يخترق خاصرة العاصمة السعودية شارع تاريخي معروف، يطلق عليه اسم شارع العطايف، ويحمل لسكان الرياض وزوارها ذكريات جميلة. الشارع العريق الذي ظل حتى اليوم أحد معالم المدينة، يرتاده الناس لشراء احتياجاتهم من الأساسيات والكماليات التي تعرضها المحلات على جنباته بالجملة والتجزئة، وعلى أرصفته ينشغل العمال بتغليف صناديق تحمل بضائع يتم شحنها إلى مناطق مختلفة من السعودية، خصوصا لأصحاب القرطاسيات، الذين يتزودون بكل احتياجاتهم من هذا الشارع عبر الشراء بالجملة، ومن شتى بقاع المملكة، ولم تؤثر عليهم المجمعات التجارية الفخمة التي لم تستطع اقتباس شعبية الشارع.
هنا في شارع العطايف تختلف الصورة عن كل أسواق الرياض، فكل ما يخطر على البال موجود، وكل الأنشطة التجارية تمارس في الشارع، هنا يوجد تجار القرطاسية والأدوات المكتبية والتراثية والنحاسية والخزائن الحديدية والمواد الغذائية والحلويات وأدوات النظافة، يعرضون أشهر الماركات العالمية وبضائع أخرى من مختلف الدول، وما على الزبون إلا الاختيار.
تحدث العم مالك العقيلي، الذي يشترك في ملكية إحدى أشهر القرطاسيات هناك، عن التطورات التاريخية التي مرت على هذا الشارع، قال لنا إنه ابتدأ العمل هناك بعد أن قدم من منطقة القصيم قبل أكثر من 50 عاما، حيث إن الرياض بدأت في ذلك الوقت باستضافة المواطنين من شتى المدن السعودية لتوطينهم في العاصمة. وقتها افتتح دكانه الخاص مستوردا أدوات القرطاسية من مصر التي كانت زاخرة بتوريد مثل هذه الأدوات، إضافة إلى الشام، وبالتحديد مدينة تدمر، التي كانت نبراسا للعلم ومصدرا هي الأخرى للبضائع القرطاسية، قبل أن تدخل الصين وتسيطر بشكل أكبر على جميع محتويات السوق.
وأضاف: «استأجرت المحل بمبلغ لا يزيد على 50 ريالا في الشهر الواحد قبل نصف قرن، وكان مبلغا كبيرا لا يستطيع دفعه إلا من كان عازما على التجارة، ويمكنه استخراج الأرباح بسهولة، نظرا إلى توافد أصحاب المكتبات الصغيرة من الأحياء القريبة، مثل الشميسي ومنفوحة القديمة، إضافة إلى بعض التجار من خارج منطقة الرياض الذين كانوا يرسلون صبيانهم في ذلك الوقت لاستلام البضائع والتسديد فور البيع، بعقود آجلة»، منوها بأن الأمانة كانت موجودة وبقوة في ذلك الزمان وأن كلمة الرجل هي العقد، دون تدوين أي شيء رسميا أو بشكل مكتوب.
وأوضح العقيلي أن الإيجارات ارتفعت بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 140 ألف ريال في هذه الأيام، نظرا إلى الثورة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، مبينا أنه لا يزال يحتفظ ببعض العملاء الذين لا يزالون يتبضعون من عنده ولم يغرهم وجود المكتبات الكبرى التي لم تمسح بريقهم بحسب قوله. ورغم أن المنطقة التجارية في العطايف تطورت بشكل كبير مع قدوم المباني الحديثة والتخطيطات الجديدة في الشوارع، مما اضطر الحكومة إلى توسيعها استجابة لمتطلبات النمو السكاني والجغرافي، إلا أنها لا تزال تتصدر المراكز التجارية الموردة لمعظم المكتبات في البلاد.
يبلغ طول الشارع نحو كيلومترين، ويقطع عدة شوارع عريقة حملت أسماء ثلاثة من أئمة آل سعود وقائد إسلامي شهير، وقد وزعت النشاطات التجارية فيه بصورة تدعو للإعجاب، حيث من النادر أن يلتقي مرتادو الشارع الباحثون عن بضائع مختلفة في مكان واحد إلا في هذا الشارع، ففي أوله عند تفرعه من شارع الإمام فيصل بن تركي من جهة الشمال تنتشر محلات الأدوات القرطاسية والمكتبية التي يرتادها المثقفون وأصحاب المكتبات والطلاب والطالبات والفنانون التشكيليون، يبحثون عن ضالتهم فيه، حيث تقع على جنباته محلات عريقة تعرض ماركات عالمية شهيرة في هذا النشاط.
وبالقرب منها تعرض أقدم مكتبة في الرياض للنشر والتوزيع كتبا ذات طبعات قديمة يبحث عنها المثقفون والباحثون، وفي وسط الشارع تتغير الصورة لتبدأ أسواق المعيقيلية ومحلات بيع القهوة والهيل والدقيق، ومحلات بيع التراثيات والمشغولات اليدوية، ومحلات بيع الخزائن الحديدية، «التجوريات»، ومحلات بيع الأدوات النحاسية والحديدية والأواني الكبيرة المعدة للطبخ وجرار الفول وتبييضها، وهي محلات بديلة لمحلات تبييض الأواني، فيما يعرف بـ«الربابين»، الذين هجروا الشارع إلى شارع آخر قريب من المنطقة.
وأثناء تجوالنا في الشارع التقينا محمد العجمي الذي وجدناه يتفاوض مع أحد أصحاب المكتبات الكبرى حول صفقة شراء كميات من الأدوات القرطاسية تزيد قيمتها على 80 ألف ريال، بقصد فرزها على المكتبتين اللتين يمتلكهما في شرق العاصمة.
خلال حديثنا معه ذكر أنه عميل دائم لشارع العطايف منذ أكثر من 20 عاما، حيث اعتاد على التبضع متى ما احتاجت محلاته إلى المعروضات الجديدة، وأنه لا يجد بديلا عن هذه المحلات المنتشرة في شارع العطايف، نظرا إلى جودتها ورخص أسعارها وتوفر جميع الأصناف فيها دون أي نقص، وأنه قلما تجد مكانا آخر يحمل مثل هذه المواصفات النادرة.
وحول عدم استيراده مباشرة من الصين التي تعد اللاعب الأول في تصنيع هذه الأدوات وما تعرضه محلات الجملة، كشف العجمي عن أن الاستيراد يحتاج إلى مدة طويلة حتى تصل البضاعة بعد رفع الطلبية إلى المصنع، إضافة إلى أنه لا يستورد كميات كبيرة بملايين الريالات تدفعه إلى جلبها بنفسه لتقليل المبالغ المدفوعة، كما أن السبب الأساس هو اعتياده على التعامل مع بعض التجار الذين يوفرونها بأسعار رخيصة ومنافسة، تدفعه كغيره من صغار المستثمرين إلى الشراء منهم والتعامل معهم، لافتا إلى أن التاجر الكبير يرضى بالربح البسيط نظرا إلى بيعه كميات كبيرة من الأدوات، خصوصا في مثل هذه الأيام التي يشتد فيها الإقبال على الأدوات المدرسية، تزامنا مع انطلاقة العام الدراسي الجديد، الذي ينعش بدوره تجارتهم الذي وصفها بالموسمية، معرجا على أنه يعرف كثيرا من زملاء المهنة الذين لا يترددون في التوجه إلى شارع العطايف، عند الرغبة في شراء الأدوات المدرسية بكميات كبيرة.
وتجري في شارع العطايف هذه الأيام كثير من الصفقات التجارية التي تقدر قيمتها السوقية بعشرات الملايين من الريالات، أطرافها تجار قدماء مستوطنون في الشارع وكونوا علاقات عمل مع الطرف الآخر، الذي يمثله صغار التجار أو المستثمرون الجدد الذي يلجأون إلى سوق الجملة بالعطايف، للتزود بالمواد المدرسية والقرطاسية بكميات كبيرة من أجل عرضها في محلاتهم أو مكتباتهم، استغلالا لموسم الدراسة الذي يغدق على تجار العطايف صفقات تجارية بملايين الريالات.
ويستمر شارع العطايف مخترقا مركز التعمير، حيث سوق الذهب، وغاليري مول، ونادي الطفل، وساحة العطايف وسوق المرأة، ومدينة الجوال، ثم ينتهي الشارع بسوق المواد الغذائية والحلويات وأدوات النظافة والعصائر والمشروبات الغازية المخصص للبيع بالجملة، وفي تفرعات الشارع مستودعات للتجار، كانت أحياء قديمة تضم مباني طينية احتضنت قبل أربعة عقود أسرا سعودية رحلت مع بدايات سنوات الطفرة إلى أحياء جديدة ومساكن حديثة، وغدت المستودعات الطينية أفضل وسيلة لتخزين المواد الغذائية وغيرها لاحتفاظها بدرجات حرارة أدنى من حرارة الأجواء الخارجية التي تلامس 50 درجة مئوية في مثل هذه الأيام.
وعندما تريد التسوق في الشارع يلزمك استخدام طرق أخرى للوصول إليه، فلا يمكنك الدخول إلى أول الشارع، أو نهايته إلا باستخدام الشوارع التي يتقاطع معها، حيث يبدأ من جهة الشمال بتقاطعه مع شارع الإمام فيصل بن تركي «الخزان سابقا»، وباتجاه الجنوب.
كم أن لعشاق الفن التشكيلي وجودهم في العطايف، وذلك لتوافر كثير من المحلات التي توفر لهم الأدوات الأساسية للرسم، حيث تؤمن المحلات كل الأدوات التي يتطلبها هذا النشاط من حبر وألوان وفرش وأقلام وأصباغ، مما يعكس أن الشارع أيضا يكون مقصدا لهواة هذا الفن الذي أوجد لنفسه مكانا في العطايف المزدحم، عبر خدمة كثير من المحلات لهذه الفئة بفتحهم متاجرهم للمتاجرة بالأدوات التشكيلية والاعتماد عليها باعتبارها مشروعا استثماريا مهما، ولا يوجد مكان آخر يتوافر فيه جميع المستلزمات التي يحتاج إليها الفنان التشكيلي مثل هذه الشارع.
وعندما تغادر سوق القرطاسية وتقطع شارع الإمام تركي بن عبد الله «الشميسي الجديد» تتزاحم في عدة أمتار بشارع العطايف أجزاء من سوق المعقيلية، الذي يضم أنشطة مختلفة وأمامها موقف للسيارات كان يضم سوقا لتبييض الأواني النحاسية أو ما يعرف باسم الربابين ومطبخ العجراء الشهير، لكن المباني التي كان يستخدمها هدمت وحولت إلى موقف للسيارات.
ويستمر شارع العطايف سالكا باتجاه الجنوب ليقطع شارعا صغيرا هو شارع السبالة، وبعده يبرز نشاط المواد الغذائية، حيث تنتشر على جنباته محلات عريقة تحمل أسماء ماركات عالمية مشهورة.
السوق تعج بالزبائن لشراء احتياجاتهم من المواد الغذائية المختلفة والأجبان ومواد النظافة.
وفي السوق تختلط رائحة العطور والعود مع رائحة مواد العطارين، كما توفر السوق جميع المعروضات التسويقية والاقتصادية، وما عليك عندما تزور العاصمة السعودية إلا السؤال عن «العطايف»، عندها ستجد أنك تجثم في شارع لا ينقصه أي معروض تجاري وأن الحركة الاقتصادية على أشدها، مهما كانت الغاية أو السبب الذي قدمت لشرائه أو من أجله، فإنك ستجده لا محالة متوافرا في هذا الشارع، الذي يعتبر القلب الاقتصادي النابض للرياض منذ قديم الزمان وحتى الآن.
«شارع العطايف».. القلب الاقتصادي النابض للعاصمة السعودية
يشهد شارع العطايف هذه الأيام الكثير من الصفقات التجارية التي تقدر قيمتها السوقية بعشرات الملايين من الريالات ({الشرق الأوسط})
«شارع العطايف».. القلب الاقتصادي النابض للعاصمة السعودية
يشهد شارع العطايف هذه الأيام الكثير من الصفقات التجارية التي تقدر قيمتها السوقية بعشرات الملايين من الريالات ({الشرق الأوسط})
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

