تركيا: لا مساس بـ«اتفاقية مونترو» ونطبقها حرفياً

احتجاجات لمنظمات يسارية تركية ضد مرور سفن حربية أميركية من مضيقي البسفور والدردنيل للوصول إلى البحر الأسود (أ.ب)
احتجاجات لمنظمات يسارية تركية ضد مرور سفن حربية أميركية من مضيقي البسفور والدردنيل للوصول إلى البحر الأسود (أ.ب)
TT

تركيا: لا مساس بـ«اتفاقية مونترو» ونطبقها حرفياً

احتجاجات لمنظمات يسارية تركية ضد مرور سفن حربية أميركية من مضيقي البسفور والدردنيل للوصول إلى البحر الأسود (أ.ب)
احتجاجات لمنظمات يسارية تركية ضد مرور سفن حربية أميركية من مضيقي البسفور والدردنيل للوصول إلى البحر الأسود (أ.ب)

سعت تركيا إلى تبديد مخاوف عبرت عنها روسيا وغيرها من الدول بشأن احتمال انسحاب تركيا من اتفاقية «مونترو» التي تنظم حركة السفن في مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يتحكمان في حركة عبور البحر الأسود في ظل الحديث عن إنشاء «قناة إسطنبول». وأكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن تركيا تطبق «اتفاقية مونترو»، الموقعة عام 1936 حرفيا، وينبغي ألا يكون لدى روسيا أو غيرها أي مخاوف حيال ذلك.
وأكد جاويش أوغلو، في مقابلة تلفزيونية أمس (الخميس)، أن القواعد والقيود واضحة، والعبور من المضايق يجري ضمن هذا الإطار، مؤكدا مرة أخرى أن مشروع «قناة إسطنبول» لا ينتهك «اتفاقية مونترو».
كانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت، الجمعة الماضي، إن روسيا تتوقع أن تتعامل جميع الدول بمسؤولية مع تنفيذ أحكام «اتفاقية مونترو» بشأن وضع مضيقي البسفور والدردنيل. وأضافت: «لا نرى بدائل للنظام القانوني الدولي، الذي أقيم على أساس (اتفاقية مونترو). ونتوقع أن تتخذ جميع الدول المعنية نهجاً مسؤولاً حيال التقيد بها، وبالطبع لتركيا الدور الخاص في هذا الأمر».
وشددت زاخاروفا على أن أي محاولات لمراجعة «اتفاقية مونترو» ستؤثر على مصالح روسيا، مضيفة: «نحن نعدّ هذه الاتفاقية العامل الأساسي للاستقرار والأمن في البحر الأسود، خصوصاً فيما يتعلق بالملاحة البحرية».
وأعادت «اتفاقية مونترو» سيادة تركيا على مضيقي البسفور (في إسطنبول) والدردنيل (في تشاناق قلعة)، وتم اعتمادها في مؤتمر حول نظام مضايق البحر الأسود عقد عام 1936 في مدينة مونترو بسويسرا. وتحافظ الاتفاقية على حرية المرور عبر المضايق للسفن التجارية فقط. في الوقت نفسه، يختلف أسلوب المرور بالنسبة للسفن الحربية لدول البحر الأسود والدول غير المطلة على البحر الأسود. ويمكن لدول البحر الأسود أن تبحر سفنها الحربية من أي فئة عبر المضيق في وقت السلم بتصريح من الحكومة التركية. وبالنسبة للسفن الحربية التابعة لدول غير مطلة على البحر الأسود، فقد تم فرض قيود كبيرة على الفئة والحمولة. وقال جاويش أوغلو إن تركيا ترغب في أن يكون البحر الأسود واحة للسلام، لافتا إلى أن التوتر الحاصل بين روسيا وأوكرانيا ألقى بظلاله على السلام في البحر الأسود، مؤكدا دعم تركيا حل هذه القضية بالطرق السلمية، وأن تركيا تتمتع بعلاقات جيدة سواء مع روسيا أو أوكرانيا، وأنها تتبع سياسة صادقة وواضحة. وعن إلغاء سفن أميركية عبورها من مضيقي الدردنيل والبوسفور، قال جاويش أوغلو إن الولايات المتحدة أخطرت تركيا بذلك شفهيا، ولم تصل بعد مذكرة خطية بهذا الشأن. وأشار إلى أنه في حال لم تعبر السفن اليوم فإن عملية الإخطار المقدمة قبل 15 يوما ستُستأنف من جديد. وأبلغت الولايات المتحدة وزارة الخارجية التركية أول من أمس إلغاء عبور سفينتين حربيتين أميركيتين المضايق التركية باتجاه البحر الأسود، وقدمت إخطارا دبلوماسيا عبر سفارتها بالعاصمة أنقرة إلى وزارة الخارجية التركية، يفيد بإلغاء عبور سفينتين حربيتين المضايق التركية باتجاه البحر الأسود. وقالت مصادر دبلوماسية تركية إنه تم إلغاء تصاريح سابقة لمرور السفينتين عبر مضيق البوسفور. وفي وقت سابق، قالت مصادر في الخارجية التركية إنه «تم الإبلاغ عبر القنوات الدبلوماسية بعبور سفينتين حربيتين أميركيتين إلى البحر الأسود وفقاً لاتفاقية (مونترو)». وكان من المقرر أن تعبر السفينتان في الرابع عشر والخامس عشر من أبريل (نيسان) الحالي؛ لتستقر في البحر الأسود، على أن تعودا في 4 و5 مايو (أيار) المقبل.
في السياق ذاته، شدد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على عدم وجود علاقة بين مشروع قناة إسطنبول واتفاقية مونترو وأنه لا تعارض بينهما. وجدد إردوغان، خلال لقاء مع مجموعة من الشباب بالقصر الرئاسي مساء الأربعاء، انتقاده لبيان أصدره مؤخراً 104 أدميرالات متقاعدين من البحرية التركية، حول مشروع قناة إسطنبول محذرين فيه من المساس باتفاقية مونترو.
وقال إردوغان: «بصفتي القائد العام للجيش أسأل الضباط المتقاعدين الـ104 كيف يمكنكم إصدار بيان كهذا؟». وأكد أن بيان الضباط المتقاعدين لا علاقة له بحرية الرأي. ودعاهم إلى الالتزام بمكانتهم كعسكريين، أو الانخراط في حزب سياسي إن كانوا يريدون ممارسة السياسة. وشدد على أنه من غير المعقول أن تقبل حكومته ببيان كهذا، مبيناً أن الأمر انتقل إلى القضاء الذي سيبت بقراره في هذا الخصوص. وأفرجت السلطات التركية، الثلاثاء، عن 14 أدميرالاً متقاعداً بالقوات البحرية بشرط الخضوع للرقابة القضائية وعدم السفر داخل البلاد أو خارجها، بعد أسبوع من الاعتقال والتحقيقات على خلفية توقيعهم ضمن 104 أدميرالات على بيان صدر بعد منتصف ليل السبت قبل الماضي يحذر الحكومة من الانسحاب من «اتفاقية مونترو» في ظل النقاش حول مشروع «قناة إسطنبول» الذي يتحمس له الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وتضمن بيان الأدميرالات، الذي عدّه إردوغان وحكومته تلميحاً لانقلاب عسكري، دعوة الجيش للحفاظ على مبادئ الدستور بعد إعلان الرئيس التركي عن التوجه لوضع دستور جديد.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟