الجناح اللبناني يستلهم شجرة الزيتون في معرض «بينالي البندقية للعمارة»

جذوع الزيتون المعمر كما صورت ليلياً وقدمت في المعرض
جذوع الزيتون المعمر كما صورت ليلياً وقدمت في المعرض
TT

الجناح اللبناني يستلهم شجرة الزيتون في معرض «بينالي البندقية للعمارة»

جذوع الزيتون المعمر كما صورت ليلياً وقدمت في المعرض
جذوع الزيتون المعمر كما صورت ليلياً وقدمت في المعرض

لمدة ستة أشهر، ولمحبي الفن المفاهيمي، سيبقى الجناح اللبناني في بينالي البندقية السابع عشر للعمارة، مشرعاً أبوابه، بدءاً من اليوم. وفي مبنى «ماجازينو دل سال» تجد المشروع المعماري اللبناني والذي صمم بتناغم هندسي مع موقع الجناح الساحر، حيث تمكنت المعمارية هلا وردة مع فنانين آخرين مثل ايتل عدنان وفؤاد الخوري من تقديم عمل رؤيوي، يرمز إلى مفهوم التعايش والتناغم، من خلال تصميم مساحات، تتداخل فيها الهندسة المعمارية والرسم والموسيقى والشعر والفيديو وفن التصوير. هذا التناغم الذي استطاعت وردة أن تحققه بين العناصر المكونة للمعرض تحت اسم «سقف للصمت»، يشعر به الزائر وهو يجول بين الغرف. انطلقت وردة من شجرة الزيتون المعمرة، التي لها في لبنان جذور ضاربة في الأرض، ومنها ما هو معمر من آلاف السنين كما في منطقة «بشعلة»، وبنيت حوله القصص، وفي تجاويفه يجلس طالبي الظل ومحبي الحكايات. أنها الشجرات «التي تحتضن في جوف جذوعها الهائلة قابلية التعايش والحلم، مع الاحتفاظ بحق الصمت».
هذه الأشجار التي عبرت العصور والأزمنة، نرى صورها بالأبيض والأسود من مدخل المعرض، وقد صورت بتقنية المساحي الضوئي في وضح النهار بعدسة فؤاد الخوري. الصور مع الموسيقى المصاحبة هي مجرد مقدمة تمهيدية، للغوص أكثر في حياة شجرة الزيتون، ومحيطها، وفكرة الفراغ. تقول وردة «لماذا لا نفكر في الأماكن من منظار أنها مساحات فارغة بدلاً من التفكير في كيفية ملئها؟». انطلاقاً من هذه الفكرة، وعلى هديها، ننتقل في أنحاء المعرض لنعرج على لوحات للرسام بول فيريليو، التي تشبه في روحها ما ترمي إليه هذه الفكرة الخلابة، حيث
أرادت وردة أن تكرمه من خلال هذه اللفتة. واستوحت الفنانة من حطام انفجار مرفأ بيروت أرضية يسير عليها الزائر يتناثر عليها الزجاج الذي نفخه وشكله جيريمي ماكسويل وينتريبرت، فهي محطمة ومتناثرة بما ويتناسب والفكرة العامة للمشهد.
وفي ركن آخر، عرض ضوئي لست عشرة شجرة زيتون معمرة موجودة في بشعلي في لبنان، صورت ليلاً، لتبرز تضاريسها وتفاصيل عروقها التي رسمتها السنين بشكل مؤثر للغاية. وهذا التصوير البديع هو بعدسة الفنان البصري آلان فلايشر، الهدف منها إلقاء الضوء على فكرة الفراغ والضوء، تتفرج عليها على وقع موسيقى «الغوص في الزمن» من تأليف مجموعة «كوليكتف».
هذا الجزء اللافت من المعرض يجاور غرفة مركزية مثمنة الأضلاع لكنها حين تدخلها تكتشف أنها أسطوانية وضعت على جدارها المستدير ست عشرة لوحة مستديرة الشكل أيضاً للرسامة اللبنانية العالمية ايتل عدنان. تجريدية اللوحات، لا تحجب معانيها الروحانية، واندغام تموجات الخضرة فيها مع اللون الأصفر، وأخيلة الأشجار والوجوه والأحاسيس الناضحة. فهي توحي حقاً كما يقول القيمون على المعرض «بعراقة شجرة الزيتون التي كانت جزءاً مهماً من حضارات البحر الأبيض المتوسط. وتجسد هذه المساحة التي توجت بسقف شبه كروي».
وقد نظمت زيارة افتراضية أمس، للجناح اللبناني في البندقية، شرحت خلاله وردة، ما رمت إليه من خلال هذا العمل المتكامل، الذي أدارته طوال عشرة أشهر. هذه هي المشاركة الثانية للبنان في بينالي البندقية للعمارة، التي يعتبرها القيمون عليه، بمثابة اختراق تطلب مشقة وكفاحاً امتد منذ عام 2019، كاد يطاح بها تكراراً بسبب الثورة، والأزمة الاقتصادية، ومن ثم انفجار 4 أغسطس (آب)، وما تلاه من توترات.
في 27 أغسطس 2019، انطلقت مسابقة أفكار في نقابة المهندسين في بيروت بحضور المنسق العام على البينالي هاشم سركيس وذلك بهدف اختيار المشروع. وبعد أن عاينت اللجنة 32 مشروعًا مطروحًا، اختارت عشرة مشاريع في الجولة الأولى وطلبت من الفرق التي اختارتها أن تعرض مشروعها خلال جلسة استماع عامة. وفي 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، توج هذه العملية اختيار مشروع A «سقف للصمت» الذي قدمته المهندسة المعمارية هلا وردة التي أسست متحف اللوفر في أبوظبي بالتعاون مع جان نوفيل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».