حقائق مثيرة وغريبة حول جائزة الأوسكار

الليلة عيد السينما الكبير

الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
TT

حقائق مثيرة وغريبة حول جائزة الأوسكار

الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)
الاستعدادات على قدم وساق أمام مسرح دولبي في هوليوود لاستضافة حفل توزيع الأوسكار (رويترز)

حتى الآن، تداول الإعلام، هنا كما حول العالم، كل ما يمكن تداوله حول أوسكار عام 2015 الذي سيوزع الليلة (الأحد) في لوس أنجليس. فهل يمكن أن يكون هناك ما لم يتحدث أحد فيه حول هذه الجائزة العملاقة بين الجوائز؟
ماذا لو طرح المتابع مثلا ما إذا كان الأوسكار ذا قيمة فعلية نابع من تأثير حقيقي على حال السينما وشؤونها؟ هل يمد الفائز فعلا بمكانة لم يكن قد اكتسبها، إذا لم يفز من قبل، أو تضيف على مكانته فيما لو سبق له وأن فاز بها؟
هل الفيلم الذي يخرج بالأوسكار هو الأفضل فعلا؟ وما هي دلالات ذلك؟ ثم هل يساعده ذلك في جمع ملايين أخرى من السوق؟
ثم نحن العرب ما علاقتنا بالأوسكار؟ ولماذا كل هذا الاهتمام، وأحيانا التهييج المستمر بما ستؤول إليه النتائج من بعد اهتمام مماثل بالترشيحات وتحليلها ومحاولة كل منا رسم صورته الخاصة حولها؟ وبالتالي، هل الاهتمام بالأوسكار ترف لا نستحقه أم انشغال عن الكتابات الأكثر فنية والأوسع فائدة ثقافية؟
هذه الأسئلة وسواها يمكن توزيعها في حقائق محددة وسبر غورها لإجابة واحدة ونهائية. لكن ذلك لن يكون نيلا من أهمية الأوسكار ولا تعزيزا له. المناسبة التي تبلغ 87 سنة من العمر هذه الليلة وتتناقلها مئات المحطات التلفزيونية (كاملة أو جزئية) حول العالم وتنشغل بها عشرات ألوف المواقع الإخبارية والترفيهية، وصلت منذ عقود طويلة إلى سن النضج وأسست لنفسها الصرح الذي تحتله اليوم أحبها البعض أو لم يفعل.
لكن، بما أن الأوسكار على مثل هذه السعة والحضور، فإن البحث فيه ومحاولة فك لغز نجاحه سيستمر وهو ما يتمناه كأي فائز يريد من المجتمع الذي يحتفي به أن يفعل. بكلمات أخرى، لو لم تكن كل تلك الكتابات والاهتمامات موجودة لسبب أو لآخر، لكان الأوسكار حدثا مختلفا في الحجم وفي الإقبال وربما في الأهمية أيضا.
الحقائق المشار إليها تنشد أن تمنح المسألة صورة وافية وعريضة لا لتجيب على الأسئلة الكثيرة التي يرددها البعض كل سنة، بل أيضا لتعريفنا بالسبب الذي من أجله صارت ليلة الأوسكار أشبه بليلة عيد وطني في أكثر من مكان.

* الأوسكار احتفال هوليوودي اكتسب العالمية
* يقع فندق روزفلت في النصف الشرقي من «هوليوود بوليفارد»، على مقربة من تقاطع الشارع مع شارع عريض آخر اسمه هايلاند. البناية الكبيرة التي تحمل رقم 7 آلاف التي بنيت سنة 1927 تبدو اليوم قديمة، لكن لا شيء قديم عندما يأتي الأمر إلى سعر غرفها الفاخرة التي تتراوح بين 400 و550 دولارا حسب نوع الغرفة. طبعا، ليس أغلى فندق في العالم، لكن كثيرا من زبائنه يجدونه مناسبا كموقع وكقيمة وكذكرى. ففيه تم لمجموعة من السينمائيين (17 رجلا وسيدة واحدة)، من منتجين ومخرجين وأصحاب استديوهات، عقد أول حفلة توزيع لجائزة الأوسكار. حفلة حضرها أكثر من 250 فردا بقليل وامتدت.. ربع ساعة كاملة.
التحضير للحفل بدأ عندما كان الممثل دوغلاس فيربانكس رئيس أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي تم إنشاؤها قبل عامين، وتم الإعلان عن الفائزين قبل 3 أشهر من موعد الحفل في 16 مايو (أيار) 1929. قبل أن تتعلم الأكاديمية كيف تبقي النتائج سرا حتى حين إعلانها.
تلك كانت البداية والغاية منها كانت واضحة: قيام صناعات هوليوود السينمائية بإهداء جوائزها المسماة بالأوسكار لمن ينتمي إليها، أي من العاملين في تلك الصناعات داخل هوليوود. أما من كان يعزف ألحانه السينمائية خارج المدينة داخل أميركا أو خارج الولايات المتحدة الأميركية فلم تكن له حصة من هذه الاحتفالات.
لكن، ما بدأ محليا اكتسب أهمية عالمية على نحو تدرجي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وما انطلق كاحتفال هوليوودي بنفسها وبمن فيها، تحول إلى مناسبة تثير اهتمام العالم بعد تلك الحرب قبل أن تصبح عيدا سينمائيا يشترك فيه العالم إسهاما (ترشيحاته من الأفلام) أو استقبالا. هذا من دون أن يتخلى الأوسكار عن انتمائه للأكاديمية التي تضم حاليا 6 آلاف عضو أو نحو ذلك من ممثلين ومخرجين ومنتجين ومصورين وكتاب وكل فريق أساسي آخر يعمل ضمن الصناعة. أعضاء الأكاديمية معظمهم أميركيون، لكن الباقين هم من انتسب إليها كونه يعمل داخل هوليوود. بالتالي ما زالت تعبر عن آراء كل هؤلاء أساسا وليس عن آراء أتراب أخرى من المهتمين بشؤون السينما.

* الممثلون وفرحة الفوز
* هل انزعجت ميريل ستريب، المرشحة حاليا عن دورها المساند في فيلم «داخل الغابة»، مرة واحدة كونها رشحت 19 مرة من عام 1978 عن فيلم «صائد الغزلان»؟ لا. هل كانت تتمنى لو فازت بأكثر من الأوسكارات الثلاث التي فازت بها حتى الآن؟ نعم.
واقع الحال أن الممثلين، في معظمهم (أي باستثناء من لديه سبب غير مألوف) يتمنون لو أن رذاذ الترشيحات يصيبهم. وحين يجدون أنفسهم من بين المرشحين يحلمون بالفوز. هذا طبيعي كونهم بشرا في الأساس، وكل منا يحب أن يفوز بتقدير كبير كهذا، ولأنهم في لعبة السينما التي تحتاج إلى مواهبهم لتخرطها في آلتها الصناعية والمالية.
بندكيت كمبرباتش، الممثل المرشح اليوم عن دوره في «لعبة المحاكاة» قال لهذا الناقد قبل أسابيع غير بعيدة عندما كان يروج لفيلمه في لندن: «ليس أنني لا أمانع إذا ما ربحت الأوسكار، بل أريده. هو مطلب لي». حين سؤاله عن سبب أنه مطلب، قال: «لأنني ممثل والممثل يستحق التقدير ولأن الأوسكار هو منتهى الفوز بالنسبة لأي منا نحن الممثلين ولأي من المشاركين الآخرين. لا أقول إنني استحقه أكثر من سواي في هذه المسابقة فهذا أمر يقرره المصوتون. ما أقوله وبصراحة: أنا أريد الفوز وأعتقد أنني جدير به».
مايكل كيتون المرشح عن دوره في «بيردمان» كان أكثر دبلوماسية في الواقع؛ إذ قال: «يكفيني أنني أحد الخمسة المرشحين. هذا وحده مكافأة كبيرة لجهودي كممثل».

* الأوسكار لا يضمن للممثل أجرا أعلى
* من الاعتقادات الشائعة القول إن الفائز بالأوسكار ما أن يتلقى الجائزة بيد حتى يوعز باليد الأخرى لمدير أعماله برفع أجره. هذا غير صحيح. الممثل الفائز قد يستفيد من سعي شركات الإنتاج للتعاقد معه، لكن هذا ليس مضمونا. غوينيث بولترو، من بعد فوزها بأوسكار أفضل ممثلة عن «شكسبير عاشقا (1999) لم تصبح أكثر نشاطا وطلبا مما كانت عليه من قبل. ريز وذرسبون التي فازت بالأوسكار ذاته سنة 2006 عن دورها في «Walk the Line» لم تردمها العروض، وجورج كلوني الذي فاز عن «سيريانا» بأوسكار أفضل ممثل مساند، كان أصبح نجما لامعا قبل ذلك التاريخ ولم يفده ذلك الأوسكار ماديا على الإطلاق. وجارد ليتو، الذي فاز بالجائزة نفسها في العام الماضي عن دوره المساند في «دالاس بايرز كلوب» ليس لديه عرض واحد إلى اليوم.
لكن، ومع كل هذا، فإن الممثلين وبقية العاملين في السينما يتمنون الفوز بالأوسكار لقيمته الفنية والمعنوية. ليس هناك خيار بين الفوز وعدمه لو كان لدى أي منهم القدرة على التأثير في مجرى التصويت لصالحه.
في هذا النطاق، فإن مرشحي اليوم يستحقون التقدير على نحو جامع، وإن كان بعضهم أبلى أفضل من سواه. مايكل كيتون «بيردمان» انتظر مثل هذا التكريم طويلا. بندكت كمبرباتش يرى، عن حق، أن دوره في «لعبة المحاكاة» هو أعلى بذل فني قام به لليوم. ستيف كارل «فوكسكاتشر» وضع كل ما لديه من موهبة. برادلي كوبر «قناص أميركي» أحب المشروع لدرجة أنه اشتراه على نفقته أولا وإيدي ردماين «نظرية كل شيء» سبر غور دوره كمقعد وفي باله أولا إجادة الدور بحد ذاته. والحال ذاته مع الممثلات الإناث: ماريون كوتيار، وفيليسيتي جونز، وروزاموند بايك، وجوليان مور، وريز وذرسبون. ليس أن الأوسكار لا يرد على البال، لكنه ليس السبب الذي من أجله يقوم الممثل بالتمثيل.

* نجاح شباك التذاكر ليس شرطًا ماديًا
* لكن الاعتقاد الأكثر شيوعا مما سبق القول بأن الأفلام التي تربح الأوسكار هي تلك التي تحقق إيرادات مالية كبيرة، بمعنى أن الأكاديمية تنظر إلى نتائج السوق وتختار الفيلم الناجح تبعا لما أنجزه من نجاح، ولاحقا ما يستفيد الفيلم، على نحو كبير، من جائزته فيزيد من إيراداته على نحو مضاعف.
خذ هذا العام مثلا: 4 من الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم، وهي: «بيردمان»، و«نظرية كل شيء»، و«صبا»، و«ويبلاش»، لم يحقق الواحد منها أكثر من 40 مليون دولار. «ويبلاش» في الواقع أنجز حتى الأسبوع الماضي 11 مليون دولار فقط. 3 أفلام أخرى أنجزت أرقاما أعلى هي «سلما» (47 مليون دولار)، و«ذا غراند بودابست هوتيل» (59 مليون دولار)، و«لعبة المحاكاة» (78 مليون دولار). وهذه أرقام عادية جدا. واحد فقط حقق أرقاما رابحة وكبيرة هو «قناص أميركي» (312 مليون دولار داخل أميركا حتى اليوم).
الوضع الفعلي له مستويان: أولهما، أن «بيردمان» هو المرشح الأول، وهو لم ينجز فوق المتوقع منه. وثانيهما، أن كل هذه الأفلام أنجزت إيراداتها قبل إعلان الترشيحات. بالنسبة لبعضها («بيردمان» و«لعبة المحاكاة») شهد نشاطا شكل 20 إلى 25 في المائة على ما كان كل منها حققه قبل الترشيحات، لكنه لم يقفز إلى أرقام مضاعفة بمجرد إعلان ترشيحه، كذلك سوف لن ينجز الأوسكار له إلا تجددا نسبيا في سوق المبيعات السينمائية.
والأمر ينطبق على فيلم كلينت ايستوود: إلى أن أعلنت الترشيحات الرسمية كان «قناص أميركي» أنجز 30 في المائة من إيراداته. نجاحه الكبير الحالي يعود إلى موضوعه وليس ضامنا لفوزه.
ولا يتطلب الأمر سوى مراجعة سنوات الأوسكار السابقة. يكفي مثلا أن أوسكار أفضل فيلم سنة 2010 ذهب إلى «خزنة الألم» الذي لم تتجاوز إيراداته قبل وبعد النتيجة أكثر من 50 مليون دولار، بينما أخفق منافسه «أفاتار» في نيل الأوسكار، رغم أنه أنجز قبل موعد النتائج نحو مليار و500 مليون دولار أضاف فوقها، بعد فشله، مليارا آخر و300 مليون دولار.

* ولكن الجائزة قد تذهب لمن لا يستحق
* نجد أنه في كل مناسبة تمنح فيها جوائز سينمائية، سواء أكانت مناسبة سنوية تقيمها مؤسسة أكاديمية بريطانية أو أوروبية أو أميركية، أو كانت مهرجانا سينمائيا أن الاختلاف حاصل بين 3 فرقاء: إن أعجبت لجان الاختيار والتحكيم بفيلم أو بموهبة ومنحته جائزتها، فإن النتيجة قد لا تعجب الجمهور، وإذا ما أعجبت الجمهور، فقد لا تعجب النقاد.
تحديدا هذا العام، إذا ما فاز «قناص أميركي» بموقفه اليميني الذي تناقلته وسائط الإعلام، فهو سيشكل بهجة لدى الجمهور وشكوى لدى النقاد. أما إذا فاز، «صبا» فإنه سيثير قبول النقاد وعدم مبالاة الجمهور الذي غاب معظمه عن حضور هذا الفيلم أساسا، لأنه ليس فيلما للفئة العامة بادئ ذي بدء.
على صعيد فني بحت، يمكن استخراج عشرات الأمثلة لأفلام ومواهب فازت بينما كان من بين المنافسين من يستحق أن يفوز أكثر منها. مثلا في عام 1948 فاز فيلم إيليا كازان «اتفاق جنتلماني» بأوسكار أفضل فيلم وهو فيلم مشهود له بالتصدي للمعاداة للسامية، لكن في ترشيحات ذلك العام كان هناك فيلم أفضل منه فنيا وأكثر عمقا في تصديه ذاك هو «كروسفاير» (Crossfire)، لكنه لم يفز.
المخرج توم جونز فاز عن فيلمه «توم جونز» سنة 1964 لكن ألم يكن فيلم «ثمانية ونصف» لفديريكو فيلليني أفضل منه؟ وهل كان فوز الممثل سيدني بواتييه في العام ذاته عن «براعم في الحقل» مستحقا أكثر من أداء ألبرت فيني في «توم جونز» أم تدخلت عوامل الرغبة في تكريم ممثل أفرو - أميركي؟
ثم لماذا تم ترشيح آلان أركين لأوسكار أفضل ممثل سنة 1967 بينما استحق سيدني بواتييه نفسه الترشيح (على الأقل) عن دوره في «في حرارة الليل»؟ وهل فوز المخرج ألفونسو كوارون في العام الماضي بأوسكار أفضل إخراج (عن «جاذبية») يعكس الحقيقة عندما ننظر إلى الجهد الذي بذله مارتن سكورسيزي في «ذئب وول ستريت» أو البساطة الصعبة التي حققها ألكسندر باين عن «نبراسكا»؟ وهل استحق توم هانكس استبعاده من ترشيحات أفضل تمثيل رجالي عن دوره في «كابتن فيليبس»؟ ولماذا غاب كليا روبرت ردفورد ممثلا وسي جي شاندور مخرجا وفيلمهما «كله ضاع» عن هذه المسابقات الرئيسية الثلاث؟ إنها في نهاية المطاف آراء، والأكاديمية تضم كل أطياف العاملين في الصناعة ما عدا أساتذة السينما ونقادها. لا عجب أنه لو نظرنا إلى تاريخ الجائزة لواجهتنا مثل هذه الأسئلة منتشرة في معظم سنواتها.

* الأوسكار احتفاء بفن الإخراج
* رغم ما سبق، فإن الأوسكار احتفاء بقدرة مخرجي الأفلام على تقديم ما هو خاص ومختلف وذو بصمة نوعية وأسلوبية.
لو نظرنا بإمعان إلى المرشحين في هذه الخانة هذا العام ولما بعد الأسماء المشاركة، نجد بانوراما جميلة من الأساليب والنوعيات وأحاديث بعضها ذاتي أكثر من سواه، وبعضها الآخر بارع في نواحي مختلفة عن بعضها الآخر. إنهم: رتشارد لينكلاتر عن «صبا»، وأليخاندرو غونزاليز إيناريتو عن «بيردمان»، وبنت ميلر عن «فوكسكاتشر»، ووس أندرسون عن «ذا غراند بودابست هوتيل»، ومورتن تيلدام عن «لعبة المحاكاة».
النروجي تيلدام (وهو ليس من كبار مخرجي بلاده كما كتب بعض الزملاء) مرشح عن «لعبة المحاكاة»، ومنهجه هو أكثر مناهج المخرجين المذكورين سعيا لإرضاء القطاع العام من المشاهدين، وهو القطاع الذي يتألف منه ألوف من أعضاء الأكاديمية أيضا، ولو أن ذلك لن يضمن فوزه أو فوز فيلمه بالأوسكار، إنه فيلم جيد بحدود، يتعثر بخيوط السيناريو التي كان من المفترض أن تبقى بسيطة وفي غايات الفيلم المتعددة (بيوغرافي، مثلية جنسية، حكاية وطنية.. إلخ).
مخرج آخر هدف إلى السوق نفسه، لكن مع نتائج فنية أعلى هو بنت ميلر، فيلمه «فوكسكاتشر» مفتوح على أكثر من أفق لكنه أكثر انضباطا وسرده أكثر تركيزا من فيلم تيلدام.
الثلاثة الآخرون اشتغلوا على براعاتهم الفنية التي قلما خانوها: رتشارد لينكلاتر في «صبا» عمد إلى تصوير تسلسل زمني كامل لحكايته وشخصياته. على مدى 12 سنة أو نحوها، صور ممثليه في 3 فترات منتظرا ثم ملتقطا نمو كل منهم على مدى سنوات. وس أندرسن اشتغل على أسلوبه التصميمي المزين بالألوان وبالحكاية التي لا تتبع منهجا سرديا سهلا (ولو أن هذا الفيلم أسهل للمتابعة من أعمال سابقة له). أما إيناريتو، فقد ارتفع بأسلوب عمله ومعالجته البصرية والكلية عن كل ما عداه عامدا لإنجاز فيلم ما زال خاصا وذاتيا.
كل هذا يمنحنا نحن المشاهدين الفرصة للتعرف على أساليب عمل عبر المقارنة. فيلم وراء آخر يبرز كل ذلك التعدد في الفهم والتعبير وطريقة معالجة الموضوع ولأي سبب وبأي أسلوب.

* الأوسكار ليس للنقاد
* رغم كل ذلك، الأوسكار ليس للنقاد.
نعم يستطيعون الغرف من بئره اليوم كما في الأمس؛ مراجعته فيلما فيلما وجائزة جائزة، لكنه ليس المرجع الذي يشفي غليل معظمهم. عن صواب، لا يستطيعون سوى ملاحظة أن عددا كبيرا من الأفلام المستحقة لم تفز (وكثيرا ما لم ترشح أساسا) كذلك عددا أكبر من المخرجين والممثلين والكتاب والمصورين.
لكن النقاد اليوم منشغلون بالأوسكار كالعادة. ومن لا يفعل فإنه على الأقل ينتظر ساعة إعلان الجوائز لكي يرى من فاز ومن اكتفى بالتصفيق للفائز. أصبح الأمر لا مفر منه خصوصا مع عدم وجود مناسبات قوية أو بديلة.
فعلى كثرة المناسبات المماثلة (جوائز الغولدن غلوبس، بافتا، الاتحاد الأوروبي.. إلخ) لا يزال الأوسكار أشبه بالأب الكبير الذي لن يتجاوز عمره (وقيمته) أحد. وتبعا لضروريات إعلامية سيكتب، إن لم يكن قبل النتائج فبعدها، عن الأوسكار وانطباعاته وآرائه.
ليس هناك خطأ في ذلك، الخطأ في عدمه، لأن الناقد - بصرف النظر عن موهبته وقدراته - لا يستطيع أن ينفخ في الهواء، عليه أن يكتب لجمهور والجمهور يريد أن يعرف. في الباطن، يزدري كثير من النقاد (العرب وغير العرب) الأوسكار. يرونه فعلا سلبيا لا يستحق هذا الاهتمام الكبير. في الظاهر، لا ينتظر الأوسكار شهادة تقدير من النقاد بل يفرض حضوره بسبب حضوره الكبير بين ملايين المشاهدين والمتابعين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)