محمود نسيم... أحب الشعر وعاشه بروح الدراما

صاحب «عرس الرماد» يرحل بعد صراع مع «كورونا»

محمود نسيم
محمود نسيم
TT

محمود نسيم... أحب الشعر وعاشه بروح الدراما

محمود نسيم
محمود نسيم

عمر في محبة الشعر والدراما عاشه الشاعر محمود نسيم وأخلص له على مدار 66 عاماً، لكن في زمن الوباء لم يكن في حسبانه أن تتحول هذه المحبة بمفارقاتها الشفيفة إلى صراع مرير بين الوجود والعدم، ليرحل عن عالمنا مساء الأربعاء الماضي متأثراً بفيروس كورونا.
ولد محمود نسيم في 3 مارس (آذار) 1955 بالقاهرة، وأحب الشعر وعاشه بروح الدراما، التي كرّس لها حياته العلمية. فبعد دراسته للفلسفة بجامعة عين شمس 1980، شكل المسرح بعوالمه الإنسانية حقل دراساته لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه، فناقش مفهوم الحداثة بأنساقها المتنوعة من خلال الطبيعة والكون والمعرفة وتأثيرها في تشكيل العقل الحديث، ودورها في دفع الحياة الخاصة والعامة للإنسان والمجتمع، وذلك من خلال تجلياتها في شتى أنماط الحياة، السياسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واضعاً كل ذلك في حالة من المقارنة والتجاور بين واقعها عربياً، وبين ما وصلت إليه في المجتمعات الغربية.
ومن مناطق الالتفات المهمة التي وصل إليها في هذا السياق وشكّلت خلاصة بحثه، أن الحداثة لا ترتبط بالعقل فحسب، كمعيار للاتزان بين الذات والموضوع كما نجد عند كانط، أو في التماثل بين الفرد والمجتمع كما ينادي ماركس، ورأى أن مناقشة الحداثة والوعي بها كفكرة وموضوع يحتاج إلى ما أسماه بـ«الحداثة النفسية»، التي تمكّن الفرد من مراجعة نفسه واكتساب هويته. كما ناقش في رسالته للدكتوراه، رؤيا العالم في مسرح صلاح عبد الصبور، ومحمود دياب، راصداً البنية الدلالية وجذورها الدرامية في خمس مسرحيات شعرية لعبد الصبور، وثلاثة نصوص مسرحية لدياب، سعى فيها إلى درس وتحليل مجتمع النص ونموه درامياً من خلال علاقته بالزمان والمكان والإشارات المادية والعلامات المميزة للشخصيات، مركزاً على فكرة المخلِّص وصورته، سواء في سياقها الواقعي أو التاريخي الأسطوري، وصورة الذات ورؤيتها للعالم، وذلك في سياق الوعي الممكن والوعي الفعلي بأبعاد هذه الرؤية، ومدى تأثرها بوتيرة التحولات الاجتماعية وما يطرأ على الذاكرة والوجدان العام في المجتمع.
صدرت الأطروحتان في كتابين، الأول بعنوان «فجوة الحداثة» عن أكاديمية الفنون بالقاهرة، والآخر بعنوان «المخلص والضحية... رؤيا العالم لدى محمود دياب وصلاح عبد الصبور» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. شكل الكتابان مهاداً نظرياً قوياً من خلاله تابع محمود نسيم ثمار درسه العملي على أرض الواقع، فعمل بالثقافة الجماهيرية في مجال المسرح بلجان تحكيم وقراءة النصوص. وتابع الكثير من العروض المسرحية التي تقدم في العاصمة والأقاليم، كما شارك في بعض المهرجانات المسرحية التي تقام في عدد من الدول العربية. ولم يفارق شغفه بالمسرح عمله في مجال التدريس الجامعي، سواء بأكاديمية الفنون أو بعض كليات التربية النوعية بالجامعات.
انعكست على شعره فكرة البحث عن «الزمن النفسي» التي شكلت خلاصة دراساته العلمية، وأصبحت بمثابة سلاح للذود عن النفس، وحمايتها من أمراض العصر المزمنة كالشعور بالاكتئاب والاغتراب والنسيان، وأدرك أن الشعر المغموس في نهر الحياة هو رمانة الميزان لهذه العلاقة، وأن الخيال في جوهره ابن الضمير الغائب المتخفي الذي لا يمل من التفتيش عن هذا الزمن الخاص الهارب فيما وراء الواقع والعناصر والأشياء، أما الحاضر فهو ماثل للعيان، إلى حد الصدمة والإحساس بالغثيان في أحيان كثيرة. يعزز ذلك أن العلاقة التي اختبرها نسيم درامياً ما بين المخلص والضحية تميل غالباً إلى مناوشة المضمون المباشر في سياقه السياسي والاجتماعي العام، وقلما تلتفت إليه في سياقه النفسي الخاص، وهنا يكمن دور الشعر في استنهاض الذاكرة ضد الاستلاب والنسيان، وقبل كل شيء وضع الذات في مرآتها الخاصة لتعرف كيف ترى صورتها في مرآة الآخر.. مثلما يقول في آخر دواوينه الصادرة «لاعب الخبال»، مخاطباً نفسه بضمير الآخر المخاطب «خذ ما شئت من الدنيا/ شرفات الصيف/ موسيقى الحجرة/ أصوات صباك/ رنين خطاك على درجات السلم/ ركلة كرة تتبادلها مع صبية طرقات/ عطر امرأة يتفاوح فوق رصيف ليلي».
عاش محمود نسيم الشعر بقوة الدراما، وظل هذه المسعى بوصلة الإيقاع في معظم قصائده، منذ تفجرت محبة الشعر لديه في سن مبكرة، وطغت على ثمارها الأولى نزعة نثرية، سرعان ما غادرها منحازاً إلى قصيدة التفعيلة. مولياً عالم الرؤية الاهتمام الأكبر في بناء القصيدة، وكان يرى أن «الشعر رؤيا ابنة إرادة إنسانية جامحة وطموحة»، وأن «التجريب والمغامرة من دون ذلك، سيظلان محض خبط عشواء في الفراغ».
كنت أداعبه قائلاً: نعم، الشعر كذلك، لكنه ابن إرادة ورؤيا تسعيان إلى التغيير، وأن الثبات على نقطة أو شكل هو محض مراوحة في الظل. كان يرد بثقة العارف «لا بأس يا صديقي، غامِر وجرِّب، لكن شرط أن تأتي بالجديد المدهش المكوِّن للرؤيا والإرادة معاً»، الطريف أنه أرسل لي على ماسنجر «فيسبوك» منذ نحو شهرين نصاً طويلاً له منشوراً في صحيفة «الأهالي» بعنوان «عيوب مرئية» أردفه بعبارة قصيرة «بنجرَّب... أخبارك إيه».. لفتني العنوان، قرأت النص وتأملته ملياً، لاكتشف أن التجريب يكمن في كيفية «مسرحة» النص الشعري، وكأنه منصة عرض درامي، تتلاقح عليها الأزمنة والرموز والصور والشخوص، نص مفتوح على نفسه وعلى الحياة بمحبة الدراما والشعر في مشهدية بصرية خصبة... يقول في جزء منه بعنوان «الاختيار»:
أنا مُدرِّبُ الأداءْ
في أيّ وقتٍ من نهارٍ عابرٍ
أُعلِّمُ الفتيةَ والبنات
تدرجاتِ الصوتِ في الغِناءْ
طريقةَ النطقِ، وتقطيعَ الكلامْ
وحِرفةَ التمثيلِ، والرقصِ البدائيّ
وموسيقى الجِنازاتِ، وتشكيلَ الفراغْ
من كلِّ من يأتي إلى منصةِ العرضِ
خلال صحوةِ المساءْ
أُميزُ الهِباتْ
اُفضلُ الجسمَ الخفيف
توازنَ الخطوِ، وطاقةَ الخيالْ
في مهنتي تلك،
قضيتُ أكثرَ الحياة
من مقعدٍ في ركنِ مسرحٍ
يُحيطُه وميضٌ من ظلالْ
أُتابعُ الإلقاءَ والعزفَ
ولُعبةَ المُحاكاةِ، وإيهامَ الحضور
أشرحُ من زاويتي
كيف يُجيدُ الراقصُ الخطوَ على الإيقاع
كيف يُتقنُ الممثلُ الإيحاءَ بالمشاعرِ النشوى
بلمحةٍ من السكونْ
وكيف يُوحي بالغموضْ
وكيف يلتقي الفضاءُ بالطيور
وتعرفُ الريحُ اللقاحْ
أفيضُ غائماً
كأنني أُجدِّدُ الوجود.
ترجم محمود نسيم هذه العلاقة بين الشعر والمسرح بشكل حي عبر بعض النصوص المسرحية التي كتبها، كان من أبرزها مسرحية «مرعى الغزلان»، حيث يدور الصراع في غلالة ثورية بين مجموعة من الرفاق، يحلمون بالتغيير وبغد أفضل لكنه يصاب بالعطب، تحت حمى التواطؤات العاطفية بنكهتها الأنثوية الطافرة، ويتحول في الختام إلى موال تراجيدي بين البطل والبطلة، وكأنه مرثية لذات فقدت القدرة على الفعل والحب أيضاً... عرضت المسرحية على مسرح الهناجر، وحققت نجاحاً لافتاً، وطبعت في الهيئة العامة للكتاب 1988، ونالت الجائزة الأولى للمجلس الأعلى للثقافة بمصر 1986.
في خضم كل هذا، كان لمحمود نسيم حضوره الخاص في الأنشطة والمنتديات الأدبية، فشارك في إصدار مجلة «كتابات» مع الشاعر رفعت سلام، والشاعر شعبان يوسف، ثم انضم إلى جماعة «إضاءة الشعرية»، وشارك في العدد الثامن من مجلتها «إضاءة 77»، فكان إضافة حقيقية لتجربتها.
ترجمت مختارات من شعره إلى الإنجليزية، وحصل على جائزة سعاد الصباح عن ديوانه «عرس الرماد»، 1991، وفاز بجائزة أفضل سيناريو كبار الكتاب لعام 2016 عن سيناريو «رجل الحكايات» ضمن جوائز مؤسسة ساويرس الثقافية... ومن أبرز أعماله الشعرية، «السماء وقوس البحر» 1984، و«كتابة الظل» 1995، و«لاعب الخيال» 2020.
ونعت الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، الشاعر الراحل في بيان صحافي جاء فيه «إن الراحل أحد أجمل الوجوه الشعرية لجيل السبعينات»، مشيرة إلى أسلوبه المتفرد في معالجة العديد من الموضوعات التي تناولها.
لقد عاش محمود نسيم شهوة الفرح بالحياة بقلب طفل شاعر، وبصيرة صانع مشهد مسرحي يردد دائماً «الحياة تتكرر كل صباح عليك أن تكتبها بحب».



ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
TT

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)

مع انطلاق فعاليات الدورة الـ17 من «ملتقى الأقصر الدولي للتصوير» في مصر، الاثنين، بدأ الفنانون المشاركون في التفاعل مع فضاء مدينة الأقصر (جنوب مصر) بحضارتها العريقة وطبيعتها المُشمسة، استعداداً للبدء في تنفيذ أعمالهم من وحي روح المدينة القديمة.

الملتقى الذي يقام تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية وينظمه صندوق التنمية الثقافية، يواصل أعماله حتى السابع من ديسمبر (كانون الأول) المقبل.

ويقول الفنان المصري ياسر جعيصة، القوميسير العام للملتقى، إن «دورة هذا العام يشارك فيها 25 فناناً من مصر ومختلف دول العالم، منهم فنانون من سوريا، والأردن، والسودان، وقطر، واليمن، والولايات المتحدة، والهند، وبلغاريا، وروسيا، وألبانيا، وبولندا، والسنغال».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «لم يتم تحديد ثيمة معينة ليعمل عليها الفنانون المشاركون في الملتقى؛ إذ نهدف إلى أن يلتقط كل فنان روح مدينة الأقصر بأسلوبه الفني الخاص وأسلوبه في التفاعل معها بشكل حُر، دون تقيّد بثيمة أو زاوية مُحددة، سواء كان التفاعل بطبيعتها، أو بوجهها الأثري، أو الخروج بانفعال فني ذاتي، وهذا يمنح للأعمال فرصة الخروج بصورة أكثر تنوعاً كنتاج للملتقى».

ويتابع: «بالإضافة إلى ذلك، فهناك اهتمام هذا العام بخلق حوار مع مجتمع مدينة الأقصر، عبر تنظيم أكثر من فعالية وورش عمل بين الفنانين والأطفال والأهالي لخلق حالة أكبر من التفاعل الفني».

عدد من الفنانين المشاركين في ملتقى الأقصر للتصوير (قوميسير الملتقى)

ومع اليوم الأول لانطلاق الملتقى بدأ الفنانون في الاندماج مع المدينة من خلال ورش عمل متخصصة، منها ورشة للفنان الهندي هارش أجراول الذي نظم ورشة عمل باستخدام خامة «الأكواريل» المعروف بتميزه في التعامل معها فنياً، وهي ورشة استقبلت عدداً من طلاب كلية الفنون الجميلة من قسم التصوير بالأقصر الذين سيحضرون على مدار أيام الملتقى للتفاعل مع الفنانين بشكل مباشر والاستفادة من خبراتهم الفنية، وفق القوميسير.

ويعتبر الدكتور وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية في مصر، عضو اللجنة العليا للملتقى، أن «ثمة تغييرات تم استحداثها في برنامج الملتقى للخروج بنسخة مميزة لدورة هذا العام»، حسبما يقول لـ«الشرق الأوسط»، ويضيف: «توفير أفضل الظروف للفنانين من خامات، وإطالة مدة الجولات الفنية الخارجية داخل المدينة، والرسم في المواقع المفتوحة والأثرية... كان من أبرز الأفكار والموضوعات التي يسعى لتفعيلها قوميسير الملتقى ياسر جعيصة خلال تلك الدورة، في محاولة أن تخرج أعمال الملتقى أكثر انسجاماً وتعبيراً عن روح مدينة الأقصر».

ومن المنتظر أن تُعرض أعمال الملتقى في اليوم الختامي بمحافظة الأقصر، على أن يتم تنظيم عرض خاص آخر لها بالقاهرة مطلع العام المقبل.

ويرى الفنان طارق الكومي، نقيب الفنانين التشكيليين بمصر، عضو اللجنة العليا للملتقى، أن «ملتقى الأقصر مناسبة لتبادل الخبرات بين الجنسيات والأجيال المختلفة، وكذلك مناسبة لتقديم حدث تشكيلي مميز للمجتمع الأقصري وزوار المدينة، واستلهام الفنانين لعالم فني مُغاير يستفيد من عناصر مدينة الأقصر وتاريخها العريق»، وفق تصريحاته لـ«الشرق الأوسط».

وتعد مدينة الأقصر من أبرز الوجهات السياحية العالمية التي تضم مواقع أثرية وثقافية بارزة منها: معبد الأقصر، ومعبد الكرنك، ومقابر وادي الملوك، ووادي الملكات.