«تصحيح المسار»... بايدن يكمل ما بدأه أوباما في الشرق الأوسط

بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
TT

«تصحيح المسار»... بايدن يكمل ما بدأه أوباما في الشرق الأوسط

بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)

قبل عشرة أيام، اتصل مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بنظيره الإسرائيلي، وأعاد عقارب الساعة إلى الوراء. بحسب العرض الأميركي للحوار، دعا سوليفان إلى «التعبير عن مخاوف الولايات المتحدة الخطيرة» بشأن أمرين: الإخلاء المعلق -بأمر من المحكمة- لعدد من العائلات الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح في القدس، والاشتباكات العنيفة التي وقعت في نهاية الأسبوع في الحرم القدسي بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين فلسطينيين. بعبارات أخرى، أكدت إدارة الرئيس جو بايدن علناً إعلاء المصلحة الوطنية الأميركية في منع عمليات إخلاء الشيخ جراح، بغض النظر عن إملاءات القانون الإسرائيلي -تماماً في الوقت الذي كانت «حماس» ترسل فيه صواريخ وأجهزة حارقة إلى إسرائيل لتبعث بالرسالة نفسها. كان هذا الجهد الواعي لوضع «رؤية واضحة» بين الولايات المتحدة وإسرائيل بمثابة عودة واضحة لنهج الرئيس باراك أوباما.
إن دعوة سوليفان تدعونا لإعادة فتح الجدال الذي لم يُحسم بعد، والذي بدأ حتى قبل أن يؤدي الرئيس جو بايدن اليمين الدستورية: هل يشق الرئيس الجديد طريقه في الشرق الأوسط أم أنه يسير على خطى أوباما؟ وحتى الآن، فإن أولئك الذين كانوا يخشون أن تصبح رئاسته ولاية ثالثة لأوباما قد ركزوا عيونهم الحذرة على روبرت مالي الذي اختاره الرئيس مبعوثاً لإيران. ففي أثناء خدمته في البيت الأبيض لأوباما، ساعد مالي في التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني، وهو الذي سعى إلى التسويات مع طهران؛ هذه التسويات التي جاءت على حساب حلفاء أميركا في الشرق الأوسط. وفي مقالة لمجلة «فورين أفيرز»، كُتبت في 2019، أعرب مالي عن أسفه لأن أوباما فشل في التوصل إلى مزيد من هذه الإجراءات التيسيرية. وكتب مالي أن اتجاه سياسة أوباما جدير بالثناء، ولكن «اعتداله» كان عدواً لمشروعه. وكونه «أحد أنصار المنهج التدريجي»، فقد أشرف على «تجربة تم تعليقها في منتصف الطريق».
والآن، ينصح مالي -صاحب المقالة التي تقود المرء إلى تولي المسؤولية- بايدن بالمضي قدماً وبسرعة. ولكن من المؤكد أن الرئيس، وليس مبعوثه إلى إيران، هو الذي يحدد اتجاه السياسة ووتيرتها. وعلى مدار مسيرته المهنية في واشنطن التي امتدت لنصف قرن تقريباً، لم يوقف بايدن أبداً أياً من ملفات الراديكالية المتطرفة، وكذلك لم يفعل سوليفان، ولا وزير الخارجية أنطوني بلينكن. إن وجود هذا الزوج إلى جانب بايدن يشير لكثيرين إلى أن مالي لن يقوم بتوجيه دفة السياسة تجاه إيران. وبعد فترة وجيزة من الانتخابات، أشار أحد المخضرمين في واشنطن إلى أن «بلينكن وسوليفان هما بالتأكيد من الجناح الأكثر اعتدالًا في الحزب، وهذا أمر مطمئن».
وفي جلسة الاستماع بمجلس الشيوخ التي تمت في يناير (كانون الثاني) الماضي، واصل بلينكن طمأنته من خلال التعبير عن نيته إصلاح عيوب خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني. وفي الشهر التالي، ذكرت «فورين بوليسي» أن انقساماً حدث داخل الحكومة، حيث حقق سوليفان وبلينكن الآمال المعلقة عليهما. فعندما أيَّد مالي إعطاء «حوافز» لإيران لإقناعها بالعودة بسرعة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، سيطر سوليفان وبلينكن على النقاش، من خلال «اتباع نهج أكثر تشدداً».
وخلال الشهر الماضي، أصبح هذا المسار أكثر صعوبة -كما كان من الصعب رؤيته. ففي 2 أبريل (نيسان)، أجرى مالي مقابلة مع قناة «بي بي إس» أثارت الدهشة في القدس والرياض، وفي الكونغرس. وقبل المحادثات النووية في فيينا، حيث كان الأوروبيون على وشك استضافة مفاوضات غير مباشرة بين مسؤولي بايدن وممثلين إيرانيين حول إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، أعرب مالي عن حرصه على رفع العقوبات الأميركية عن إيران، وضمان «تمتع إيران بالمزايا التي كان من المفترض أن تحصل عليها وتتمتع بها بموجب الاتفاق». وحول المقابلة، قال مسؤول إسرائيلي كبير لم يذكر اسمه: «إذا كانت هذه هي السياسة الأميركية، فنحن قلقون».
هذا وقد تعجب عملاء المخابرات الإسرائيلية بسبب تلك العبارة عندما قاموا بتخريب مولد طاقة في منشأة التخصيب النووي الإيرانية في نطنز. وبينما أضرت العملية ببرنامج إيران النووي، أشارت أيضاً إلى معارضة إسرائيل للموقف الأميركي في محادثات فيينا.
إن الأصوات التحذيرية في القدس لها ما يبررها، حيث كان البيان الصادر في الأول من مايو (أيار) الحالي من عباس عراقجي، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا، بمثابة نقطة بداية. فقد ادعى أن المفاوضين الأميركيين وافقوا بالفعل من حيث المبدأ على إزالة العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الإيراني، وصناعة السيارات، والخدمات المالية، والصناعة المصرفية، والموانئ -من أجل إزالة، بعبارة أخرى، جميع العقوبات الاقتصادية الأكثر أهمية على الإطلاق التي فُرضت على إيران. إن التصريحات الأخيرة لمسؤولي إدارة بايدن لا تقدم لنا أي سبب لعدم تصديق عراقجي، والآن أصبح الرهان الذكي متمثلاً في إحياء كامل لخطة العمل الشاملة المشتركة في وقت قصير نسبياً.
لكن حتى الإسرائيليين لم يستوعبوا النطاق الكامل والحجم الكامل لتكيف بايدن مع إيران. والمشكلة لا تكمن في أن سوليفان وبلينكن يفشلان في كبح جماح مالي، بل في أنهما يسيران بخطى ثابتة معه. ويسود إجماع داخل الإدارة، ليس فقط على خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن على كل مسألة كبيرة تتعلق باستراتيجية الشرق الأوسط: يتفق الجميع، بداية من الرئيس إلى المسؤولين الأقل درجة، على ضرورة استكمال ما بدأه أوباما، مما يعني أن الأسوأ لم يأتِ بعد.
فإذا لم تكن السيطرة التي يمارسها مشروع أوباما على كل عقل في إدارة بايدن واضحة بالفعل، فذلك لأن الارتباك لا يزال يسود حول الطبيعة الحقيقية للمشروع. هل تشك في ذلك؟ إذن، أجرِ الاختبار القصير التالي المكون من سؤال واحد: إلى ماذا، على وجه التحديد، كان روبرت مالي يشير عندما تحدث عن «تجربة» أوباما نصف المكتملة؟
إذا أجبت بخطة العمل الشاملة المشتركة، فأنت على خطأ. وإذا قلت: تحسين العلاقات مع إيران، فإنك تحصل على درجات أعلى من ذلك بكثير، لكنك ما زلت لم تقدم الإجابة الصحيحة.
كتب مالي أن «الهدف النهائي» للرئيس كان «مساعدة الشرق الأوسط على إيجاد توازن أكثر استقراراً للقوى يجعله أقل اعتماداً على التدخل المباشر للولايات المتحدة أو طلب حمايتها»؛ هذه طريقة ملتوية للقول إن أوباما يحلم بنظام شرق أوسطي جديد، نظام يعتمد أكثر على الشراكة مع إيران.
وما زال الحلم مستمراً. ففي مايو 2020، بعد ستة أشهر من كتابة مالي مقاله في مجلة «فورين أفيرز»، كتب سوليفان، بصفته مستشاراً لحملة بايدن الرئاسية آنذاك، وشارك في كتابة مقاله الخاص الذي وضع استراتيجية للشرق الأوسط. ويتمثل الهدف الذي قام بشرحه في أن يكون «أقل طموحاً» من الناحية العسكرية «ولكن أكثر طموحاً في استخدام النفوذ والدبلوماسية الأميركية للضغط من أجل تخفيف التوترات. وفي نهاية المطاف، هي طريقة مؤقتة جديدة بين اللاعبين الإقليميين الرئيسيين». فإذا استبدلنا بكلمة «توازن» كلمة «تسوية مؤقتة»، وإذا أدركنا أن «خفض التصعيد» و«الدبلوماسية» يتطلبان تعاوناً مع إيران، فإن رؤية سوليفان مطابقة لـ«الهدف النهائي» لأوباما، كما وصفه مالي. وشدد سوليفان على هذا التكافؤ عندما عرف هدف خطته على أنه «تغيير دور الولايات المتحدة في نظام إقليمي ساعدت في إنشائه».
ويستحق هذا المشروع الخاص بإنشاء نظام شرق أوسطي جديد الذي يمتد الآن عبر إدارتين رئاسيتين أن نعطيه اسماً. إن «مبادرة أوباما - بايدن - مالي - بلينكن - سوليفان» خيالية مبهمة إلى حد كبير. وبدلاً من ذلك، نطلق عليها «تصحيح المسار». وهذا الأمر يجب أن يقع على عاتقنا، وفي هذا الوقت المتأخر؛ كما أن تسمية مشروع عمل يضم كثيراً من الموهوبين الذين يعملون بشكل أفضل على مدار عقد من الزمان يبدو أكثر من غريب بعض الشيء. فعادة ما يطلق الرؤساء مبادرات كبيرة، مثل هذه المبادرة مع منحها عنوان رئيسي، ويقومون بتجميل رؤيتهم بعشرات الخطب والمقابلات الأصغر. ويتم البحث عبثاً عن خطاب أوباما عن «نظام جديد في الشرق الأوسط».

روبرت مالي في فيينا الأسبوع الماضي

ويبدو واضحاً أن أوباما شعر أن مشروعه سيتقدم بشكل أفضل من خلال التخفي والتضليل، وليس من خلال براعة البيع العدائية. ويستخدم بايدن قواعد اللعبة نفسها، مع الحفاظ على فريق السياسة الخارجية لأوباما للولاية الثانية على حاله تقريباً. ويدرك هو ومساعدوه أن التشويش حول «الهدف النهائي» يجعل تحقيقه أسهل. وفي الواقع، يبدو أن التشويش هو أفضل صديق لتصحيح المسار.
إن فكرة كون الهدف «محسوب على التشويش» من شأنها أن تجعل منه ذكرى حزينة مناسبة لخطة العمل الشاملة المشتركة، إذا كان من المفترض خلط هذا الملف المميت. في 159 صفحة، تحتوي على خمسة ملاحق، مليئة بصفقات جانبية سرية، كانت هذه الخطة معبأة في ملف واحد يحتوي على أمور مشوِّشة من شأنها أن تبقي الجمهور الأميركي مرتبكاً على مدار السنوات الست الماضية. وعلى الرغم من أن خطة العمل المشتركة الشاملة ليست سوى عنصر واحد من مشروع أوباما الكبير، فإن دورها لا غنى عنه.
لنبدأ بما لم تقُم به خطة العمل الشاملة المشتركة. فعلى عكس ما ادعى واضعوها منذ عام 2015، فإن الخطة لم تمنع كل مسارات الوصول إلى سلاح نووي إيراني. كيف يمكن ذلك؟ إن ما يسمى «بنود انقضاء المدة» المنصوص عليها في الاتفاق -البنود التي تلغي جميع القيود ذات المعنى على برنامج إيران النووي- ستدخل جميعها حيز التنفيذ في أقل من عقد من الزمان. وستختفي بعض أهم القيود بحلول عام 2025. وبحلول عام 2031، سيكون لدى الجمهورية الإسلامية، في ظل حماية ومساعدة دولية، برنامج أسلحة نووية غير مقيد، يعتمد على قدرة على التخصيب النووي للاستخدام في الأغراض الصناعية. وعلى أساس هذه الحقيقة وحدها، أفضل ما يمكن للمرء أن يقوله عن الاتفاق هو أنه يشتري عقداً من التحرر من الابتزاز النووي الإيراني.
ولكن حتى هذا الادعاء المتواضع لم يصمد أمام إمعان النظر، إذ يسمح الاتفاق ببرنامج بحث وتطوير قوي، وعدم تدمير المنشآت (مثل المخبأ المحصن في الجبال في فوردو) التي هي بلا منازع جزء من برنامج نووي عسكري، وليس مدني. بمعنى آخر، تسعى إيران إلى تحقيق طموحاتها في الحصول على أسلحة نووية حتى خلال هذه الفترة من القيود المفترضة، وبرنامجها مستمر، كما يرى أي قارئ صحيفة، ليكون ذلك بمثابة أداة من أدوات الابتزاز.
إن إخفاقات الاتفاق صارخة لدرجة أن مسؤولي بايدن لا ينفون وجود المشكلة. وبدلاً من ذلك، يتظاهرون بوجود حل. إذن، ما خطتهم؟ «متابعة تنفيذ الاتفاق»! إنهم يزعمون أن خطة العمل الشاملة المشتركة هي المرحلة الأولى في عملية متعددة المراحل، مثل منتج وادي السيليكون الذي ينتظر الترقية.
وفي مقاله المنشور في «فورين أفيرز»، كان سوليفان أول من طرح فكرة «المتابعة». حينها، وعد بلينكن، خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ في يناير (كانون الثاني)، وفي أثناء انعقاد المؤتمر الصحافي في أول يوم له في المنصب، بالعمل من أجل «اتفاقية أطول وأقوى».
«الإطالة والقوة مع سوليفان وبلينكن!» سيكون شعاراً جذاباً إذا كان لدى الإصدار الثاني من خطة العمل الشاملة المشتركة فرصة على أرض الواقع. لكن إدارة بايدن تصر على أنها لن تثير فكرة اتفاقية أطول وأقوى حتى بعد الاستعادة الكاملة لخطة العمل الشاملة المشتركة الأولى. ومع ذلك، كما أشرنا، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة الأولى تلغي بسرعة جميع القيود المهمة المفروضة على برنامج إيران النووي -بشكل دائم، وبموافقة دولية. فمن خلال منح طهران كل ما تريده مسبقاً، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة الأولى تلغي خطة العمل الشاملة المشتركة الثانية.
ويدعي سوليفان وبلينكن أنهما أدركا العيوب البشعة لخطة العمل الشاملة المشتركة، حتى وهما يتعرقان ويكدحان لإحيائها من القبر حيث دفنها دونالد ترمب. وزاد الشعور بالراحة التي منحوها للعقول القلقة عندما، وفقاً لتقرير «فورين بوليسي» الصادر في فبراير (شباط) الماضي، خالفوا مالي، رافضين مطالبة إيران بأن ترفع الولايات المتحدة جميع العقوبات، في شرط مسبق للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. لقد كنا نعتقد أن الرجال من أصحاب الفهم هم أيضاً رجال حقيقيون.
ولكن هذا التقرير صرف الأنظار الساهرة عن القصة الحقيقية: المساومة بين واشنطن وطهران التي بدأت في اللحظة التي تولت فيها الإدارة السلطة. فحتى قبل بدء مفاوضات فيينا في أبريل (نيسان)، كانت الرسائل تشق طريقها من طهران إلى واشنطن، من خلال وسطاء توسطوا بأفكار حول كيفية تخفيف الولايات المتحدة للعقوبات من دون رفعها رسمياً.
ونتيجة لذلك، قام سوليفان وبلينكن بتسليم حزمة الحوافز إلى طهران -الكثير منها. ولإعطاء بعض الأمثلة فقط، نذكر ما يلي: أسقطت إدارة بايدن الاعتراضات الأميركية على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار تم منحها لإيران؛ ألغت سياسة الأمم المتحدة في عهد ترمب التي أطلقت ما يسمى الآلية الانتقامية -وهي خطوة لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بسبب انتهاكها للاتفاق؛ أفرجت عن أموال النفط الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية والعراق وسلطنة عمان. وتنذر هذه الخطوات بنهاية وشيكة لنظام العقوبات، مما شجع الصينيين على شراء النفط الإيراني بمعدل أعلى بكثير من أي وقت مضى منذ عام 2017. وفي ظل هذه الخلفية، جاءت مقابلة مالي في 2 أبريل (نيسان) على قناة «بي بي إس» التي عبر فيها عن حرصه على رفع جميع العقوبات في أسرع وقت ممكن.
جاء حماس الإدارة لاستيعاب إيران إلى أقصى حد بمثابة صدمة لكثير من المراقبين، ومن بينهم السيناتور جيمس إينهوف من أوكلاهوما، العضو الجمهوري البارز في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، الذي أصدر بياناً يتهم الإدارة بخرق كلمتها. لقد وصف إينهوف والإسرائيليون وعدد لا يحصى من الآخرين خطاب بلينكن بالخاطئ، بصفته خطة فعلية لاستخدام النفوذ الذي بناه ترمب لـ«إصلاح» الاتفاق النووي.
ولكي نكون منصفين، ذكر بلينكن دائماً أن الإدارة تعتزم العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي هذا الإطار، لم يكذب هو ولا سوليفان ولا أي مسؤول إداري آخر، لكنهم شجعوا الناس بشكل استراتيجي على الاعتقاد أن الأشياء التي يعرفونها لم تكن -ولن تكون- أبداً صحيحة.
لقد ذهبت خداعاتهم إلى ما هو أبعد من الأسئلة النووية الضيقة. وعلى عكس مزاعم الإدارة الأميركية، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة تنهي جميع العقوبات الأكثر ضرراً على إيران -النووية وغير النووية على حد سواء. فبفضل أحد بنودها المبكرة، أنهت خطة العمل المشتركة الشاملة بالفعل حظراً دولياً على مبيعات الأسلحة التقليدية لإيران، مما أتاح لطهران سبلاً لتوسيع تعاونها الدفاعي مع روسيا والصين. ونظراً لأن «الحرس الثوري» سيزداد ثراءً من مبيعات النفط، فإن شراكاته الدولية ستزداد قوة أيضاً. وستتوسع شبكة الميليشيات المحيطة بإسرائيل وحلفاء أميركا العرب، وستصبح لدغتهم التي يتم إطلاقها بأسلحة دقيقة التوجيه أكثر سُمِّية. كما تتفاقم صعوبة احتواء مشروع إيران الإقليمي بسبب دعم الأصدقاء الأقوياء مثل روسيا والصين. إن هذا التحليل لا يمثل نظرية، ولكنه رأي مبني على الحس السليم.
إن عمليات الخداع المحيطة بخطة العمل الشاملة المشتركة لها هدف واضح: جعل الإدارة تبدو داعمة للاحتواء، بينما أنها -في الواقع- تنهيه. لكن لماذا يشعر المسؤولون مثل بلينكن وسوليفان بالارتياح تجاه مثل هذه الازدواجية؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال الدخول في عقلية تصحيح المسار. تقدم مقالات «فورين أفيرز» بالتأكيد طريقة واحدة للدخول، ولكن الطريق المباشر للفهم يتمثل بالفعل في الدخول من خلال عقل باراك أوباما، مؤلف السياسة التي ينهجها بلينكن وسوليفان.
سوليفان وبلينكن في البيت الأبيض مارس الماضي
سوليفان وبلينكن في البيت الأبيض مارس الماضي
لقد تبلورت عقلية تصحيح المسار بالكامل في 31 أغسطس (آب) 2013، وهو اليوم الذي أزال فيه أوباما خطه الأحمر بشأن استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية. وكان أوباما قد رسم الخط الأحمر للمرة الأولى للعمل العسكري الأميركي في صيف 2012، بعد تلقيه تقارير تشير إلى أن الديكتاتور السوري بشار الأسد كان إما يستخدم أو يستعد لاستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين. ورداً على ذلك، حث بعض مستشاري أوباما على زيادة الدعم للمتمردين الساعين للإطاحة بالأسد. وبدلاً من ذلك، رسم أوباما خطه الأحمر، آملاً في أن تتمكن موسكو وطهران من كبح جماح الأسد، وحينها لن يكون البيت الأبيض مضطراً إلى اتخاذ إجراء. لكن بعد عام واحد تقريباً، حطم الأسد آمال أوباما بهجوم بغاز السارين أسفر عن مقتل مئات المدنيين، ربما أكثر من ألف.
ومع ذلك، كان أوباما مصمماً -كما كان دائماً- على منع التدخل الأميركي في سوريا، والتمسك بمساعدة موسكو وطهران. وسأل نفسه: ماذا لو كانت الولايات المتحدة قادرة على العمل في شراكة أكبر مع روسيا وإيران لتحقيق الاستقرار ليس فقط في سوريا، ولكن أيضاً في بؤر التوتر الأخرى؟ وبعد كل شيء، كان هناك بالفعل ترتيب أميركي ضمني مع إيران في العراق، على أساس العداء المتبادل المفترض للمتطرفين السنة. ألا يمكن توسيع هذا النموذج ليشمل الشرق الأوسط بأكمله؟ يمكن للشراكة مع روسيا وإيران أن تعمل على استقرار هذه المنطقة المضطربة. ومع ذلك، فإن شن هجوم على سوريا سيعزل كلاً من موسكو وطهران، ويلحق الضرر بحلم أوباما في إقامة نظام إقليمي جديد.
وفي حين كان الجيش الأميركي يستعد لتنفيذ ضربة ضد نظام الأسد، بحث أوباما عن ذريعة لإلغائها. وقد وجد ذلك عندما تذكر فجأة واجبه الدستوري في السعي للحصول على إذن من الكونغرس للعمليات العسكرية. عرف أوباما أن الجمهوريين في الكونغرس سيرفضون الإذن بعمل عسكري، مما يجعلهم مسؤولين عن محو خطه الأحمر. برفض الجمهوريين لتنفيذ الضربة ضد نظام الأسد، أخبر بن رودس، أحد مساعديه عضو دائرته المقربة، بأنهم «سيضعون خنجراً في قلب المحافظين الجدد؛ سيرى الجميع أنه ليس لديهم أصوات».
لم يكن لدى أوباما أي مصلحة في إضعاف الوفاق الروسي - الإيراني. وبدلاً من ذلك، سعى إلى عرقلة «ارتباط القوى» (باستخدام المصطلحات السوفياتية) التي كان يعتقد أنها كانت تحاصره. وشملت هذه القوى، بالإضافة إلى مجموعات متنوعة في السياسة الداخلية الأميركية، حلفاء تقليديين في الشرق الأوسط، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا -وجميعهم منزعجون، كل لأسبابه الخاصة، من القوة الصاعدة للوفاق الروسي - الإيراني.
ومن جانبه، فهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معضلة أوباما. وسرعان ما قدم ذريعة قبلها أوباما عن طيب خاطر. وتظاهر الاثنان معاً بتجريد الأسد من أسلحته الكيماوية. ونقول «تظاهر» لأن المبادرة الروسية - الأميركية المشتركة كانت واجهة بوتين التي تهدف إلى وضع وجه مشرف على انسحاب أوباما. وفي مقابل جائزة الامتناع الأميركي عن توجيه ضربة ضد سوريا، كان بوتين أكثر سعادة بتدمير بعض أسلحة الأسد الكيماوية.
لكن بعض من هذه الأسلحة فقط. لقد قامت منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية، والمجموعة التي نفذت السياسة الأميركية - الروسية المشتركة، بتدمير الأسلحة الكيماوية التي أعلنها الأسد رسمياً فقط. وبالطبع لم يصرح الأسد رسمياً بكل شيء، وهي حقيقة أصبحت غير قابلة للدحض في أبريل (نيسان) 2017، عندما شن الأسد هجوماً آخر بغاز السارين، قتل هذه المرة ما يقرب من 100 شخص.
لكن بالنسبة لأوباما، كان ردع الأسد دائماً مصدر قلق ثانوي. لقد حقق الآن ما رآه أكبر جائزة على الإطلاق؛ أي أنه فتح طريق لتسوية استراتيجية مع إيران، حليف روسيا في سوريا. وقد ذكر رودس لأحد المراسلين في نهاية رئاسة أوباما: «لو كانت الولايات المتحدة قد تدخلت بقوة أكبر في سوريا، لكانت هذه الظروف ألقت بظلالها، وسيطرت على مجريات الأمور في ولاية أوباما الثانية، وكان من المستحيل تحقيق خطة العمل الشاملة المشتركة».
ومع بقاء مثال سوريا ثابتاً في أذهاننا، أصبحنا أخيراً في وضع يسمح لنا بتحديد ماهية خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل حقيقي واقعي، وليس على نحو مشوش. كما يفهم من قبل واضعيه، فإن الاتفاق يشمل جانبين في وقت واحد: أولاً، هو وسيلة لسحب البرنامج النووي الإيراني من المسارات الرئيسية للعلاقات الأميركية - الإيرانية ووضعه جانباً، وبالتالي خلق مساحة سياسية ودبلوماسية لتفاعل أكبر بين واشنطن وطهران -وهو شرط أساسي لبناء النظام الإقليمي الجديد الذي يطمح إليه تصحيح المسار.
ثانياً، هو أداة لمحو خيار الاحتواء في السياسة الخارجية الأميركية. وقد فسر كثير من المحللين إلغاء العقوبات غير النووية من قبل خطة العمل الشاملة المشتركة على أنه نتاج مساومة غير ذات كفاءة. وقيل لنا مراراً إن المفاوضين الإيرانيين الماكرين خدعوا أوباما الساذج المسكين الذي لا يبدو أنه يدور برأسه حول مفهوم النفوذ في المفاوضات.
على العكس من ذلك، خدع أوباما الذكي المحللين بإخفاء خطة العمل الشاملة المشتركة على أنها اتفاقية لحظر انتشار الأسلحة النووية. وفي الواقع، كان الاتفاق هجوماً مباشراً على السياسة الخارجية الأميركية التقليدية. لقد كان -ولا يزال- حصان طروادة مصمماً لإعادة تشكيل مكانة أميركا ودورها في الشرق الأوسط. وتتمثل مهمة سوليفان وبلينكن في دفع حصان طروادة إلى الميدان المركزي للسياسة الخارجية الأميركية، من خلال التلويح بمؤهلاتهم السياسية «الوسطية» والتسويق لها على أنها وسيلة احتواء غير كاملة، ولكنها قيّمة.
يعتمد مبدأ تصحيح المسار على الافتراض الخاطئ بأن إيران هي قوة الوضع الراهن، قوة تشترك في عدد من المصالح الرئيسية مع الولايات المتحدة. ووفقاً لهذه العقيدة، يركز الأميركيون المحافظون وأنصار إسرائيل على آيديولوجية إيران -الغارقة في التعصب الأعمى تجاه غير المسلمين بشكل عام، التي تعلن عن تطلعاتها في الإبادة تجاه الدولة اليهودية بشكل خاص- ولكنها ليست مفيدة بصفتها دليلاً عملياً لسلوك طهران. هذا ما علمنا إياه السيد أوباما في مقابلة عام 2014، عندما ادعى أن قادة إيران «استراتيجيون»، وهم أناس عقلانيون «يستجيبون لمبادئ التكاليف والفوائد... والحوافز».
وفي مقابلة أخرى، ذكر أوباما أنه كان على حلفاء الولايات المتحدة أن يتعلموا «مشاركة الجوار» مع إيران. لقد كان عداؤهم يمنع واشنطن من الوصول إلى الأبعاد الأكثر براغماتية لطابع الحكومة الإيرانية. تتغذي إسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية على مخاوف وطموحات ضخمة تجذبهم إلى حروب الظل مع إيران. وبسبب الولاء المفرط لحلفائها، سمحت أميركا لنفسها بالانجرار إلى دعم حروبهم، مما أدى إلى توتر العلاقات الأميركية - الإيرانية من دون داعٍ، بينما أدى ذلك في الوقت نفسه إلى تفاقم الصراعات المحلية.
وفقاً لنظرية تصحيح المسار، ستساعد أميركا حلفاءها في حماية أراضيهم السيادية من الهجمات الإيرانية أو المدعومة من إيران، ولكن لن تتنافس مع إيران خارج حدودها. وفي المناطق المتنازع عليها في سوريا واليمن والعراق، ستجبر الولايات المتحدة الآخرين على احترام «الحصص» الإيرانية، وهو مصطلح كان أوباما ذات مرة يستخدمه لوصف مواقع القوة الإيرانية. وبالتالي، ومن الناحية العملية، ستستخدم أميركا نفوذها لإعلاء مصالح إيران على مصالح حلفاء الولايات المتحدة في المناطق الرئيسية من الشرق الأوسط.
وفي الداخل، بدت هذه السياسة مثيرة للجدل، على أقل تقدير، كما تتطلب تطوير تكتيكات لتمويه الميل نحو طهران. ويعد تقديم خطة العمل المشتركة الشاملة على أنها اتفاقية ضيقة للحد من الأسلحة من أهم هذه التكتيكات، لكن هناك تكتيكين آخرين جديرين بالملاحظة بشكل خاص.
الأول هو عناق الدب: وهو عبارة عن ضغط يمكن تقديمه للعالم الخارجي بصفته بادرة حب، لكنه يشل حركة متلقيه. أتقنت إدارة أوباما التحرك تجاه إسرائيل خلال مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. وتباهى المسؤولون الأميركيون بشكل روتيني بأنهم رفعوا العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى آفاق جديدة باهرة. وكي نكون منصفين، فإن هذا الادعاء ليس عارياً تماماً عن الصحة، وذلك بفضل المشاريع المشتركة، مثل نظام الدفاع الصاروخي المسمى (القبة الحديدية) الذي يسمح لإسرائيل بحماية أراضيها من الهجمات الصاروخية التي ترعاها إيران. ولكن إذا كانت القبة الحديدية هي المظهر المحب على ما يبدو لعناق الدب، فإن الجزء الذي يعيق الحركة كان تثبيطاً قوياً للعمليات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية ضد برنامج إيران النووي وشبكتها العسكرية الإقليمية. لقد جعل أوباما كليهما يبدوان أقل أهمية من خلال الإشارة باستمرار إلى القبة الحديدية التي أصبحت أداة أميركية لإجبار إسرائيل على اتخاذ موقف أكثر سلبية في مواجهة قوة إيران المتزايدة وعدوانها المستمر.
عناق الدب هو أيضاً أداة لإلقاء الضوء على النقاد الذين يزعمون بدقة أن تصحيح المسار يمثل شجاعة سياسة الاحتواء. فالتوفير المستمر للمساعدات الأمنية الأميركية للحلفاء يسمح للإدارة بأن تدعي بشكل معقول أن الاحتواء ما زال قائماً وبصحة جيدة، وأن الولايات المتحدة بالفعل «تقاوم» أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، وأنها بعيدة عن التخلص من حلفائها القدامى، وأنها ملتزمة بسلامتهم.
ويتمثل التكتيك الثاني في خدعة القيم. فعندما تميل واشنطن نحو إيران، فإنها تخفي دوافعها الحقيقية بتصريحاتها حول النزعة الإنسانية السامية -فتتوقف عن أن تكون قوة عظمى. وبدلاً من ذلك، أصبحت ممرضة بين الدول، مستنكرة المعاناة الإنسانية، مرددة عبارات مثل: «لا يوجد حل عسكري لهذا الصراع». تحث خدعة القيم الحلفاء، وبشكل علني، على عدم التراجع أمام إيران، ولكن الانخراط في «النقاط الثلاث»: الدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد. هذا الثلاثي الذي نشره أوباما للمرة الأولى في سوريا يتراجع الآن بشكل روتيني عن التعبير عنه على ألسنة مسؤولي بايدن الذين سايروا الخطة المقدمة في مقال سوليفان في «فورين أفيرز»، إذ إنهم منشغلون في تشجيع حلفاء أميركا على الجلوس والتفاوض مع الإيرانيين.
جانب من مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي في فيينا
جانب من مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي في فيينا
وقد قال حسن نصر الله مطلع الشهر الحالي: «نحن ندعم أي حوار إيراني مع قوى دولية أو إقليمية أو عربية، ونعده مفيداً في تهدئة التوتر في المنطقة». إن زعيم «حزب الله» اللبناني، أكثر الميليشيات المدعومة من إيران فتكاً في العالم العربي، يوافق بشدة على خطة سوليفان. ولمَ لا يقوم بذلك؟ فالدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد تحول إيران ووكلاءها إلى شركاء أميركا في شكل «دبلوماسية السلام»، ويحولون أولئك الذين يسعون لاحتوائهم إلى أعداء للسلام متعطشين للدماء.
الآن، وبعد أن أصبح بإمكاننا رؤية ما وراء الحيل اللطيفة التي تخفي الأهداف الحقيقية لتصحيح المسار، يمكننا تحديد ضروراتها الاستراتيجية الأربع بلغة بسيطة سهلة: أولاً، السماح لطهران ببرنامج أسلحة نووية غير مقيد بحلول عام 2031. ثانياً، إنهاء العقوبات المفروضة على النظام الاقتصادي والمالي الإيراني. ثالثاً، تنفيذ سياسة استيعاب إيران ومخالبها في العراق وسوريا واليمن ولبنان. رابعاً، فرض تلك السياسة على أقرب حلفاء أميركا. وإذا اتبعت الولايات المتحدة هذه الوصايا، فسيحدث نوع من التوازن الإقليمي الطبيعي. إن الولايات المتحدة، كما يذهب التفكير، ستخرج نفسها أخيراً من قاعدة الحرب التي فرضها عليها الحلفاء التقليديون، بأجندتهم المعادية لإيران. وبعد ذلك، سيكون التواصل الدبلوماسي مع إيران هو الأداة الأساسية اللازمة للحفاظ على الاستقرار الإقليمي (إذا كنت تشك في هذا الأمر، فامنح مقالات مالي وسوليفان في «فورين أفيرز» قراءة أكثر تعمقاً).
يستند تصحيح المسار، بعبارة ملطفة، إلى نظرية جوفاء. إنه يخطئ في ذكر طبيعة الجمهورية الإسلامية ونطاق طموحاتها. فالنظام الذي قاد هتافات «الموت لأميركا» على مدى الأربعين سنة الماضية هو نظام رجعي عنيد، إذ ترى الجمهورية الإسلامية نفسها قوة عالمية زعيمة للعالم الإسلامي، وتطمع في الهيمنة على الخليج الفارسي -والشرق الأوسط بأكمله في الواقع. لكن الأداة الوحيدة التي امتلكتها لتحقيق أهدافها هي التخريب الإقليمي.
إن آية الله خامنئي، رئيس هذا المشروع الضخم، هو سيد الفوضى. وبعد النفط، يُعد عنصر التصدير الرئيسي للجمهورية الإسلامية هو الميليشيا الإرهابية التي يقودها «الحرس الثوري» الإيراني -وهي الصادرات الوحيدة التي تنتجها إيران باستمرار على مستوى منقطع النظير. لقد أخطأ مالي وسوليفان تماماً عندما جادلوا، في الواقع، بقولهم إن الحلفاء يغرقون الولايات المتحدة في صراع مع إيران. ليس الحلفاء، بل الجمهورية الإسلامية هي التي تملأ العالم العربي بالميليشيات الإرهابية، وتسلحها بأسلحة دقيقة التوجيه، وتصف التحالف الذي تقوده بـ«محور المقاومة». إنها تفعل ذلك لسبب واحد بسيط: إنها تسعى في الخارج إلى تدمير النظام الأميركي في الشرق الأوسط.
فشبكة الميليشيات الإيرانية والبرنامج النووي جعلاها قوية بما يكفي لتكون عاملاً رئيسياً في كل ركن مضطرب في الشرق الأوسط، ولكن ليس بالقوة الكافية لبناء نظام بديل. وهنا يكمن تناقض غريب في مشروع خامنئي. ولا يمكن لإيران في الواقع الاحتفاظ بالمناطق المتنازع عليها أو استقرارها من دون موقف أميركي مفيد.
هذا التناقض نفسه يربك تصحيح المسار الذي يعتقد واضعوه أن الشراكة مع إيران هي تذكرة عبور لإنهاء التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. لكن تجارب كل من العراق وسوريا أثبتت مغالطة هذه الرؤية. ففي عهد أوباما، عندما سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق، زاد نفوذ إيران بشكل كبير. وما الذي حدث؟ انتشرت الميليشيات المدعومة من إيران مثل الأعشاب عبر الأرض، وخلقت الفوضى التي أعقبت ذلك الفراغ الذي ملأه تنظيم داعش، مما أجبر أوباما على إعادة التدخل عسكرياً -ولكن الآن مع الخدمة العسكرية الأميركية، في الواقع، بصفتها قوة جوية لميليشيات إيران. لم ينهِ أوباما التدخلات العسكرية، لقد بدّل جوانبها وجهاتها.
لقد حدثت عملية مماثلة في سوريا. فمن أجل إنقاذ نظام الأسد، لم تكن إيران بحاجة فقط إلى تدخل الجيش الروسي لتعزيز موقفها ضد قوات المعارضة السورية، ولكن إلى مساعدة الولايات المتحدة. لقد أبقى أوباما كلاً من تركيا وإسرائيل في مأزق، بينما قتل الروس والإيرانيون والميليشيات الإيرانية أكثر من 500 ألف شخص، وهجَّروا 10 ملايين آخرين من منازلهم.
لقد اختبر أوباما وموظفوه -الذين هم الآن موظفو بايدن- بالفعل إمكانات تصحيح المسار. لقد جلبت المعاناة والموت فقط، ناهيك من الضعف العام للموقف الأميركي.
وتفسر السياسة الداخلية جزئياً الاعتقاد الذي تمارسه هذه النظرية الفارغة على العقول اللامعة. كان تصحيح المسار هو المبادرة المميزة لباراك أوباما الذي بقي إما الرجل الأقوى في السياسات الديمقراطية أو في المرتبة الثانية. وبفوزه بالرئاسة، يصبح بايدن زعيم الحزب اليوم، لكنه مدين بكثير من شعبيته الشخصية، بالإضافة إلى الفوز نفسه، لرئيسه السابق.
ينص المخطط التنظيمي لوزارة الخارجية على أن مالي مسؤول عن رفع التقارير إلى وزير الخارجية. ما لا يكشفه المخطط التنظيمي هو أن مالي، بصفته حارس شعلة أوباما في إيران، يقدم تقاريره إلى بلينكن عبر أوباما في الحقيقة. أما سوليفان، فيرفع تقاريره إلى بايدن مباشرة، لكن قدرته على الخروج عن أجندة أوباما محدودة بحقيقة بسيطة من حقائق الحياة. فكما لاحظ سوليفان نفسه في مقابلة أجراها في ديسمبر (كانون الأول): «لقد وصلنا إلى نقطة تكون فيها السياسة الخارجية هي السياسة الداخلية، والسياسة الداخلية هي السياسة الخارجية».
فاز بايدن في المجمع الانتخابي بـ45 ألف صوت فقط، موزعة على ثلاث ولايات بهامش ضئيل للغاية. ولا يزال بحاجة ماسة إلى دعم أوباما الذي يستطيع وحده أن يربط الحزب الديمقراطي بجناحه التقدمي وجناح كلينتون. وعلاوة على ذلك، إذا كانت القوة هي القدرة على إقناع الشخص بأن نجاحه في المستقبل يتطلب إبقاءه سعيداً في الوقت الحاضر، فإن لدى أوباما كثيراً من السلطة المباشرة على سوليفان. إذا كان سوليفان يطمح إلى العمل وزيراً للخارجية أو وزيراً للدفاع يوماً ما، فهو يعلم أن أوباما سيظل وسيطاً قوياً في السياسة الديمقراطية لفترة طويلة بعد مغادرة بايدن المشهد السياسي.
إن الثقل السياسي لتصحيح المسار لا ينبع فقط من الدعم الشخصي لأوباما، ولكن أيضاً من دعم التقدميين. فهو يوازن بين سياسة احتواء إيران وطريق يقود إلى حرب لا نهاية لها، ويحول سياسة تكييف إيران إلى طريق السلام. إنه يختزل تعقيدات الشرق الأوسط إلى حكاية أخلاقية مانوية تضع التقدميين في مواجهة أعدائهم الأسطوريين من المسيحيين الإنجيليين و«المحافظين الجدد» والصهاينة. ويصور تصحيح المسار هؤلاء الأعداء على أنهم متآمرون مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويخططون لإبقاء أميركا غارقة في الشرق الأوسط.
إن الدور الذي يلقيه «تصحيح المسار» لإسرائيل يخضع لتدقيق شديد. فقد دعا سوليفان، في مقاله المنشور في «فورين أفيرز»، إلى منع حلفاء الولايات المتحدة من جعل السياسة الأميركية «رهينة المطالب الإقليمية المتطرفة» فيما يتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، امتنع سوليفان عن ذكر إسرائيل، الدولة الأكثر صخباً وفاعلية في تقديم مثل هذه المطالب. هذا الإغفال، بالطبع، ليس من قبيل الصدفة.
ويجب أن نقول إن التقدمية المعاصرة أقل حماسة للصهيونية. ويتمثل أحد أهدافها العزيزة في تقليص الدعم الأميركي لإسرائيل، ويساعدها تصحيح المسار على تحقيق هذا الطموح -لكنها تفعل ذلك بشكل خبيث. فهي تمتنع عن جعل معادتها للصهيونية صريحة خوفاً من إثارة معارضة المشروع بين الأميركيين المؤيدين لإسرائيل إلى حد كبير. ولكن من خلال تطوير العلاقات مع إيران، فإن تصحيح المسار بحكم الضرورة يقلل من مكانة الدولة اليهودية.
وستعتمد كيفية رد إسرائيل على هذا التقليص من مكانتها على كيفية حل أزمتها الداخلية الطويلة التي ميزتها أربعة انتخابات في غضون عامين. ومن المؤكد أن كارهي نتنياهو في إدارة بايدن سيسعدون إذا أطيح به من السلطة، وخلفه شخص لديه خبرة أقل في السياسة الخارجية مثل يائير لبيد. يعتقد البيت الأبيض أن إسرائيل ما بعد نتنياهو ستعمل على تلبية مطالبها الرئيسية. ومع ذلك، إذا ظل نتنياهو في السلطة (أو إذا خلفه شخص لديه التصرف نفسه تجاه إيران)، فلن يقبل الإسرائيليون بسهولة الدور المتناقص الذي كلفهم به تصحيح المسار.
وفي حين يتحرك بايدن بسرعة لوضع نتنياهو (أو خليفة له التفكير نفسه) في عناق الدب، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي ينحني ويلوي ويهز، وأحياناً يلقي مرفقاً حاداً ويركل بساقه. وسينفي كل من بايدن ونتنياهو، كل بحسب أسبابه المحلية، عمق الصراع. فالابتسامات العريضة، وأمارات الصداقة، وكثير من حركات الأقدام المذهلة (كلها تم إنتاجها لصالح الكاميرات) ستحول مباراة المصارعة هذه إلى رقصة تانغو ملتوية.
وستنتقل رقصتهما عبر خمس نقاط ساخنة -وهي التوترات الخمس التي لا يمكن حلها بين القدس وواشنطن التي يخلقها «تصحيح المسار». النقطة الأولى تتمثل بالطبع في خطة العمل الشاملة المشتركة، فالإسرائيليون من جانبهم سيحاولون منع الخلاف من تعكير جو التعاون بشكل عام، لكنهم لن يمتنعوا عن كشف عيوب الاتفاق للعالم، خاصة للكونغرس. ومن ثم، تنفث خطة العمل المشتركة الشاملة جواً من عدم الثقة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية سيزداد قوة مع استمرار إسرائيل في القيام بأعمال سرية داخل إيران، وسيكون رد فريق بايدن -كما رأينا بالفعل- هو الحث على ضبط النفس، وبالتالي توليد نقطة الاشتعال الثانية.
وقد كان الهدف الأساسي للعمليات الإسرائيلية السرية تاريخياً تخريب برنامج إيران النووي، ولكن في الآونة الأخيرة عملت أيضاً بصفتها وسيلة للإعلان عن عيوب خطة العمل الشاملة المشتركة، وفضح الغش الإيراني. وتعمل الحملة الإسرائيلية السرية الآن أيضاً بصفتها دعاية، إذ تُظهر معارضة تصحيح المسار الخاص ببايدن. وقد تزامن التخريب الأخير لمحطة الطاقة النووية في نطنز، وهو مثال على ذلك، ليس فقط مع المفاوضات في فيينا حول خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن أيضاً مع زيارة وزير الدفاع لويد أوستن إلى القدس. لقد أحرجت العملية واشنطن، لا سيما من خلال دحض ادعائها أن الطريقة الوحيدة لمنع الحرب هي إضفاء الشرعية على برنامج إيران النووي. وإذا كان بإمكان إسرائيل الضئيلة تخريب أكثر منشآت إيران أماناً من تلقاء نفسها من دون إشعال فتيل حرب، فما الذي يمكن أن تنجزه أكثر بمساعدة نشطة من الولايات المتحدة؟
من جانبها، ردت إدارة بايدن على الإحراج بإصدار توبيخ خاص لإسرائيل، فيما دعت إلى مزيد من التنسيق وسياسة «اللا مفاجآت» المتفق عليها. وهناك ديناميكية مماثلة تظهر على نقطة الاشتعال الثالثة -أي الاشتباك بين واشنطن والقدس بشأن الهجمات الإسرائيلية على أهداف عسكرية إيرانية في سوريا وأماكن أخرى في المنطقة. وقد أسس اجتماع عُقد في أبريل (نيسان) بين سوليفان ونظيره الإسرائيلي مئير بن شبات «مجموعة عمل مشتركة بين الوكالات» للتركيز على تهديد الصواريخ الإيرانية دقيقة التوجيه التي توفرها طهران لحلفائها الإقليميين. وسيصور البيت الأبيض مجموعة العمل على أنها جهد موحد لـ«صد» إيران، لكنها في الواقع أداة لمراقبة إسرائيل وتقييدها.
ومع تصاعد الضغط من واشنطن لدعم الدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد، ستبحث إسرائيل عن شركاء يمكنهم مساعدتها، سواء في احتواء إيران أو في إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن تصحيح المسار. وهناك عوائق كثيرة للتنسيق الفعال بين الرياض والقدس، ولكن السعوديين يظلون المرشح الأكثر ترجيحاً، حيث لا تزال هناك فرصة في فرض الظروف المشتركة تنسيقاً أوثق بين الطرفين. لكن فريق بايدن سيرصد العلاقات بين الرياض والقدس، ويقوم بالحظر عند الضرورة -وبالتالي خلق نقطة الاشتعال الرابعة.
ومرة أخرى، كانت إدارة أوباما هي التي صاغت النموذج لمثل هذا الحظر. ففي عام 2012، عندما تزايدت مخاوف واشنطن من احتمال قيام إسرائيل بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، قام أربعة دبلوماسيين أميركيين ومسؤولون في المخابرات العسكرية بإطلاع مجلة «فورين بوليسي» بشأن التعاون المزعوم بين أذربيجان وإسرائيل استعداداً للهجوم. وقال مسؤول مجهول الهوية: «لقد اشترى الإسرائيليون مطاراً، والمطار يسمى أذربيجان». ونفى المسؤولون في باكو بشكل قاطع هذا التقرير الذي كان من المحتمل أن يكون مزيفاً. لكن الهدف كان ترهيب إسرائيل وأي من شركائها المحتملين المناهضين لإيران، وليس نشر معلومات صادقة.
أما النقطة الساخنة الأخيرة، فستكون القضية الفلسطينية. فمع تصاعد التوترات مع إسرائيل بشأن إيران، ستنفذ الإدارة خدعها القيمية، منتقدة إسرائيل لاختيارها طريق «الحرب». ولكن الأمر سيتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث سيلقي فريق بايدن أقسى توبيخ علني. إن هذه القضية تساعد في تمويه الغضب الأميركي بشأن سياسة إسرائيل المستقلة تجاه إيران، وتقديمها بدلاً من ذلك على أنها صراع صالح على «القيم».
ولم تضيع الإدارة وقتاً في إحياء صراع القيم هذا. ففي 7 أبريل (نيسان)، استأنف بلينكن التمويل الأميركي للقيادة الفلسطينية الذي قطعته إدارة ترمب، بما في ذلك تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين المثير للجدل، قائلاً إنه «يتوافق مع قيم ومصالح حلفائنا» (على النحو المحدد فقط من قبل إدارة بايدن، وأهمل أن يضيف المزيد). وسرعان ما أوضح غلعاد إردان، سفير إسرائيل في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، أن «إسرائيل تعارض بشدة النشاط المعادي لإسرائيل والمعادي للسامية الذي يحدث في منشآت الأونروا».
إن رفع القضية الفلسطينية إلى قمة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية سيقلل بشكل أكبر من فرصة حدوث انفراج ثنائي سعودي - إسرائيلي. وأي جهود لدفع الاتفاقات الإبراهيمية، أو لإحباط سياسة البيت الأبيض تجاه إيران، ستُقابَل بتوبيخ بأن إسرائيل تحاول الانتقاص من العدالة للفلسطينيين. وقد يكون إطلاق جولة أخرى من المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية أحد الطرق لفريق بايدن لإضفاء المعقولية على هذا الادعاء. ومع ذلك، ونظراً لفشل الجولات السابقة، قد يختار بايدن بدلاً من ذلك بدء محادثات مع الإسرائيليين والفلسطينيين حول كيفية الحفاظ على حل الدولتين في غياب عملية سلام. وحيال إجراء أي محادثات من هذا القبيل، فإن مطالبة إسرائيل باتخاذ إجراءات مستحيلة ستتدفق بقوة، مما يسمح لواشنطن بأن تتظاهر بأنها نصيرة الحقوق الفلسطينية ضد الإسرائيليين المتمردين.
عناصر ميليشيا تابعة لإيران في العراق
عناصر ميليشيا تابعة لإيران في العراق
ومع تمهيد المسرح على هذا النحو، فإن غرفة صدى الأصوات «المستقلة» في وسائل الإعلام ستوجه لوماً شديداً لإسرائيل، سيكون فريق بايدن قد كتبه، لكنه سيفضل عدم تقديمه بشكل مباشر. ففي جريدة «نيويورك تايمز»، في 27 أبريل (نيسان)، كتب مدير وكالة المخابرات المركزية لأوباما، جون برينان، أنه «يجب على الولايات المتحدة أن تطلب من القادة الإسرائيليين التوقف عن بناء المستوطنات الاستفزازية و... الممارسات الأمنية القمعية». وكان هذا تحذيراً مبكراً. ومع تصاعد حدة التوترات بين القدس وواشنطن، ستصف أصوات أعلى من صوت برينان الإسرائيليين بأنهم دعاة حرب فاسدون قساة، لا يخربون فقط دبلوماسية السلام، ولكن أيضاً التراث الأميركي.
وبالنسبة للمجتمع المؤيد لإسرائيل، يمثل تصحيح المسار تحدياً فكرياً وسياسياً. فمن الناحية الفكرية، يفرض إعادة التفكير فيما يشكل سياسة مؤيدة لإسرائيل. ومن الناحية التقليدية، يجتاز الموقف هذا الاختبار الحقيقي إذا كان يدعم العلاقات الثنائية القوية، بما في ذلك توفير المساعدة العسكرية الأميركية. ولكن مؤيدي تصحيح المسار، من خلال ضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها، والتأكيد لفظياً على القوة الدائمة للروابط الأميركية - الإسرائيلية، يجتازون بسهولة هذا الاختبار، حتى مع تمكينهم لإيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتزويدها بطريق الوصول إلى سلاح نووي. ولإعطاء مصطلح «مؤيد لإسرائيل» تعريفاً يلبي التحدي الحالي، ويتطلب الدعوة إلى احتواء إيران، وليس فقط الدفاع عن إسرائيل، ومن أجل استراتيجية سلام تركز على المملكة العربية السعودية.
وبالنسبة للديمقراطيين اليهود على وجه الخصوص، يفرض هذا التعريف تحدياً سياسياً شديداً. سيهاجم التقدميون ووكلاء بايدن هذا التعريف لمصطلح «مؤيد لإسرائيل» على أنه النسخة «الترمبية» التي تعني بالنسبة لهم التنصل من القيم الأميركية، واختيار الحرب على الدبلوماسية، وتبييض «الجرائم» السعودية، ومساعدة المستوطنين الإسرائيليين على «استعمار» الأراضي الفلسطينية.
ولن يتردد بعض مؤيدي الإدارة في اتهام اليهود بإرسال رجال ونساء أميركيين بالزي العسكري للموت من أجل إسرائيل. وفي عام 2018، عندما قام الموساد بتحريك الأرشيف النووي من طهران، غرد كولين كال، الأستاذ في جامعة ستانفورد مستشار الأمن القومي السابق لبايدن، بأن العملية الإسرائيلية «بالتأكيد لها أجواء مخيفة في العراق قبل عام 2003». وبعبارة أخرى، كانت عملية المخابرات الإسرائيلية، وهي إنجاز هوليوودي، مؤامرة يهودية لجر أميركا إلى حرب لصالح إسرائيل. كال الآن هو وكيل جو بايدن للدفاع عن السياسة، وثالث أقوى شخص في البنتاغون. وخلال عملية التصديق في مجلس الشيوخ، دافع أنصار كال عنه ضد الاتهام بأنه يحمل تحيزاً ضد إسرائيل، من خلال الإشارة إلى أنه، في عهد أوباما، ساعد في دفع التعاون الأميركي - الإسرائيلي حول القبة الحديدية!
وبينما يناقش المجتمع المؤيد لإسرائيل ما يشكل سياسة معقولة، يستعد الجناحان الأيمن والأيسر للقتال، دخول لسوليفان وبلينكن، ويتنقلان بين الفصائل المتشاحنة رافعين أذرعهما في مناشدة للتهدئة. ويمتلك الثنائي بالضبط ما يلزم لتشكيل طريق ثالث بين «الحد الأقصى للضغط» الذي يمارسه ترمب وإعادة تنظيم أوباما -طريقة كلينتونية من شأنها أن تربع الدائرة، وتشبك الإبرة، وتمكِّن من ركوب حصانين في وقت واحد. يقولون لهم: لا تتشاجروا بعضكم مع بعض، ولا تقسموا مجتمعكم. كن مطمئناً، نحن نساندك، وليست لدينا أوهام بشأن إيران، وإن التزامنا بأمن إسرائيل يظل ثابتاً.
ألن يكون من الجيد تصديق ذلك كله؟ لسوء الحظ، هذه الطريقة الثالثة هي عبارة عن أسطورة -وأسطورة خطيرة في هذا الإطار. إنه شراء للوقت وحسن النية لإدارة لا تستحق أياً منهما، وهي تسابق لإنهاء ما بدأه أوباما.
تصحيح المسار أمر ذكي بما يكفي ليكون غبياً على نطاق واسع. عندما يشير مالي إلى رئاسة أوباما على أنها تجربة نصف مكتملة، فإنه يعني، بشكل أكثر تحديداً، أن الولايات المتحدة فشلت في إجبار حلفائها في الشرق الأوسط على التكيف مع إيران. وفي مقاله بـ«فورين أفيرز»، أوضح أن واشنطن يجب أن تتوقف عن «منح شركائها تفويضاً مطلقاً»، و«تمكين أعمالهم الأكثر عدوانية» الموجهة ضد إيران ووكلائها. ويشرح مالي أن الحليف الذي يحتاج إلى إلغاء الشيك المفتوح هو المملكة العربية السعودية، والساحة التي يجب البدء بها هي اليمن. لقد كتب صراحة أنه يجب على واشنطن الضغط على الرياض من أجل «إنهاء الصراع».
وفي مقاله بـ«فورين أفيرز»، أخذ سوليفان هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، ووضع خطة للضغط على الرياض لإنهاء الحرب في اليمن، وأوضح أنه يجب على الولايات المتحدة أن تخبر السعوديين بعبارات لا لبس فيها أن الفشل في إنهاء التدخل سيعرض الضمان الأمني الأميركي للمملكة العربية السعودية للخطر. وفقاً لسوليفان، يجب على واشنطن «الإصرار على بذل جهود دبلوماسية سعودية جادة حسنة النية لإنهاء حرب اليمن، وخفض التصعيد مع إيران، في جزء من الشروط التي تحتفظ بموجبها بمجموعة مكملة للقوات الأميركية المنتشرة في المملكة العربية السعودية». وللحفاظ على هذه «التهدئة»، يجب على الولايات المتحدة الضغط على الرياض للدخول في «حوار» مع طهران.
من الواضح أن خطة إعطاء السعودية عناق الدب لتكسير الأضلاع كانت قائمة قبل انتخاب بايدن بفترة طويلة. فبمجرد أن تولى الفريق الجديد منصبه، لم يضِع الوقت في الضغط. وفي 27 يناير (كانون الثاني)، أعلنت الإدارة تجميد مبيعات الأسلحة. وفي 4 فبراير (شباط)، أعلنت إنهاء دعم العمليات «الهجومية» في اليمن. وفي 5 فبراير (شباط)، أعربت عن نيتها إزالة الحوثيين، وكيل إيران في اليمن، من قائمة الإرهاب؛ وفي 16 فبراير (شباط)، أوفت بوعدها.
إذا أخذنا ورقة من كتاب لعب أوباما في سوريا، فقد اعترفت إدارة بايدن باليمن على أنه مجال مصلحة إيراني بحكم الأمر الواقع. ومع ذلك، فإن شعار حركة الحوثيين «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام» لم يتم التصويت عليه بشكل جيد بين غالبية الناخبين الأميركيين. ولإخفاء حقيقة أن سياساتها تمكن الحوثيين والإيرانيين، استخدمت إدارة بايدن خدعة القيم.
وعن الهدف من قرار رفع التصنيف الإرهابي عن الحوثيين، شرح بلينكن أنه للتخفيف من «الوضع الإنساني المزري في اليمن»، وقال إن الإدارة توصلت إلى القرار لأنها استمعت إلى الأمم المتحدة والجماعات الإنسانية وأعضاء الكونغرس من الحزبين، وجميعهم حذروا من أن تصنيف الحوثيين إرهابيين «يمكن أن يكون له تأثير مدمر على وصول اليمنيين إلى السلع الأساسية، مثل الطعام والوقود».
إن خدعة القيم في اليمن تمت على نطاق واسع، إذ لا تحتفل أميركا بنفسها فقط باعتبارها ممرضة، بل تصور السعودية بصفتها وحشاً شريراً. ففي 26 فبراير (شباط)، أصدرت إدارة بايدن تقريراً استخباراتياً رفعت عنه السرية عن مقتل جمال خاشقجي. وجاء التقرير الذي زعم «موافقة» ولي العهد على الاغتيال رداً على أي تطورات جديدة؛ لقد جلبت الإدارة الملف الذي يبلغ من العمر عامين فقط من أجل استخدامه فزَّاعة في سلسلة القيم.
ومن جانبه، فإن ولي العهد لم يكن لديه أدنى شك بشأن السبب الحقيقي لهذه القذيفة. وقد قال في مقابلة تلفزيونية كبيرة في نهاية أبريل (نيسان): «نسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع إيران... نحن نهدف إلى رؤية إيران مزدهرة. نحن نعمل مع شركائنا في المنطقة للتغلب على خلافاتنا مع إيران».
ولكن في 7 مارس (آذار)، بعد أسبوعين من صدور تقرير خاشقجي، صمتت قيم الإدارة الأميركية بشكل واضح. ففي ذلك اليوم، احتج عشرات المهاجرين الإثيوبيين في مركز احتجاز في صنعاء باليمن على ظروفهم المعيشية التي لا تطاق، وحاصر حراسهم الحوثيون المتظاهرين في عنبر، وطلبوا منهم أداء «صلواتهم الأخيرة»، وألقوا قنابل يدوية على المبنى. وذكر أحد الناجين أنه «تم تحميص الناس أحياء... كان عليّ أن أخطو على جثثهم للهروب». لم يُسمع في واشنطن أي صوت عن هذا الهجوم، ناهيك من الحملة العسكرية للحوثيين في اليمن التي تضاعفت بفضل الضوء الأخضر لأميركا.
ومن خلال مكافأة العدوان الإيراني، لا تجلب الإنسانية المزيفة لتصحيح المسار إلا قدراً أكبر من المعاناة للأشخاص الذين تتظاهر بأنها تخفف من معاناتهم. وتضمن السياسة المقدسة ببساطة أن تتمتع إيران بقاعدة عربية دائمة لشن ضربات ضد أهم حليف عربي لأميركا، المملكة العربية السعودية.
إن الميل نحو إيران في اليمن له أيضاً تداعيات شريرة على التنافس بين أميركا وأكبر منافس لها في العالم اليوم. لقد وقعت الصين وإيران مؤخراً «شراكة استراتيجية» لمدة 25 عاماً تنقل مئات الملايين من الدولارات إلى إيران، وتساعد طهران على توسيع برنامجها للطاقة النووية، وتحديث موانئها، وتطوير قطاع الطاقة لديها. كما يتضمن الاتفاق تعاوناً أكبر في مجال الدفاع ونقل التكنولوجيا العسكرية الصينية. وفي الوقت نفسه، تعمل بكين على تحديث قاعدتها البحرية في جيبوتي، وبناء رصيف يمكنه استيعاب حاملات الطائرات على بعد 20 ميلاً من اليمن عبر مضيق باب المندب الذي يتحكم في المداخل المؤدية إلى قناة السويس من المحيط الهندي. ويوماً بعد يوم، تزداد احتمالية قيام تحالف صيني - إيراني قادر على السيطرة على المضيق.
ويعكس توسيع تعاون طهران الاستراتيجي مع بكين فور انتخاب بايدن التعاون مع موسكو الذي أعقب استكمال خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015. إن الشراكات الدولية المتنامية لإيران، التي هي في حد ذاتها نتاج تصحيح المسار، تعزز فقط تصميم طهران على تدمير نظام الأمن الإقليمي الأميركي. الجمهورية الإسلامية قوة لا تهدأ؛ سيحصل خامنئي على كل تنازل تقدمه أميركا، ثم يطالب بالمزيد -بالدم.
بايدن بين سوليفان وبلينكن
بايدن بين سوليفان وبلينكن
ومع ذلك، فإن مؤيدي تصحيح المسار يعرضون سياستهم بثقة تامة، كما لو أن تفوق أسلوبهم قد تم إثباته- وكأننا نستطيع جميعاً أن نرى أن صيغتهم ستخرج أميركا من قاعدة حربها، وتؤدي إلى استقرار الشرق الأوسط، وتحمي مصالح أميركا، وتحمي أقرب حلفائها. الادعاء ليس فقط عارياً من الصحة، ولكن ببساطة لا يوجد أي أساس إثباتي له -صفر. إذا كان هناك أي دليل، فإن مؤيدي تصحيح المسار سيقدمون حجتهم بأمانة وصراحة، ويتوقفون عن الاختباء خلف جدارٍ عالٍ من الخداع اللطيف.
الثقة المطلقة نفسها تميز أيضاً موقف فريق بايدن تجاه حملة «الحد الأقصى من الضغط» لترمب التي يسخر منها بصفتها متهورة غير متماسكة غير فعالة. ففي عهد ترمب، تكبد الاقتصاد الإيراني خسائر فادحة. ولم تندلع المظاهرات المناهضة للنظام في كل مدينة إيرانية كبرى في عام 2019 فحسب، بل اندلعت احتجاجات مماثلة في العراق، واستهدفت بشكل مباشر أو غير مباشر وكلاء إيران هناك. لكن سياسة «الحد الأقصى من الضغط» التي انتهجها ترمب كانت أكثر بكثير من مجرد فرض عقوبات اقتصادية. لقد تضمنت أيضاً العمل العسكري الأميركي المباشر، ودعم العمل العسكري من قبل الحلفاء، والعمليات السرية الأميركية أحادية الجانب، ودعم العمليات السرية للحلفاء -ويعمل تصحيح المسار على إنهائها جميعاً بشكل مفاجئ.
أما الأمر الأكثر إثارة للإعجاب على الإطلاق، فكانت الضربة التي وجهها ترمب إلى «الحرس الثوري» الإيراني، وهو العنصر الأكثر رعباً في نظام يحكم بشكل متزايد من خلال الخوف وحده. أنهى ترمب الوهم الذي أفاد إيران بشكل كبير، بأن وكلاءها كانوا جهات فاعلة مستقلة، وليسوا أذرعاً مباشرة لـ«الحرس الثوري». توجت سياسة تحميل إيران المسؤولية المباشرة بمقتل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس» ثاني أقوى رجل في إيران.
وفي غضون ذلك، صعّد الإسرائيليون (على الأرجح) حملتهم السرية للتخريب وجمع المعلومات الاستخبارية ضد برنامج إيران النووي. وفي وقت سابق من رئاسة ترمب، ألحقوا أضراراً بعشرات المنشآت الإيرانية الحساسة، واستولوا على أرشيفها النووي. وفي عملية دراماتيكية، قتلوا رئيس البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زادة. وعلى حد علمنا، لم تعتقل إيران أي عملاء إسرائيليين.
ومن خلال اختراق دفاعات إيران، مزقت إسرائيل -بدعم من إدارة ترمب- تبرير أوباما الرئيسي لخطة العمل الشاملة المشتركة، من خلال إظهار أن الولايات المتحدة قادرة على إدارة التحدي الإيراني، بما في ذلك البعد النووي، بالتزام عسكري أميركي خفيف نسبياً. إن الشبكات التي تخرب البرنامج النووي داخل إيران ليست أميركية، بل إسرائيلية. ومن خلال دعم حليف أميركا، لم ينجرف ترمب في صراعات غير مرغوب فيها، وقام بتمكين الآخرين من تنفيذ أعمال أميركا بالنيابة عنها.
حذا ترمب حذو جميع رؤساء الولايات المتحدة قبل أوباما الذين تصوروا الشرق الأوسط طاولة مستطيلة، حيث تجلس أميركا وحلفاؤها التقليديون في جانب، وخصوم أميركا، بما في ذلك إيران وروسيا، في الجانب الآخر. وفي إطار هذا المفهوم العريق، بدت مهمة الولايات المتحدة ذات شقين: التوسط بين الحلفاء الذين يمثلون كثيراً من الانقسامات، ودعمهم ضد الجانب الآخر.
وكان «الحد الأقصى للضغط» شكلاً من أشكال الأمن الجماعي، وشجع على توثيق التعاون بين الحلفاء الأميركيين، وبالتالي لعب دوراً رئيسياً في الاتفاقات الإبراهيمية واتفاقيات السلام التي أدت إلى توسيع العلاقات الثقافية والاقتصادية والعسكرية بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان -وكلها قريبة من المملكة العربية السعودية؛ لا أحد كان ليطبع العلاقات مع إسرائيل لو عارضت الرياض هذه الخطوة. كانت الخطوة المنطقية التالية في العملية، والجائزة الاستراتيجية للجهد، هي أن يقوم الرئيس الأميركي المقبل بدفع التقارب الإسرائيلي - السعودي.
ومن المستحيل المبالغة في قيمة اتفاق سلام سعودي - إسرائيلي كامل للولايات المتحدة أو حتى خطوات مهمة في هذا الاتجاه. فقد أعلنت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن عقيدة التعصب الراديكالي قد ترسخت داخل العالم الإسلامي أكثر مما كنا نعتقد، وهي عقيدة تسعى إلى عزل المجتمعات الإسلامية عن التأثيرات غير الإسلامية. ويرى الإماراتيون، اللاعبون الرئيسيون في الاتفاقات الإبراهيمية، السلام مع إسرائيل جزءاً من جهد متعدد الجوانب لدحض هذه النظرة غير المتسامحة للإسلام والتاريخ الإسلامي. إن المملكة العربية السعودية هي أقوى دولة عربية، وبفضل وصايتها على مكة المكرمة والمدينة المنورة، تعد واحدة من أكثر الدول نفوذاً في العالم الإسلامي بأسره. كما أنها كانت لفترة طويلة حصناً للفقه الإسلامي المحافظ والتمسك الحرفي بالقرآن. إذا كانت الدولة التي يصلي المسلمون نحوها خمس مرات في اليوم، والتي يقوم نحو مليوني شخص بالحج إليها سنوياً، قد طورت علاقات ودية مع الدولة اليهودية، فإن الآثار المترتبة على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في كل مكان ستكون عميقة.
ومع ذلك، فقد منعت إدارة بايدن مسؤوليها حتى من استخدام مصطلح «الاتفاقات الإبراهيمية» التي تمقتها تحت تأثير تصحيح المسار. ولأن الاتفاقيات تحظى بشعبية سياسية، حتى في الأوساط الديمقراطية، ستمتنع الإدارة عن التعبير عن اشمئزازها بصراحة، وستبحث عن كل فرصة للادعاء بأنها تبدو إيجابية فيما يخص تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
لكن في الواقع، ليس لدى فريق بايدن أي نية لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية التي يعد وجودها وصمة عار في سجل الديمقراطيين. إنه يدحض العقيدة التي تدعو إليها إدارة أوباما بأن السلام بين إسرائيل والعالم العربي يجب أن يبدأ باتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
والأهم من ذلك أن الاتفاقات تشكل أيضاً تهديداً لعملية تصحيح المسار نفسها. فقد نتج فك الجمود السعودي - الإسرائيلي جزئياً عن الشعور بالتهديد المشترك بينهما بشأن صعود إيران، وعدم موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية المتزايدة. وستصبح الشراكة القوية بين الرياض والقدس لا محالة العقدة الأساسية لمعارضة تصحيح المسار من داخل نظام التحالف الأميركي. وربما تكون الرغبة في إنهاء أي نقاش غير خاضع للرقابة حول توسيع الاتفاقات الإبراهيمية سبباً إضافياً لقيام إدارة بايدن بتكريس أيامها الأولى في السلطة لانتقاص محمد بن سلمان علناً، والضغط عليه بشكل خاص لمصلحة طهران. «لا تجرؤوا على مساعدة إسرائيل»، كان أمراً ضمنياً آخر حمله إلى الرياض «هجوم القيم» الأميركي على خلفية قضية خاشقجي.
عندما تولى بايدن منصبه، واجه مفترق طرق: على أحد المسارين وقف تحالف متعدد الأطراف مصمم على احتواء إيران، وكان له سجل حافل بالنجاحات، وخطط لأشياء أفضل آتية، كما أظهر العمل التخريبي الأخير في نطنز. وكان الأعضاء البارزون في التحالف يطلبون من بايدن العمل ضد عدو مشترك، ولكن أيضاً لتعزيز تعاون أكبر، وربما حتى اتفاقية سلام رسمية بين السعودية وإسرائيل. وعلى المسار الآخر، وقفت الجمهورية الإسلامية مكروهة من قبل شعبها، وفي الواقع من قبل معظم الناس في الشرق الأوسط. ولم تقدم سوى الرسالة الحقيرة نفسها التي لطالما تبنتها. وكانت جميع القوى الخبيثة في الشرق الأوسط تقف إلى جانبها، إما تتطلع مباشرة إلى طهران من أجل القيادة أو تزدهر على الفوضى التي تزرعها.
اختار بايدن إيران، مما أدى إلى كسر نظام التحالف الأميركي، وتراجع قضية السلام. كما حقق اختياره انتصاراً للصين وروسيا اللتين تعملان مع إيران، كلٌ على طريقته الخاصة، من أجل تراجع أميركا. في محاولة شاذة لتحرير نفسها من حلفائها، تلوث الولايات المتحدة عشها.

* مايكل دوران زميل رفيع في معهد هدسون بواشنطن، وتوني بدران زميل باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات



«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.