استقرار السلع الأولية عالمياً مقيّد بمسار احتواء «كورونا»

ارتفعت أسعارها في الربع الأول مع انتعاش الاقتصاد العالمي

تشير توقعات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار المعادن بنسبة 30% خلال العام الجاري (رويترز)
تشير توقعات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار المعادن بنسبة 30% خلال العام الجاري (رويترز)
TT

استقرار السلع الأولية عالمياً مقيّد بمسار احتواء «كورونا»

تشير توقعات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار المعادن بنسبة 30% خلال العام الجاري (رويترز)
تشير توقعات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار المعادن بنسبة 30% خلال العام الجاري (رويترز)

واصلت أسعار السلع الأولية انتعاشها في الربع الأول من عام 2021، ومن المتوقع أن تظل قريبة من مستوياتها الحالية طوال العام، بعد أن ارتفعت بسبب انتعاش الاقتصاد العالمي وتحسن آفاق النمو، وفقاً لتوقعات البنك الدولي نصف السنوية في نشرة آفاق أسواق السلع الأولية.
غير أن تلك التوقعات تعتمد اعتماداً كبيراً على ما سيتحقق من تقدم في احتواء جائحة فيروس «كورونا»، وكذلك على ما سيتم اتخاذه من تدابير لدعم السياسات في الاقتصادات المتقدمة وعلى قرارات الإنتاج في البلدان الرئيسية المنتجة للسلع الأولية، حسب مذكرة حديثة للبنك.
ومن المتوقع أن يرتفع متوسط أسعار الطاقة هذا العام أكثر من الثلث مقارنةً بما كان عليه عام 2020 حيث يبلغ متوسط سعر النفط 56 دولاراً للبرميل. وتشير التوقعات كذلك إلى ارتفاع أسعار المعادن بنسبة 30%؛ وأسعار المنتجات الزراعية نحو 14%. فأسعار جميع السلع الأولية تقريباً أصبحت الآن أعلى من مستوياتها قبل تفشي الجائحة، مدفوعةً في ذلك بالزيادة المفاجئة في النشاط الاقتصادي، فضلاً عن بعض عوامل العرض المحددة، خصوصاً بالنسبة إلى النفط والنحاس وبعض السلع الغذائية.
وفي معرض التعقيب على التقرير، قال أيهان كوس، نائب رئيس مجموعة البنك الدولي بالإنابة لشؤون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات ومدير مجموعة «آفاق التنمية»: «النمو العالمي أقوى مما كان متوقعاً حتى الآن، كما أن حملات التطعيم جارية، وقد أدت هذه الاتجاهات إلى ارتفاع أسعار السلع الأولية. ومع ذلك، فإن مدة استمرار الانتعاش الاقتصادي غير مؤكدة إلى حد كبير... ويتعين على بلدان الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، سواء كانت مصدِّرة أو مستوردة للسلع الأولية، أن تعزز قدرتها على الصمود على المدى القصير وأن تستعد لاحتمال أن يفقد النمو زخمه».
وارتفعت أسعار النفط الخام من مستوياتها المتدنية القياسية التي سجلتها خلال الجائحة، وذلك بدعم من الانتعاش السريع في الاقتصاد العالمي واستمرار خفض الإنتاج من جانب منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) وشركائها. ومن المتوقع أن يترسخ الطلب خلال عام 2021 مع توافر اللقاحات على نطاق واسع، لا سيما في الاقتصادات المتقدمة، وتخفيف القيود المفروضة بسبب الجائحة، واستمرار الانتعاش العالمي. وتشير التوقعات إلى أن متوسط أسعار النفط سيبلغ 60 دولاراً للبرميل عام 2022. ومع ذلك، إذا تعثرت جهود احتواء الجائحة، فإن المزيد من التدهور في الطلب يمكن أن يشكّل عامل ضغط على الأسعار.
ومن المتوقع أن تستعيد أسعار المعادن بعض المكاسب التي حققتها هذا العام مع ضعف النمو المدفوع ببرامج التحفيز المالي عام 2022، ومن شأن سحب بعض اقتصادات الأسواق الناشئة الرئيسية الحوافز بوتيرة أسرع من المتوقع أن يشكّل خطراً سلبياً على الأسعار؛ ومع ذلك، يمكن لبرنامج البنية التحتية الرئيسي في الولايات المتحدة دعم أسعار المعادن، بما في ذلك الألمنيوم والنحاس وخام الحديد. وقد يؤدي تكثيف التحول العالمي في مجال الطاقة إلى إزالة الكربون إلى زيادة تعزيز الطلب على المعادن.
وقد ارتفعت أسعار المنتجات الزراعية ارتفاعاً كبيراً هذا العام، لا سيما السلع الأولية الغذائية، مدفوعةً في ذلك بنقص الإمدادات في أميركا الجنوبية والطلب القوي من الصين. ومع ذلك، لا يزال المعروض كافياً بالمعايير التاريخية في معظم أسواق السلع الأولية الغذائية حول العالم، ومن المتوقع أن تستقر الأسعار عام 2022، حسب البنك الدولي.
وفي حين ظلت أسعار السلع الأولية الغذائية حول العالم مستقرة في الآونة الأخيرة، لا تزال الشواهد الناشئة تثبت آثار جائحة «كورونا» على انعدام الأمن الغذائي والتي من المتوقع أن تستمر طوال عامي 2021 و2022، ويواجه عدد متزايد من البلدان مستويات متنامية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مما يعكس مسار المكاسب الإنمائية التي استمرت سنوات طويلة.
وفي هذا الصدد، قال كوس: «على الرغم من أن أسواق السلع الأولية الغذائية تتمتع بمعروض جيد على مستوى العالم، فإن جائحة (كورونا) أثّرت بشدة على العمالة وأسواق الغذاء محلياً في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى خفض الدخل وتعطيل سلاسل التوريد وتكثيف قضايا الأمن الغذائي التي كانت قائمة حتى قبل تفشي الجائحة. لقد حان الوقت لصانعي السياسات لمعالجة المصادر الأساسية لانعدام الأمن الغذائي».
ويبحث قسم «التركيز الخاص» في أثر التغيرات الحادة في أسعار المعادن على البلدان المصدِّرة للمعادن. وتشكل المعادن، لا سيما النحاس والألمنيوم، مصدراً رئيسياً لعائدات التصدير لنسبة 35% من اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، مع ما يترتب على ذلك من آثار مهمة على النمو الاقتصادي واستقرار الاقتصاد الكلي، وبالتالي على الحد من الفقر. وبما أن أسعار المعادن مدفوعة في المقام الأول بالطلب العالمي، فإن هذه البلدان يمكن أن تتأثر بشدة بالركود العالمي، الذي يمكن أن يؤدي إلى انخفاض أسعار المعادن وعائدات التصدير على حدٍّ سواء. ولذلك ينبغي تنحية الإيرادات غير المتوقعة من ارتفاع أسعار المعادن، التي تميل إلى أن تكون قصيرة الأجل، جانباً تحسباً للآثار السلبية الأطول أمداً لانهيار الأسعار والذي من شأنه أن يبرر دعم السياسات.
وقال كبير الاقتصاديين في البنك الدولي جون بافيز: «إن صدمات أسعار المعادن مدفوعة في المقام الأول بعوامل الطلب الخارجي، مثل الركود العالمي والانتعاش العالمي. فخلال فترة الركود، قد يتضرر مصدِّرو المعادن من الانكماش الأوسع نطاقاً وكذلك انهيار الأسعار. وتزيد خسائر الإنتاج المرتبطة بهبوط الأسعار عن المكاسب الناتجة عن ارتفاع الأسعار، ويتعين على صانعي السياسات أن يستعدوا وفقاً لذلك».


مقالات ذات صلة

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

الاقتصاد صورة جماعية للمشاركين في مؤتمر «كوب 16» في اختتام أعماله (واس)

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

أنتج مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16) الذي عقد في الرياض، 35 قراراً حول مواضيع محورية.

عبير حمدي (الرياض)
خاص ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

خاص قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

يقف عام 2025 عند منعطف محوري مع تنامي المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين ووسط استمرار التوترات الجيوسياسية.

هلا صغبيني (الرياض)
الاقتصاد امرأة على دراجتها الهوائية أمام «بورصة بكين»... (رويترز)

تراجع تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة... والصين الأكبر تضرراً

من المتوقع أن يشهد النمو العالمي تباطؤاً في عام 2025، في حين سيتجه المستثمرون الأجانب إلى تقليص حجم الأموال التي يوجهونها إلى الأسواق الناشئة.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد برج المقر الرئيس لبنك التسويات الدولية في بازل (رويترز)

بنك التسويات الدولية يحذر من تهديد الديون الحكومية للأسواق المالية

حذّر بنك التسويات الدولية من أن تهديد الزيادة المستمرة في إمدادات الديون الحكومية قد يؤدي إلى اضطرابات بالأسواق المالية

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متداولون في كوريا الجنوبية يعملون أمام شاشات الكومبيوتر في بنك هانا في سيول (وكالة حماية البيئة)

الأسواق الآسيوية تنخفض في ظل قلق سياسي عالمي

انخفضت الأسهم في آسيا في الغالب يوم الاثنين، مع انخفاض المؤشر الرئيسي في كوريا الجنوبية بنسبة 2.3 في المائة.

«الشرق الأوسط» (هونغ كونغ )

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».