متاحف المدينة المنورة.. تنقل زائريها إلى عصور متعددة

أسست بمجهودات فردية وتحتوي على المصاحف المزخرفة والعملات القديمة

الدلال والأباريق التراثية والمحامص والمطاحن وأدوات إعداد الطعام
الدلال والأباريق التراثية والمحامص والمطاحن وأدوات إعداد الطعام
TT

متاحف المدينة المنورة.. تنقل زائريها إلى عصور متعددة

الدلال والأباريق التراثية والمحامص والمطاحن وأدوات إعداد الطعام
الدلال والأباريق التراثية والمحامص والمطاحن وأدوات إعداد الطعام

تستهوي المكونات والأشياء القديمة وجمعها والاحتفاظ بها شرائح واسعة من الناس، على اختلاف ثقافاتهم وجنسياتهم، ومستوياتهم التعليمية والاجتماعية، يدفعهم في ذلك مبررات ودواع متنوعة، منها الحنين إلى حياة وموروث الماضي، ومنها استلهام ذلك المخزون، واستحضاره ليكون ماثلا لأجيال جديدة ومختلفة.
وفي المدينة المنورة بالسعودية الكثير من هؤلاء ممن استهواهم الماضي بصوره ومكوناته، فراحوا يجمعون منه ما استطاعوا ليؤسسوا متاحف خاصة على مستوى عال من التنظيم والتكامل، ومنهم عبد المجيد الخريجي الذي جمع المحتويات القديمة في متحف جميل أطلق عليه اسم متحف (الدينار والدرهم) ويقع في شارع قباء العام بالمدينة المنورة.
يقول الخريجي «إنني مغرم بالتراث والعنصر الأثري ومتيّم به وعاشق له، وقد تكوّن لدي شعور عميق بأهميّة العنصر الأثري والتاريخي، ومدى أهمية تراث الأمس وتاريخه وحضارته، فحرصت على جمع وشراء واقتناء كل ما هو قديم ونافع وذو قيمة كي يرفع وتيرة التفاعل الثقافي بين الزائرين للمتحف وبين محتوياته والمعروضات فيه». وأشار إلى أن هذا التنوع البانورامي والأهميّة التاريخية للمعروضات الفلكلورية والشعبية والقديمة في المتحف، هي التي تميّزه وتجعل منه علامة فارقة وإسهاما مميزا في تجربة إنشاء المتاحف الشخصية والخاصة.
المتحف الذي يقع في مكان بارز على شارع قباء بجوار بلديّة قباء، حين يدلف الزائر إليه يجد محتويات المتحف التي تتوزع على مساحة 200 متر مربع، وهي محتويات قيمة وعريقة وثريّة ومتنوعة، إذ إنها متباينة الأحجام والأنواع والخامات والاستعمالات. والزائر لهذا لمتحف سيجد أصنافا كثيرة وكما كبيرا وقيّما ونفيسا من المحتويات الأثرية والتراثية التي تنوعت بين الأجهزة التقليدية، ولا سيما تلك التي واكبت البدايات كالمراوح والأدوات المنزلية والمعدات الخاصة بالطبخ والأواني القديمة المستعملة في إعداد وتحضير الشاي والقهوة العربية، وما يتصل بها من الدلال والأباريق التراثيّة والمحامص والمطاحن وأدوات إعداد الطعام، ومستلزمات العائلة القديمة ومفروشات الغرف الداخلية كافة، والديكورات الفلكلوريّة، ومستلزمات المرأة والزينة، حيث يتوافر بالمتحف مجموعة من الحلي النسائية، كما يحتوي المتحف على الأسلحة التراثية والقديمة بأنواعها كالسيوف والخناجر التراثية.
كما يشتمل المتحف على وسائل البيت العربي القديم كالأقفال التي تستعمل لقفل الأبواب والأدوات المنزلية الشعبية كالإناء الفخاري الدائري أو المخروطي الشكل المعروف باسم (الزير) المستعمل في تبريد الماء، وكذلك هناك ما يعرف بالمكواة الحديدية لكي الملابس القطنية، وهناك أدوات أخرى مختلفة الأنواع والخامات، وفي المتحف كثير من الآنية المستعملة في تقديم الأطعمة والمشروبات، وأدوات الإنارة، فهناك الفوانيس بأنواع وأحجام متنوعة.
وتعود بعض هذه المحتويات، خاصة العملات، إلى العصور المتعددة، وهذا المتحف يمكن أن يرفد الباحثين بمعارف ومعلومات مهمة عن العملات وغيرها في العصر الإسلامي المبكر والعصر الأموي والعصر العباسي، مرورا بمختلف العصور، وصولا إلى زماننا الحاضر، كما أنه يحتوي على كتب في اللغة العربية والفلسفة وغيرهما والكثير من المخطوطات المتنوعة.
ويقول الخريجي «لدينا عملات كثيرة وتراثية، أقدم هذه العملات هي العملة المعروفة بـ(العملة الساسانيّة) أو الفارسية التي تعود إلى عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم باقي العملات تعود إلى العصور المختلفة، وهي عملات متعددة ومختلفة الأحجام ومتنوعة في قيمها وأشكالها».
أيضا تستوقفك كزائر (المصاحف) الموجودة في المتحف، فهي مميزة وجميلة، تشعر وأنت تنظر إليها بأنها بالفعل من عصور قديمة، يبدو ذلك واضحا من خلال الزخارف والألوان وطريقة الكتابة والشكل العام لكل منها، حيث يشتمل متحف الخريجي على مصاحف بخطوط وألوان وأحجام مختلفة، فالبعض منها كبير جدا، والبعض الآخر متوسط وبعضها صغير.
ويتابع الخريجي «أقدم هذه المصاحف هو مصحف تاريخه يعود إلى أكثر من ستمائة عام، ويرجع إلى العصر المملوكي»، والمصاحف معروضة بتناسق يتناغم مع باقي محتويات المتحف ومعروضاته التي تملا المكان، وهو مكان يطمح عبد المجيد الخريجي لزيادته.
وتضم صالة العرض أيضا مخطوطات وكتبا تراثيّة حافلة بالتنوع والثراء المعرفي، فالتواريخ المدوّنة عليها تعود إلى حقب وعصور قديمة، وتتركز في جوانب كثيرة على فترات لم يتوغل فيها البحث العلمي والتاريخي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)