الجماعات الإثنية والدينية... والدولة

«حصار مراوي في الفلبين» في الكتاب الشهري لمركز «المسبار»

الجماعات الإثنية والدينية... والدولة
TT

الجماعات الإثنية والدينية... والدولة

الجماعات الإثنية والدينية... والدولة

يتناول كتاب «حصار مراوي في الفلبين - جذور التطرف وهشاشة الدولة» الذي أصدره مركز المسبار للدراسات والبحوث تاريخ وحاضر الجماعات الإثنية والدينية في الفلبين، وعلاقتها بالدولة وتشكلها ومؤسساتها، والقضايا التاريخية المتراكمة عبر حقب الاستعمار، والانقلابات العسكرية وانعكاسها في السلطة والأحزاب السياسية، وما نتج عنها من توتر متبادل ترك تأثيره في المجتمع والدين والسياسة. درس الكتاب الحركات الإسلاموية، وخصائصها المحلية، ومدى ارتباطها بالإسلامويين في الشرق الأوسط، وسلط الضوء على الاستراتيجيات المعتمدة من الحكومات الفلبينية المتعاقبة في مكافحة الإرهاب.
في هذا الكتاب، عرض إريكسون دي كالاتا، البروفسور المساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة العلوم التطبيقية في الفلبين، في دراسته «تاريخ» نظام فرديناند ماركوس (1965 - 1986) وتبيان تفاصيله، ثم مقارنة ذلك مع البرامج والمشاريع التي نهض بها رؤساء جاءوا بعده. وقد وجدت هذه الدراسة أن بعض الرؤساء ممن جاءوا بعد ماركوس قد تابعوا بعضاً من مشاريعه وبرامجه. وكذلك استنتجت أن شيئاً لم يتغير في المجتمع الفلبيني إبان نظام ماركوس وبعده لأن الديمقراطية في البلاد يسير بها النوع نفسه من النخبة السياسية والأوليغارشيا «القلة المسيطرة»، كحالها إبان ولاية ماركوس.
ويخلص الكاتب إلى أن كثيرين يستمرون من أنصار ماركوس في اعتبار نظامه زمناً مجيداً، وأنه أفضل رئيس نالته الفلبين في تاريخها، لكن الكاتب يتساءل: لماذا اندلعت ثورة الـ«إي دي إس إيه»؟ لماذا تحدى ملايين الفلبينيين عنف العسكر والدولة، وتركوا منازلهم ونزلوا إلى الشوارع في 1986؟ لماذا أبدوا استعدادهم حتى للموت مقابل إخراج ماركوس من السلطة وإنهاء الحقبة القاتمة للأحكام العرفية؟ يشير الباحث إلى أنه ما زال الوضع الذي ساد أيام ماركوس مستمراً حتى اليوم؛ ليس مهماً عدد الرؤساء الذين تتالوا على سدة الرئاسة، ولا مدى استنكارهم سياسات ماركوس وإرثه، إذ لم يتغير النظام السياسي والتركيب الاجتماعي، وكذلك يستمر تنامي الفقر وانعدام العدالة في أوساط غالبية السكان.
إن إرث حركة «باغونغ ليبونان» (المجتمع الجديد) التي أُطلِقت قبل أربعين سنة يتضمن السرديات نفسها التي يستخدمها أنصاره وأتباعه في تبرير وصفهم سنوات الأحكام العُرفية بأنها سنوات مجيدة للفلبين.

الدولة والكنيسة والجيش

يشير باتريسيو آبينالس، الأستاذ في كلية المحيط الهادئ والدراسات الآسيوية في جامعة هاواي (مانوا)، إلى أن تحول الكنيسة من مؤسسة تستطيع منافسة الدولة في الشعبية و«البروباغاندا» (الدعائية) والتعليم، إلى منافسٍ ضعيفٍ يفتقد قاعدة شعبية واسعة، وتتضاءل إمكانياته في التعليم، يشكل أمراً من المستطاع تفسيره بالتاريخ المضطرب لعلاقتها مع الدولة، إذ يزعم الطرفان امتلاك حب لا يفتر للمصلحة العامة للأمة، لكن أولوياتهما وافتراضاتهما تصادمت دوماً. ويدقق الباحث في هذه الدراسة في المناوشات بين الكنيسة والدولة في مرحلة ما بعد الكولونيالية، في أثناء حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، حيث قاومت الكنيسة محاولة الدولة إملاء طريقة التدريس لصغار الفلبينيين عن البطل الوطني خوسيه ريزال (Jose Rizal) (1861 - 1896).
ويفترض برايان دوس، المحاضر في برنامج الاقتصاد السياسي بجامعة آسيا والمحيط الهادئ، في هذه الدراسة أن لارتباط الكنيسة الكاثوليكية الفلبينية بالجيش الفلبيني وجهين اثنين: مؤسسي ومعيشي، إذ يشير الارتباط المؤسسي إلى أنشطة الكنيسة الكاثوليكية في التعاون مع أفراد الجيش، وتقديم الرعاية الكهنوتية لهم من خلال مؤسساتها الكنسية الرسمية، لا سيما عن طريق «النيابة الرسولية» للفلبين. ومن ناحية أخرى، فإن الارتباطات المعيشة هي تلك الأنشطة التي يمارسها رجال الدين الكاثوليك والمتدينون والعلمانيون للتفاعل مع الجيش من خلال المجتمع المدني، لا سيما على شكل منظمات دينية.
ويخلص الباحث، حول مشاركة الكنيسة الكاثوليكية وتفاعلها مع الجيش، إلى أن يسمي أحدهما المشاركة المؤسسية، ويقدم نهجاً قويماً عن كيفية تأثير الكنيسة في شؤون الدولة، بصفتها معلمة للأخلاق باتباع الأساليب الرعوية القانونية. ومن ناحية أخرى، يقدم ما يسمى المشاركة الـمعيشة نهجاً هرطوقياً بانتقاد انتهاكات الجيش للقطاعات المهمشة.

التعليم الإسلامي

ناصف آديونغ، الأستاذة المشاركة في الإسلام والعلاقات الدولية بجامعة الفلبين (ديليمان)، ترى أن تطور التعليم الإسلامي في الفلبين، وعلاقاته مع السياسات التعليمية التي تكونت في درجات اجتماعية متنوعة، لاحظته توجهات بيروقراطية حكومية مختلفة. ويعرج الباحث في دراسته إلى تناول برامج أنظمة التعليم فيها، ويبين أنواعها ومزاياها، والكليات والمعاهد الإسلامية أيضاً. وتخلص الباحثة إلى أن طرق العيش الهندية أثرت في ثقافة وهويات الـ«مورو» (Moro) قبل الإسلام في «مينداناو»، وكذلك الحال، بل ربما على نطاق أكبر، في الأمة الفلبينية كلها أيضاً.
وشكل التعليم في المنزل أو المجتمع تحت إشراف قائد محلي، ينظر إليه غالباً بصفته المُسِن الحكيم/ الحكيمة، النمط السائد آنذاك (من حقبة ما قبل الإسلام وصولاً إلى حقبة الاستعمار الأميركي) في «مينداناو المسلمة». وفي ذلك الإطار، يُجرَى تعليم مهارات مشبعة بالقيم الثقافية والدينية، وتكون الإسلامية في هذه الحالة. وقد انتقلت عبر ذلك النمط التعليمي من المبشرين العرب الأوائل، والتجار المسلمين والصوفيين، ثم تقوت وصمدت عبر مصاهرات مع السكان المحليين. وفي حين اتكلت السياسة الإسبانية على مدار ثلاثة قرون أو أكثر على زرع المسيحية، وتحديداً الكاثوليكية، أبدى مسلمو الـ«مورو» خشية حيال تلك الوضعية، وقاوموا السياسة التعليمية الإسبانية. ومع مجيء الأميركيين، بصفتهم مستعمرين آخرين، لم يتبدل في الأمر سوى مجرد توقف عملية نقل الناس إلى الديانة المسيحية. ومع الأميركيين، تمثل الفارق في نهوض الأخيرين بمسؤولية تعليم الفلبينيين والمسلمين في «مينداناو»، لكن عبر التدريس الإمبريـالي.

المسلمون في الفلبين

تربط دراسة فدريكوف ماغدالينا، الباحث الفلبيني المتخصص في الدراسات الآسيوية، بين التطور الإسلامي من جهة، وتنامي الإحساس القومي بين المسلمين الفلبينيين المستند إلى مبدأ تقرير المصير منذ عقد السبعينيات من القرن العشرين من جهة ثانية. ومن المستطاع تتبع الصحوة الإسلامية رجوعاً إلى خمسينيات القرن العشرين، حين قصد مئات من شباب الـ«مورو» (Moro) الشرق الأوسط، خصوصاً مصر والسعودية، لدراسة الفقه الإسلامي. وبالنتيجة، عاد هؤلاء محملين بأفكار جديدة ومقاربة «حديثة».
وفي المقابل، استمرت ممارسات وسلوكيات تقليدية ترجع إلى ما قبل انتشار الإسلام في الفلبين، منبثة في المعتقدات الثقافية ونظم القِيَم، على غرار ما حدث مع جيرانهم من المسلمين. وكذلك ثمة ممارسات «غير إسلامية» أو «إرهابية» تأتي من بعض من المتمردين والمقاتلين من الـ«مورو» (مثلاً، جماعة أبو سياف) الذين تبنوا الإسلام، والعودة إلى نظام الخلافة الذي روجه «تنظيم داعش في العراق والشام»، لكن المفارقة الكبرى تكمن في انحرافهم عن جادة الإسلام القويم وتعاليمه.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم