دراسة لكمال الصليبي عن لبنان والشرق الأوسط تبصر النور بالعربية

بمناسبة مرور 10 سنوات على وفاة المؤرخ المثير للجدل

دراسة لكمال الصليبي عن لبنان والشرق الأوسط تبصر النور بالعربية
TT

دراسة لكمال الصليبي عن لبنان والشرق الأوسط تبصر النور بالعربية

دراسة لكمال الصليبي عن لبنان والشرق الأوسط تبصر النور بالعربية

بمناسبة مرور 10 سنوات على وفاة كمال الصليبي، تصدر «دار نلسن» في بيروت دراسة للمؤرخ المثير للجدل، عكف على ترجمتها محمود شريح، تعود إلى عام 1988، وتحمل عنوان «لبنان ومسألة الشرق الأوسط». والكتاب الذي سيبصر النور بعد أيام يقدم للقارئ النص باللغة الإنجليزية الأصلية وتعريبها، مع مقدمة للمترجم. وهذه الدراسة هي الورقة الثامنة في سلسلة «أوراق لبنانية» الصادرة عن مركز «الدراسات اللبنانية» في جامعة «أكسفورد».
وأهمية البحث الطويل الشيق أنه يتتبع المسار الفكري العربي الحديث بمنهجية حاذقة، من خلال التحولات اللبنانية الصاخبة، منذ إعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920، مروراً بنكبة فلسطين والحرب الأهلية في لبنان، وصولاً إلى اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، وانعكاساتها لبنانياً وعربياً. ومن دون أن يقول ذلك صراحة، يلحظ القارئ هذا الميل عند الصليبي لاعتبار لبنان والقضية الفلسطينية هما المختبر الذي من خلالهما بمقدوره أن يقرأ الظواهر والمفاصل ويستخلص العبر. ومترجم الدراسة محمود شريح تتلمذ على يد الصليبي منذ عام 1973 في الجامعة الأميركية في بيروت، ورافقه على مدى 4 عقود، ويقول عن أستاذه إنه «غيّر، إلى الأبد، مسار الدراسات التوراتية في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، وهو الذي قلب مفاهيم التاريخ وأساليب تدوينه في بلاد الشام والجزيرة العربية».
ويحاول الصليبي أن يعثر على أساس النظرية القائلة إن حل النزاعات الداخلية في لبنان لا يمكن إنجازه إلا من خلال صفقة إقليمية، مع أن جزءاً مهماً من الخلافات منذ عام 1975 هو داخلي. فمن أين تأتي هذه الفكرة المزمنة المستمرة إلى اليوم؟ وهل هي صحيحة أم ضرب من الوهم؟ ولماذا لبنان تحديداً واقع في هذه الورطة؟
ولدت الدول العربية كلها، حسب الصليبي، وفق تقسيمات قسرية، أما لبنان فولد برغبة مسيحية، ورضي به مسلموه على مضض، إذ رأى غالبيتهم أنهم ينتمون إلى أمة عربية أوسع، وأنهم جزء من سوريا. وبما أن المسيحيين بقوا يتناقصون عددياً ويتشتتون، ليس في لبنان وحده بل في المنطقة كلها، ظلوا شديدي اليقظة فيما يتعلق بسيادة لبنان وعلاقاته العربية. وبسبب التركيبة السكانية التعددية، كان من المحال أن يقوم لبنان إلا ديمقراطياً منفتحاً. ولهذا سار على عكس محيطه، تطفو مسائله الخلافية على السطح، وتناقش بصوتٍ عالٍ، من دون حاجة للتلطيف والممالأة، وتتخذ أشكالها الحقيقية. ذلك لم يكن متاحاً في أي مكان عربي آخر. النقاش المحلي الحر لم يكن بالمقدور حصره في الداخل، مما جر البلاد تدريجياً إلى بؤرة صراع إقليمي لقضايا لم يكن متاحاً نقاشها أو محاربتها في مواطنها الأصلية. وبهذا المعنى، تحول لبنان إلى ساحة تعويض للعرب، ليس للحوار فقط بل للحرب أيضاً.
يتحدث الكاتب أيضاً عن الفرصة الكبيرة التي ضيعها العرب، إذ كان يفترض من الدول العربية بعد استقلالها أن تلائم سياساتها مع أهدافها القومية، لكنها بدل ذلك سعت لتحقيق مصالحها الخاصة. «ولو قدر للعرب أن ينسقوا ويوفقوا بين مصالحهم المتضاربة، لكانت العروبة، في أحسن حالاتها، أساساً للتعاون بين الدول المستقلة، ووفرت الرفاهية العربية».
الصليبي ينتقد بشدة دور جامعة الدول العربية التي تأسست عام 1945، وكان يفترض أن تقوم بهذا الدور التنسيقي، لكنها بدل ذلك منحت امتيازات لدول عربية طامحة في التعدي على دول أخرى وزعزعة استقرارها لخدمة سياساتها الخاصة، أو مجرد الاقتصاص من غيرها. ولبنان كان ضحية نموذجية لمثل هذه الاختبارات، وقد ساهمت المعارضة في لبنان، تحت شعار العروبة، في تسهيل هذه التدخلات، بل واستدعتها؛ ويصفها الصليبي بأنها «تدخلات متهورة» و«اختبارات تدميرية».
أحد المفاصل الرئيسية في هذا المسار العربي - اللبناني هي المسألة الفلسطينية التي بقيت تحظى بقصب السبق. والنقطة المهمة التي يلفت إليها الكتاب هنا أن إعلان دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية أشعر الفلسطينيين بأن المواجهة يجب أن تكون عربية قومية، هم آمنوا بذلك وحاولوا، لكن النتائج كانت محبطة. لذلك وجدوا في أعقاب هزيمة 1967، وعقدين من الابتلاء، أن عليهم أن يمسكوا زمامهم بيدهم، وأصبح المسار الوحيد أمامهم هو «تنظيم أنفسهم في صورة ثورة مستقلة تحت المظلة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية».
ويرى الصليبي أنه «إلى جانب اللبنانيين، لا سيما المسيحيين منهم، وقف الفلسطينيون في طليعة العرب، شعباً متقدماً على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، إذ شكلوا فيما بينهم طبقة وسطى متألقة متوزعة على عدة دول عربية متقدمة في مهاراتها، فكانوا قدوة، ووفروا لحركتهم قيادة وبنى تحتية. وفي المقابل، كانت هناك الجماهير في مخيمات اللاجئين على أهبة الاستعداد للتطوع سياسياً وعسكرياً».
وتثير الدراسة نقطة جمعت اللبنانيين إلى الفلسطينيين، وهي «الحرية». كانت الثورة الفلسطينية تشعر بأنها حرة في العمل كما تشاء لأنها تحظى بشرعية كاملة على مستويين: المستوى الفلسطيني من الفلسطينيين، والعروبي من العرب أجمعين، مما منحهم قدرة كبيرة على التحرك، وأحدث نوعاً من الخلخلة في بعض الكيانات العربية.
لبنان بحريته، ومنظمة التحرير بشرعيتها العابرة للحدود والمشاعر العربية، وضعهما في خانة متشابهة مزعجة عربياً. فقد وفر المجتمع اللبناني المنفتح «منصة مثالية للثورة الفلسطينية، وقاعدة تنطلق منها سياسياً وعسكرياً بأدنى قدر من القيود. التوتر الإسلامي - المسيحي بدوره سهل نشوء وضع ثوري محلي في لبنان تمكن الفلسطينيون من استغلاله، وأصبحت الثورة الفلسطينية في لبنان دولة داخل الدولة بدعم إسلامي عريض. ويعتقد صليبي أن هذا الوضع سمح بتدمير الحالتين معاً: اللبنانية والفلسطينية.
فالحرية التي تمتع بها الفلسطينيون داخل دول عربية عدة مهدت لحركة شعبية ضدهم في الأردن، ومن ثم في لبنان. ومنذ عام 1982، حيث تم تدمير الثورة الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي، وخروج منظمة التحرير من لبنان «أحجمت عن كونها ثورة... وظهرت مواجهة مباشرة مفتوحة في العالم العربي بين مصالح الدولة المستقلة من ناحية والتزاماتها بالعروبة من ناحية ثانية»، وهي مواجهة سترسم خريطة المستقبل. أما لبنان، فبحلول عام 1984 كان قد أصبح مدمراً بالفعل بسبب الحرب الأهلية، وصالحاً لمزيد من النزاعات، حيث سيحمل عبء صراع جديد بعد نجاح الثورة الإيرانية.
وزاد الأمر تأججاً إثر اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، فهي مواجهة بين عرب وإيرانيين، بين الإسلام الشيعي في إيران والإسلام السني المهيمن في العالم العربي. وحين تنضم بعض الدول العربية إلى جانب إيران، سيحدث شرخ في العالم العربي.
يقول الصليبي: «على المرء أن يلتفت إلى لبنان نموذجاً لفهم كيفية تشابك المسائل الجوهرية الناشئة وانعكاسها على المنطقة إثر النزاع العراقي - الإيراني. فنجاح الثورة الإسلامية في إيران على هذه السرعة أطلق موجة عارمة من النشاط الشيعي والأصولية الإسلامية السنية». ونفهم من الكتاب أن المخاوف من الثورة الإيرانية هي التي سرعت بتوقف الحرب اللبنانية. فقد قلق السنة، وسارعوا إلى التصالح مع الجانب المسيحي، ونحا الإسلاميون الذين كانوا يرفضون العروبة إلى الالتزام بها، وسعى الجميع للوصول إلى تسوية في البلاد ضمنها الأطراف الإسلامية التقليدية، وبقي رافضاً لهذا الحل المتطرفون المسيحيون والمسلمون على السواء، مما وضعهم في مواجهة مع المعتدلين من الجانبين. وبدا أن زخم الأصولية بدل أن يرسخ التفرقة بين المسيحيين والمسلمين في البلاد، أدى فعلياً إلى تذليلها، ووضع أكثرية غير قتالية من المسيحيين والمسلمين في مقابل أقلية قتالية من كلا الطائفتين على الجانب الآخر، حيث «كان الجانب الأول مستعداً للموافقة على إعادة تفسير مفهوم الدولة اللبنانية في الإطار الأوسع لمفهوم العروبة، فيما كان الجانب الآخر مصمماً على عدم إيجاد حل للمسألة لأطول وقت ممكن».
ويعود الصليبي في نهاية الكتاب إلى السؤال نفسه: «هل يمكن التوصل إلى تسوية للمسألة اللبنانية بمعزل عما يحدث خارج لبنان؟ ليست الإجابة ممكنة، إلا أنه منذ 1975، فإن القضايا الأساسية العالقة في المنطقة شهدت تحللاً إلى عناصرها التركيبية، الواحد تلو الآخر، وتقلصت إلى حبوب دقيقة بين رُحى المطاحن السريعة في لبنان - البلد الوحيد في المنطقة الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك». وهذه القضايا الخلافية الكبرى هي نتيجة تفاعل بين 3 حقائق في المنطقة: طبيعة الأنظمة العربية، والالتزام الأخلاقي بالعروبة، والتحولات الإسلامية من اجتماعية وتاريخية.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.