لماذا سكت رامبو؟

ككل الشعراء الكبار في التاريخ اصطدم بعصره وزمانه وهو في العشرين

رامبو
رامبو
TT

لماذا سكت رامبو؟

رامبو
رامبو

ربما لم يعرف تاريخ الشعر شخصا مفعما بالتمرد والانطلاق مثل آرثر رامبو. فقد انفجر في عصره كالقنبلة الموقوتة. لقد لمع في سماء الشعر الفرنسي كالنيزك المارق ثم سرعان ما احترق مخلفا وراءه سرا يستعصي على التفسير. لكن لنعد إلى البدايات الأولى. لقد انفجر بالغضب العارم ضد كل شيء بدءا من أمه وقريته وانتهاء بالعالم بأسره مرورا بالمسيحية والتدين التقليدي بكل إكراهاته وقيوده. كل شيء يحصل كما لو أن رامبو كان يشعر بأنه محاصر من كل الجهات. كان يشعر بأنه مضغوط: والضغط يولد الانفجار. كل شيء يتآمر عليه، على عبقريته ورغباته، وربما لهذا السبب راح يغامر في كل الجهات، وعلى كافة الأصعدة والمستويات. وكـ«القارب السكران»، قصيدته الشهيرة، راح يترنح من مكان إلى مكان قاذفا بنفسه في فوهة المجهول غير عابئ بالمخاطر والتبعات. وكانت النتيجة أن قاربه تكسر على رصيف الواقع المر وهو في عز الشباب (37 سنة). لقد خسر حياة لم يعشها، ولكنه ربح الشعر. وحتى في كتاباته النثرية كان رامبو متشظيا كالقنابل والبراكين. لنستمع إليه يقول محددا شروط ظهور الشاعر الكبير:
ينبغي أن يعرف كل أشكال الحب، والعذاب، والجنون. ينبغي أن يخوض كل أنواع التجارب ويحترق في أتونها. ينبغي أن يبحث عن ذاته في ذاته، أن يستنفد في داخله كل السموم لكيلا يحتفظ منها إلا بالجوهر واللباب. يا لها من محرقة كبيرة، من عذاب هائل! عندئذ يحتاج إلى الإيمان كله وإلى قوة فوق بشرية لكي يستطيع أن يصمد. وعندئذ يصبح المريض الكبير، والمجرم الكبير، والملعون الكبير - والعالم الأكبر! وذلك لأنه في تلك اللحظة بالذات يرى ما لا يرى، يتوصل إلى سبر أغوار المجاهيل.
هذا هو تعريف الشاعر: إنه يقلص حدود المجهول باستمرار عن طريق توسيع آفاق اللغة والمعاني، أو الصور والمجازات. كل مجاز جديد يفترعه الشاعر أو يقدر عليه يمثل انتصارا على الآفاق المغلقة والجدران المسدودة. المجاز الإبداعي الخارق يوسع من مساحة الحرية على هذه الأرض. ولكن من يستطيع اقتناصه أو التوصل إليه؟ هيهات!.. من هنا شعورنا بالارتياح النفسي عندما نقرأ قصيدة حقيقية. ثم تتحول هذه المجازات المبتكرة إلى مكسب جديد للغة الشعرية بأكملها. يقول رامبو في قصيدة مشهورة بعنوان: الأبدية
لقد وجدناها
ماذا؟ - الأبدية
إنها البحر متلألئا تحت الشمس
روحي الخالدة
تراقب أمنيتك
رغم الليلة الوحيدة
والنهار المشتعل
هذه المقطوعة الصغيرة وسعت أرضية الشعر الفرنسي وربما العالمي وخاصة إذا ما قرأناها بلغتها الأصلية لا عن طريق الترجمة. لنلخص الوضع: البحر ساطعا تحت الشمس وأنت مستلق على الشاطئ في لحظة استرخاء تكاد تنسى العالم. أشعة الشمس المنعكسة على ذلك السطح المنبسط تشكل مساحات بيضاء تلتحم فيها السماء بالأرض. فتشعر ولو للحظة وكأنك انصهرت بالأبدية والخلود.
وكذلك الأمر عندما يقول في قصيدة بعنوان: العصر الذهبي
هذه الألف سؤال
التي تتفرع وتتشعب
لا تؤدي في النتيجة
إلا إلى السكر والجنون
ما هي هذه الأسئلة التي تتفرع وتتشعب؟ لا أحد يعرف. وليس المهم أن نعرف في نهاية المطاف. كل ما نعرفه هو أن تبكيت الضمير وتعذيب النفس بالأسئلة والمراجعات، بالندم والحسرات، لا يؤدي في النهاية إلا إلى السكر والجنون. فلندع الأشياء كما هي عليه، ولنعش حياتنا كما هي، أو كما قد تجيء..
ثم هذا المقطع الرائع الذي أخشى أن تخدشه الترجمة:
شبابٌ عاطل
لكل شيء مُستعبد
لياقة
ضيعت حياتي
آه! ليت الأزمنة تجيء
حيث تشتعل القلوب..
ما هي هذه الأزمنة التي تشتعل فيها القلوب؟ هل هي لحظة الفراق أم اللقاء: لقاء الحبيبة لأول مرة، أم لآخر مرة؟ وهل القلوب تشتعل في تلك اللحظة؟ نعم تشتعل وتضطرم فيها النيران.. ولكن متى تجيء هذه الأزمنة الوردية؟ لا أحد يعرف. ذلك أن الحياة الحقيقية غائبة كما يقول آرثر رامبو. بحياتنا كلها لم نعش الحياة التي نريدها. نعشق في مكان ونتزوج في مكان آخر. نسكن باريس ونحلم بلندن. كل شيء بالغلط! كل شيء بالمعكوس! ولكن هل وجدت الحياة الحقيقية يوما ما يا ترى؟ ألم يكن الشعراء في كل عصر وفي كل جيل يشعرون أنهم لم يأتوا في الوقت المناسب؟ إلى المتنبي دُر:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
رامبو، ككل الشعراء الكبار في التاريخ، اصطدم بعصره وزمانه فراح يحلم بحياة أخرى وزمن آخر. ذلك أن الحياة الخيالية دائما أجمل من الواقعية. الواقع شرس، صلب، بارد. الواقع جحيم. رامبو كان يبحث عن أفق وكلما وصل إليه تجلى له أفق آخر. وهكذا دواليك.. فلا الآفاق تنتهي ولا الاكتشافات والاندهاشات.. ذلك أن الرائي يريد اكتشاف العالم كله، أن يقلص مساحة المجهول في هذا العالم. ولكن العالم كبير لا ينتهي يا رامبو، وكذلك الشعر.. عندما توصل رامبو إلى التخوم القصوى، إلى التخوم التي لا تخوم بعدها، توقف عن الكتابة وسكت نهائيا. طالما تساءل الناس عن سبب هذا التوقف المفاجئ وغير المبرر على الإطلاق. ولطالما تحسروا، تمنوا لو أن رامبو أكمل الطريق لبضع سنوات إضافية على الأقل. كم من القصائد العبقرية كنا ربحناها! هل يعقل أن تتوقف عن الكتابة في العشرين؟ الناس لم تبتدئ بعد. لقد قذف بكل ما في أحشائه في ظرف 4 أو 5 سنوات ثم صمت صمت القبور. لطالما ضاع النقاد في النظريات والفرضيات والتخمينات. لطالما ضربوا أخماسا بأسداس. كتبوا عنها المجلدات! ولكن المسألة بسيطة في رأيي: إنه كالظواهر الطبيعية أو كالبركان انفجر دفعة واحدة ثم نضب. ألا تفهمون ذلك؟ هناك تخريجة أخرى: رامبو وصل إلى قمة الشعر.. وماذا تفعل بعد أن تصل إلى القمة؟ إما أن تبقى هناك وإما أن تنحدر. رامبو فضل أن يخرس كليا على أن ينحدر ويكرر نفسه. صمته لا يقل بلاغة عن شعره. صمته بحد ذاته قصيدة شعرية: وأي قصيدة! صمت رامبو لا يزال مدويا حتى اللحظة. إنه يلاحقنا، يعذبنا، يدمرنا.. في حياتنا كلها لم نقم من تلك الضربة!
لقد قتلنا قتلا إذ سكت فجأة دون أي تفسير أو تعليل. على الأقل لو استأذن منا قبل الانصراف، قبل أن يدير ظهره كليا. على الأقل لو قال لنا وداعا. ولكنه قالها! انظروا في ختام ديوانه الشهير «فصل في الجحيم» مقطعا بعنوان «الوداع الأخير» أو «وداعا لا لقاء بعده». وهناك تفسير ثالث يقول وأرجحه شخصيا: رامبو معجزة شعرية، وككل المعجزات يستعصي على التفسير. نقطة على السطر. هل يعقل أن تكتب كل هذه القصائد التي غيرت وجه الحداثة الشعرية العالمية وأنت طفل؟! وربما هناك تفسير رابع يقول: رامبو لم يخن قضية الشعر على عكس ما تتوهم. وذلك لأن حياته ذاتها تحولت إلى شعر، إلى مغامرة جنونية في شتى أصقاع الأرض: من جزر إندونيسيا وغاباتها، إلى قبرص، إلى الحبشة وعدن وحرار، والحبل على الجرار.. رامبو كان أكبر مشاء في التاريخ. هذا شيء ننساه كثيرا.هناك علاقة بين المشي والشعر، أو بين المشي والكتابة بشكل عام. هل كان نيتشه سيصبح فيلسوف كبيرا لولا أنه ضاع على الطرقات والدروب؟ وماذا عن جان جاك روسو؟ رامبو طبق نظرية الرائي عمليا بعد أن عاشها شعريا. نقطة على السطر. في كل يوم كان رامبو يمشي عشرات الكيلومترات عابرا السهول والوديان، معربشا على السفوح والجبال، مقلصا الآفاق. لكن العالم كبير يا رامبو والطريق لا ينتهي. أو قل كلما انتهت منه مساحة ابتدأت مساحات.. آه ما أجمل العالم! آه متى نصل إلى ما نبتغيه؟ متى نفرح قليلا؟ فربما وراء تلك الحواجز الطبيعية والقمم العالية تقبع أمانينا.
هناك شيء ما ينتظرنا في زمن ما، في لحظة ما، في مكان ما، فمتى سنصل إليه؟ متى يصل رامبو إلى ما يبتغيه ويهدأ؟ لماذا يركض رامبو في كل الاتجاهات؟ ماذا يريد رامبو في نهاية المطاف؟
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
بالمناسبة لماذا تتأسفون على رامبو ولا تتأسفون على المتنبي؟ ألا تعلمون أنه قتل في الخمسين؟ أنا حتى الآن لم أقم الحداد عليه. حتى الآن لا تزال في القلب لوعة وحسرة. ماذا لو عاش 10 سنوات إضافية؟ كانت تغيرت خارطة الشعر العربي..
لو كان رامبو يعرف ما هو الشيء الذي يبحث عنه لتوقف وهدأ. ولربما تزوج وأنجب الأطفال وتصالح مع أمه. وساعدها على أعمال الحقول والبيدر والحصاد.. أو لربما وجد وظيفة في مكتب وتحول إلى بورجوازي صغير يعرف كيف يدخر فلوسه ويسلم على الناس في الشارع. لا، رامبو، لا يعرف أي شيء من هذا القبيل. ولهذا السبب فإنه يظل سائرا على الدروب باتجاه نقطة غائمة وأفق غير منظور: تحت قدميه الأرض وفوق رأسه قبة السماء. لنستمع إليه يقول من قصيدة بعنوان أحاسيس:
في أمسيات الصيف الزرقاء، سوف أتغلغل في الدروب الضيقة،
سوف أدعس العشب الغض، وسنابل القمح تخزني:
حالما، سوف أشعر بطراوتها على قدمي،
وسوف أترك الريح تبلل شعري العاري
***
لن أنبس بكلمة، لن أفكر بأي شيء:
لكن الحب اللانهائي سوف يصعد في أعماقي،
وسوف أذهب بعيدا، بعيدا جدا، كبوهيمي،
منخرطا في أحضان الطبيعة - كما لو أني مع امرأة
هذه القصيدة من أوائل ما كتبه رامبو. من هنا براءتها المطلقة. ولا يفهمها إلا أبناء الريف الذين ترعرعوا في البراري والحقول، وعاشروا التخوم. ولذلك أنصح أبناء المدن بعدم قراءتها. كل من لا يحب الريف، كل من لم ينصهر بعناصر الطبيعة في الصباحات الزرقاء، أو الأمسيات البيضاء، لا يمكنه أن يفهم قصائد رامبو الأولى. كل من لم يضع في السهوب اللانهائية، كل من لم يعشق امرأة «بدوية» فيما وراء السفوح والمهاوي السحيقة لا علاقة له برامبو. ويا جبل اللّي بعيد خلفك حبايبنا..



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.