقنية تدخل في كلّ شيء: من اختبارات الحمل إلى شرائح قياس الغلوكوز، والطابعات العاملة بالحبر والفحوص الجينية. تنتشر هذه التقنية، التي لا يعرف الكثيرون بوجودها، في كلّ مكان وتنطوي على أهميّة كبيرة في مجالات عدّة في عالمنا المستمرّ في التطوّر.
موائع دقيقة
ما هي الموائع الدقيقة؟ هي الأنظمة أو الأجهزة التي تعتمد في عملها على كميّات صغيرة من السوائل التي تنتقل عبر قنوات أرقّ من الشعرة، مزوّدة بصمّامات متناهية الصغر تستطيع تشغيل وتعطيل التدفّق. تُصنع هذه القنوات من مواد كالزجاج والبوليمرات والورق والمواد الهلامية، وتعتمد على الضخّ الميكانيكي كإحدى الوسائل لتحريك السوائل. وتستخدم أيضاً وسائل أخرى كتحريك الشحنات السطحية لبعض المواد، وما يُعرف بـ«النشاط الشَعري» الشهير بـ«حركة الفتل» التي تدفع السائل في الأماكن الضيّقة بمساعدة الطّاقة المخزّنة فيه.
تتحرّك السوائل بطرق غير عفوية في المقاسات الصغيرة، على عكس التدفّق الغزير والفوضوي للمياه من خرطوم الري في الحديقة أو مرشاش (دش) الحمّام. ففي تقنية الموائع الدقيقة، أي في المقاسات الصغيرة التي تحكم القنوات المتناهية الصغر، يكون التدفّق شديد الاستقرار والثبات، ويتحرّك نزولاً عبر القناة بمجاري منظّمة ومتوازية في عملية تسمّى التدفّق الصفحي، الذي يُعدّ أحد أروع عجائب أنظمة الموائع الدقيقة. تتبع السوائل والجسيمات في التدفّق الصفحي مسارات قابلة للتقدير الرياضي؛ الأمر الذي يعتبر شرطاً أساسياً في الهندسة الدقيقة وتصميم الأجهزة الطبية.
خاصية شعرية
نشأت هذه المقاربة، التي تشكّل مصدر إلهامٍ للباحثين، منذ عقود. تنقل النباتات الأغذية من جذورها إلى الأعلى، أي أعلى الجذوع باستخدام الخاصية الشَعرية. اعتمدت هذه الفكرة كقاعدة لصناعة دوائر الموائع الدقيقة التي تزوّد نفسها بالطّاقة. نسخ علماء الكيمياء الخصائص الفيزيائية للأمطار وصمموا أجهزة تفكّك العيّنة إلى ملايين القطرات وتحلّلها بسرعات مذهلة. تلعبُ كلّ قطرة منها دور مختبرٍ كيميائي صغير يتيح للعلماء دراسة تطوّر الجزيئات الحيوية وإجراء تحليل جيني فائق السرعة، وغيرها من الأمور.
وأخيراً، يجب أن تعرفوا أنّ كلّ زاوية في الجسم البشري هي عبارة عن نظامٍ من الموائع الدقيقة؛ إذ لا يمكن للبشر أن يولدوا أو يعيشوا دون شعيرات دموية حسّاسة تحمل الطعام والأكسجين وتوجّه الجزيئات باتجاه الخلايا.
وكما هو الحال في الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، يعتبر الحجم عاملاً أساسياً في الموائع الدقيقة.
ومع تزايد صغر حجم المكوّنات، أصبح بإمكان الأجهزة الاستفادة من الخصائص الفريدة التي تتسم بها السوائل في أحجام صغيرة، لتعمل بسرعة وكفاءة أكبر، وكلفة أقلّ على الصعيد الصناعي. يمكن القول إنّ ثورة الموائع الدقيقة اعتمدت في تقدّمها بصمت على ثورة التقنيات الإلكترونية.
للأجهزة العاملة بتقنية الموائع الدقيقة فوائد بارزة أخرى، أهمّها احتياجها إلى كميّة صغيرة من السوائل؛ ما يتيح تطويرها بمقاسات صغيرة. عكفت وكالة «ناسا» في الفترة الأخيرة على دراسة فكرة استخدام أجهزة تحليل مطوّرة بتقنية بالموائع الدقيقة في عرباتها الجوّالة على كوكب المرّيخ. كما تستفيد فحوص السوائل المهمّة، كالدم البشري، من إمكانية استخدام عيّنات صغيرة، ومنها أجهزة فحص الغلوكوز، التي تعتبر من معدّات الموائع الدقيقة التي تتطلّب قطرة دمٍ واحدة لقياس سكّر الدم لدى مريض السكري.
يستخدم النّاس الموائع الدقيقة بكثرة في حياتهم اليومية؛ لأنّها تدخل في مجالات عدّة كالطابعات العاملة بالحبر مثلاً التي تنتج قطرات حبرٍ صغيرة أثناء عملها، والطابعات الثلاثية الأبعاد التي تستخدم بوليمراً مصهوراً في خرطوشة مصنوعة من الموائع الدقيقة، وأقلام الحبر العادية أو الحبر الجاف التي تفرز الحبر باعتماد مبادئ الموائع الدقيقة. تعمل بخاخات مرضى الربو أيضاً برشّ رذاذ من قطرات الدواء المجهرية. ويعتمد اختبار الحمل على تدفّق البول على شريحة ورقية مصنوعة من الموائع الدقيقة.
في البحث العلمي، تستطيع الموائع الدقيقة توجيه الأدوية والأغذية، أو أي سائل باتجاه أجزاء محدّدة من الكائنات الحيّة عبر عمليات بيولوجية محاكاة بدقّة. عمد الباحثون في إحدى التجارب العلمية إلى حبس ديدان في قنوات وتحفيزها بالروائح لمعرفة المزيد حول دوائرها العصبية. وعمل فريقٌ آخر على توجيه الأغذية باتجاه مناطق محدّدة من جذور نبتة لمراقبة التفاعلات المختلفة للمواد الكيميائية المستخدمة عادة لتسريع النموّ. وعملت مجموعات بحثية أخرى على ابتكار فخاخ مصنوعة من الموائع الدقيقة تلتقط خلايا ورم نادر في الدم.
وأخيراً وليس آخراً، استخدمت الرقائق الجينية المصنوعة من الموائع الدقيقة في تسريع أداء تسلسل الجينوم البشري وصناعة أدوات فحوص الحمض النووي كتلك التي تقدّمها شركة «23 أند مي». باختصار، ساهمت الموائع الدقيقة في تحويل هذه الأفكار إلى حقيقة.
مستقبل طبي واعد
تنطوي هذه التقنية على أهمية كبرى في دفع الطبّ نحو عصر من الحداثة والسرعة وانخفاض الكلفة. تعدّ الأجهزة القابلة للارتداء التي تقيس مكوّنات العرق بهدف متابعة التمارين الرياضية، والأجهزة المزروعة التي توصل أدوية السرطان لورم المريض بعضٌ من الحدود العلمية المستقبلية التي سترسمها الموائع الدقيقة.
يعمل الباحثون حالياً على تطوير أنظمة موائع دقيقة مركّبة اسمها «أعضاء على رقائق» organs - on - chips تهدف إلى محاكاة أشكالٍ متنوّعة من الفيزيولوجيا البشرية. تعمل الفرق العلمية، في مختبري ومختبرات أخرى حول العالم، على تطوير منصّات «ورم على رقاقة» لاختبار أدوية السرطان بفعالية أكبر. ومن المفترض أن تساعد هذه العناصر المحاكاة العلماء على اختبار علاجات جديدة بطريقة غير مكلفة وغير مؤلمة، وغير مثيرة للجدل من النّاحية الأخلاقية المتعلّقة باستغلال الحيوانات أو البشر. في مختبري، عمدنا إلى تشريح خزعة سرطانية أخذناها من مريض وقسّمناها إلى قطعٍ مجهرية أبقيناها حيّة. وساعدنا حجمها الصغير على استخدام الموائع الدقيقة لحبس قطع الورم الصغيرة في أوعية عدّة، واستخدام دواء مختلف في كلّ وعاء. تحفظ هذه العينات المحيط الخلوي المناسب للورم، ما يسمح لنا بالتوصّل إلى توقّعات أكثر دقّة حول تأثير الدواء على شخص محدّد.
تخيّلوا الذهاب إلى طبيب لينتزع منكم خزعة، وينجح في تحديد أي مزيج من الأدوية هو الأمثل للقضاء على الورم الذي تعانون منه في أقلّ من أسبوع. قد يكون هذا الإنجاز بعيداً عن متناولنا اليوم، ولكنّ الأكيد هو أنّ المستقبل سيكون للموائع الدقيقة.

الموائع الدقيقة في بخاخات الربو واختبارات الحمل

> يستخدم النّاس الموائع الدقيقة بكثرة في حياتهم اليومية؛ لأنّها تدخل في مجالات عدّة كالطابعات العاملة بالحبر مثلاً التي تنتج قطرات حبرٍ صغيرة أثناء عملها، والطابعات الثلاثية الأبعاد التي تستخدم بوليمراً مصهوراً في خرطوشة مصنوعة من الموائع الدقيقة، وأقلام الحبر العادية أو الحبر الجاف التي تفرز الحبر باعتماد مبادئ الموائع الدقيقة.
تعمل بخاخات مرضى الربو أيضاً برشّ رذاذ من قطرات الدواء المجهرية. ويعتمد اختبار الحمل على تدفّق البول على شريحة ورقية مصنوعة من الموائع الدقيقة.
في البحث العلمي، تستطيع الموائع الدقيقة توجيه الأدوية والأغذية، أو أي سائل باتجاه أجزاء محدّدة من الكائنات الحيّة عبر عمليات بيولوجية محاكاة بدقّة.
عمد الباحثون في إحدى التجارب العلمية إلى حبس ديدان في قنوات وتحفيزها بالروائح لمعرفة المزيد حول دوائرها العصبية. وعمل فريقٌ آخر على توجيه الأغذية باتجاه مناطق محدّدة من جذور نبتة لمراقبة التفاعلات المختلفة للمواد الكيميائية المستخدمة عادة لتسريع النموّ. وعملت مجموعات بحثية أخرى على ابتكار فخاخ مصنوعة من الموائع الدقيقة تلتقط خلايا ورم نادر في الدم.
وأخيراً وليس آخراً، استخدمت الرقائق الجينية المصنوعة من الموائع الدقيقة في تسريع أداء تسلسل الجينوم البشري وصناعة أدوات فحوص الحمض النووي كتلك التي تقدّمها شركة «23 أند مي». باختصار، ساهمت الموائع الدقيقة في تحويل هذه الأفكار إلى حقيقة.
* أستاذ الهندسة الحيوية بجامعة واشنطن - خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«نيويورك تايمز» تتحدث عن محنة العلماء الفلسطينيين

صورة من جامعة «بيرزيت» لطلاب دراسة الفيزياء الفلكية
صورة من جامعة «بيرزيت» لطلاب دراسة الفيزياء الفلكية
TT

«نيويورك تايمز» تتحدث عن محنة العلماء الفلسطينيين

صورة من جامعة «بيرزيت» لطلاب دراسة الفيزياء الفلكية
صورة من جامعة «بيرزيت» لطلاب دراسة الفيزياء الفلكية

لعقود من الزمن كان السعي وراء مهنة علمية في الأراضي الفلسطينية محفوفاً بالمخاطر. ثم هاجمت «حماس» إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مما أشعل حرباً في قطاع غزة مستمرة منذ أكثر من عام.

حوار مع علماء فلسطينيين

ومع قصف إسرائيل وغزو غزة في حملة للقضاء على «حماس»، تم تدمير المدارس واضطر الطلاب إلى مواصلة دراستهم عن بُعد أو وقفها تماماً. أما الأطباء فقد عملوا في ظروف متدهورة على نحو متزايد. وشعر الفلسطينيون خارج المنطقة أيضاً بآثار الحرب.

وقد تحدثت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أربعة فلسطينيين يعيشون في غزة والضفة الغربية والخارج، حول الصراع الذي يَلوح في الأفق بشأن أبحاثهم العلمية وعملهم الطبي: كما كتبت كاترينا ميلر(*).

د. أسيد السر

من فلسطين الداخل... نحو هارفارد

* أسيد السر (32 عاماً): في عام 1948، انتقلت عائلة الدكتور أسيد السر إلى غزة من حمامة، وهي قرية على أرض أصبحت الآن جزءاً من إسرائيل. وقال السر، وهو طبيب مقيم في الجراحة العامة وباحث في تكساس، إنه أكمل دراسته في كلية الطب في غزة عام 2016، ودرس في جامعة أكسفورد لبعض الوقت، ثم انتقل إلى جامعة هارفارد عام 2019 لإجراء بحث حول جراحة الصدمات الطارئة.

وقال إن الدراسة في أوروبا والولايات المتحدة تختلف عن الدراسة في غزة. فالوصول غير المحدود إلى الكهرباء والمياه والإنترنت أمر مفروغ منه، والسفر، في الغالب، غير مقيد. وقال: «كان هذا صادماً بالنسبة لي».

في غزة، اختار والدا السر مكان العيش بناءً على المكان الذي سيكون لديهم فيه وصول ثابت إلى الإنترنت، حتى يتمكن هو وإخوته من متابعة دراستهم. بالنسبة إلى الكهرباء، كان لديهم مولد للطاقة. وإذا نفد غازه، كانوا يعتمدون على الألواح الشمسية والشموع والبطاريات.

وتوفر الدراسة في الخارج مزيداً من الفرص. لفعل ذلك، كان على السر التقدم بطلب للحصول على تصاريح من الحكومات في إسرائيل ومصر والأردن وغزة. وقال إن العملية قد تستغرق شهوراً. واستغرق الأمر منه ثلاث محاولات للحصول على القبول في أكسفورد. تقدم بطلب للحصول على ما يقرب من 20 منحة دراسية وفاز بواحدة. ومع هارفارد، استمر في التقديم. وقال السر إن هذه المثابرة شيء تعلمه من العيش في غزة.

كان السر في تكساس في 7 أكتوبر 2023. لكنَّ عائلته عادت إلى منزلها في غزة، وتعيش بالقرب من مستشفى الشفاء. في العام الماضي، داهمت إسرائيل مستشفى الشفاء. ثم انتقلت عائلة السر المباشرة منذ ذلك الحين إلى الجنوب، ودُمرت منازلهم في غزة، كما قال، فيما كان يواصل تدريبه الطبي في تكساس.

د. وفاء خاطر

فيزيائية بجامعة بيرزيت

* وفاء خاطر (49 عاماً). نشأت وفاء خاطر في الضفة الغربية، وهي منطقة تقع غرب نهر الأردن تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. ثم انتقلت إلى النرويج لمتابعة دراستها للدكتوراه في الفيزياء بجامعة بيرغن.

أتيحت لها الفرصة للبقاء في النرويج بشكل دائم، لكنها عادت إلى الضفة الغربية للتدريس في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي. تتذكر قائلةً: «قال لي جميع زملائي النرويجيين في ذلك الوقت: هل أنتِ مجنونة؟ لكنني قلت لهم: «هذا هو الوطن، وأنا في مهمة».

والآن، تعمل خاطر أستاذة في جامعة بيرزيت، وهي من أوائل الفلسطينيين الذين مارسوا مهنة دراسة طبيعة وسلوك الجسيمات دون الذرية. وقالت: «لم يتخيل كثير من الناس أبداً أن هناك علوماً توجد في فلسطين».

وأضافت أن غياب مجتمع بحثي صحي في الضفة الغربية المحتلة يحد من فرصها للتعاون العلمي، لذا فقد سعت إلى بناء شبكة. وقد دعت زملاء أوروبيين للتحدث في جامعات الضفة الغربية، ودفعت طلاب الفيزياء الفلسطينيين لحضور برامج بحثية صيفية في الخارج.

وقالت إن البحث النظري يمكن أن يزدهر في الضفة الغربية، لكنَّ «الفيزياء التجريبية ليست لها أي فرصة تقريباً». وأوضحت أن الجامعات تكافح لدفع ثمن المعدات والبنية الأساسية للمختبرات، وتعتمد على التبرعات.

مرصد جامعة بيرزيت

وقد افتُتح في عام 2015، وهو أحد المرافق الفلكية القليلة في الضفة الغربية. موَّله رامز حكيم، رجل أعمال فلسطيني - أمريكي. وقالت خاطر: «كانت هذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها لطلابنا رؤية تلسكوب والنظر إلى السماء».

حتى عندما يتم تأمين التمويل، قد يكون من الصعب استيراد الأدوات التجريبية إلى الضفة الغربية وغزة، لأن بعض المعدات اللازمة للبحث يمكن استخدامها أيضاً لأغراض عسكرية. تصنف إسرائيل مثل هذه السلع على أنها «استخدام مزدوج» وتتطلب إذناً للمدنيين في الأراضي الفلسطينية لشرائها.

التدريس عن بُعد في الضفة الغربية

بعد هجوم 7 أكتوبر، بدأت خاطر وأعضاء هيئة التدريس الآخرون في جامعتها التدريس عن بُعد. وقالت إن زيادة نقاط التفتيش في الضفة الغربية، نتيجة للوجود العسكري الإسرائيلي المتزايد بعد هجوم «حماس»، جعلت من الصعب على الطلاب والأساتذة حضور الفصول الدراسية شخصياً. استؤنفت التدريس وجهاً لوجه بشكل محدود في الربيع الماضي. ولكن بعد ذلك في أكتوبر، بعد وقت قصير من شن إيران هجوماً صاروخياً على إسرائيل تسبب في سقوط الشظايا على الضفة الغربية، أعلنت بيرزيت أن واجبات التدريس والإدارة ستنتقل عبر الإنترنت من أجل السلامة.

أمضت خاطر الصيف في تدريس دورة فيزياء عبر الإنترنت للطلاب في قطاع غزة. وقالت إن تسعة عشر طالباً سجلوا، لكن أكثر من نصفهم تركوا الدراسة لأنهم يفتقرون إلى الكهرباء المستقرة أو الوصول إلى الإنترنت.

د. ضحى البرغوثي

طبيبة وابنة عالم في الفيزياء الفلكية

ضحى البرغوثي (25 عاماً). درست الدكتورة ضحى البرغوثي، وهي طبيبة باطنية في الضفة الغربية، الطب لمدة ست سنوات في جامعة القدس. أنهت عامها التدريبي أو التدريب بعد التخرج في أكتوبر من العام الماضي، قبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب.

كان مستشفى «المقاصد» في القدس، حيث تدربت البرغوثي، على بُعد بضع دقائق فقط سيراً على الأقدام من منزلها. ولكن حتى قبل الحرب، كان عليها أن تغادر مبكراً لساعات للتنقل عبر نقاط التفتيش المطلوبة للوصول إلى العمل في الوقت المحدد. بعد 7 أكتوبر 2023، داهم جنود إسرائيليون مستشفى «المقاصد»، واعتقلوا المرضى من غزة وأقاربهم.

في أكتوبر الماضي، اعتُقل والد ضحى، عماد البرغوثي، وهو عالم فيزياء فلكية في جامعة القدس، ووُضع قيد الاعتقال الإداري، وهي ممارسة تُستخدم لاحتجاز الفلسطينيين دون توجيه اتهامات رسمية، للمرة الرابعة.

بعد اعتقاله الأول في عام 2015، منعته السلطات الإسرائيلية من مغادرة الضفة الغربية، وهو ما قالت ضحى البرغوثي إنه قيَّد فرصه في التعاون العلمي.

في بيان لصحيفة «نيويورك تايمز»، قال الجيش الإسرائيلي إن عماد البرغوثي اعتُقل بسبب شكوك في «العضوية والنشاط في جمعية غير قانونية، والتحريض والمشاركة في أنشطة تُعرِّض الأمن الإقليمي للخطر». فيما صرّح عالم الفيزياء الفلكية بأنه ليس منتمياً أو مؤيداً لـ«حماس».

بعد ستة أشهر من الاعتقال، أُطلق سراح والدها فيما وصفته البرغوثي بـ«ظروف صحية مروعة»، بما في ذلك فقدان الوزن الشديد، والاشتباه في كسر الأضلاع وتلف الأعصاب في أصابعه.

د. رامي مرجان (الى اليسار)

مركّبات جديدة مضادة للسرطان

* رامي مرجان (50 عاماً). وصف رامي مرجان، الكيميائي العضوي في الجامعة الإسلامية في غزة، حياته المهنية بأنها طريق مليء بالعقبات، حيث قضى سنوات في محاولة إنشاء مجموعة بحثية وقليل من الأدوات العلمية أو المواد الكيميائية التي يمكن استخدامها لإجراء تجارب متطورة. وكتب في نص لصحيفة «التايمز»: «ليست لدينا بنية أساسية للبحث».

يركز مرجان على إنشاء مركَّبات جديدة ذات تطبيقات محتملة في الأدوية المضادة للبكتيريا والفطريات والسرطان. وهو يستخدم التخليق متعدد الخطوات، وهي تقنية تخضع فيها المركّبات المبدئية لسلسلة من التفاعلات الكيميائية لتحويلها إلى المنتج النهائي المطلوب. تتطلب هذه العملية استخدام المذيبات والأجهزة لتحديد التركيب الكيميائي للمركب في كل خطوة، ولكن لأن كثيراً من هذه الأدوات تعدها إسرائيل معدات ذات استخدام مزدوج، فإن مرجان وزملاءه غير قادرين على أداء ذلك بشكل صحيح.

«غزة أجمل مكان في وطني»

تمكن مرجان من نشر بعض أعماله في المجلات الأكاديمية. لكنه قال إن نقص الموارد في غزة حدَّ من إنتاجه البحثي مقارنةً بأبحاث زملائه في الخارج.

وقد حصل على الدكتوراه من جامعة مانشستر في عام 2004، ثم عاد إلى غزة. وقال: «أردت أن أنقل الخبرة والمعرفة إلى شعبي». أجبره العنف على إخلاء منزله في مدينة غزة والانتقال إلى دير البلح، وهي مدينة في الجزء الأوسط من غزة تعرضت لإطلاق النار حيث استهدف الجيش الإسرائيلي ما قال إنها «مراكز قيادة وسيطرة» لـ«حماس» هناك.

واعترف مرجان بأن قراره العودة إلى القطاع منعه من تحقيق أحلامه في مهنة علمية. لكنه لم يندم على ذلك، وقال: «غزة هي أجمل مكان، وهي جزء صغير من وطني».

* خدمة «نيويورك تايمز»

اقرأ أيضاً