اللجوء السوري بعيون عمار عبد ربه

«كرامة: يداً بيد من أجل بناء المستقبل» معرض يصنع الأمل

معرض «كرامة: يداً بيد من أجل إعادة بناء المستقبل»
معرض «كرامة: يداً بيد من أجل إعادة بناء المستقبل»
TT

اللجوء السوري بعيون عمار عبد ربه

معرض «كرامة: يداً بيد من أجل إعادة بناء المستقبل»
معرض «كرامة: يداً بيد من أجل إعادة بناء المستقبل»

عديدة هي الأعمال والمعارض الفنية التي عنيت بالنازحين وآلامهم، وصورت معاناتهم. هذه المرة قررت «الوكالة الفرنسية للتنمية»، أن تحيي الأبطال المجهولين الذين يعملون من أجل تحسين ظروف عيش أكثر من 5.6 مليون لاجئ سوري في تركيا ولبنان والأردن والعراق. هؤلاء ينتمون إلى جمعيات ومؤسسات محلية، هدفها تخفيف الأعباء، وتسهيل سبل العيش.
ذهب المصور الصحافي الفرنسي، السوري الأصل، عمار عبد ربه، للقاء الناشطين في الميدان، استمع على شهاداتهم، عايشهم، تعرف إلى معاناتهم، ليخرج بـ12 صورة لهم هي نتاج هذا البحث والتسفار، وإلى جانبها التقط صوراً لمحيطهم، لما يدور حولهم، كمكمل للمشهد. أرفقت الصور بنصوص لعبد ربه هي خلاصة ما جمعه من شهادات ومشاهدات، قدمت جميعها في معرض يحمل اسم «كرامة: يداً بيد من أجل إعادة بناء المستقبل». المعرض الذي كان يفترض أن يبصر النور في باريس، ويتنقل في الدول المضيفة للاجئين، متاح حالياً افتراضياً، إلى حين انقشاع الغمة.
يقول عبد ربه الذي جال على العاملين في الهيئات المدنية والمخيمات، باحثاً عن القصة الأكثر تأثيراً واللقطة الفوتوغرافية الأبلغ، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، «ما يفعله هؤلاء العاملون، يكاد يكون نقطة في بحر الاحتياجات الكبرى للاجئين والمحتاجين في هذه البلدان، ولذلك فإن تفانيهم وإصرارهم وصبرهم ومثابرتهم من دون يأس، تبعث على الإعجاب».
قصص عديدة تختبئ وراء الصور، من بينها دينا التي التقاها عبد ربه في «مستشفى رفيق الحريري» في بيروت، وصورها مع رئيس قسم الطوارئ حسين قطايا، في المستشفى الأشهر الذي يستقبل مرضى «كورونا» في لبنان. دينا، لدهشة عبد ربه اختصاصها التمديدات والأنابيب الطبية التي تمر عبر الجدران، وصولاً إلى أسرة المرضى. مهنة لم يكن يعرف أنها موجودة أصلاً، فإذا من تقوم بها امرأة، وجدت نفسها رغماً عنها مع الجيش الأبيض في الصف الأول وفي مواجهة وباء «كورونا»، لتقوم بمهمتها بكل صدر رحب.
الصور مصحوبة بقصص أصحابها. «أردناهم ثنائيات. قصة لشخصين قررا أن يخوضا هذا العمل الشاق. بعضهم كانت حياته هانئة رغدة، وله عمله الذي تركه وراءه، كي يعنى بمن هم أضعف وأكثر حاجة، وهذا يكتب لهم».
هناك ماريا التي صورها عبد ربه مع فرانك، وهي معلمة جاءت من حلب إلى لبنان منذ سبع سنوات، أمضت 4 منها في منظمة «إنسان». إلى جانبها في الصورة نرى فرانك جولي، المولود في فرنسا ويعيش في لبنان منذ أكثر من 5 سنوات. وهو يدير مهام منظمة «أرض الإنسان» في لبنان. تعمل المنظمتان معاً من أجل تعليم أطفال اللاجئين في البقاع، لكن المهمة صعبة. يروي الاثنان أن ثمانين تلميذاً يتلقون تعليمهم، بدوام لا يزيد على ساعتين في اليوم. هذا قليل لكنه أفضل من لا شيء. ماريا التي تقضي وقتاً طويلاً في المخيم، اضطرت لاصطحاب أولادها في أيام العطل، ليقدروا سبب غيابها الطويل عنهم.
اختار عبد ربه أن يلقي الضوء على شخصين فقط في كل صورة، ويرفقها بقصتهما معاً، من خلال نص مؤثر كتبه بنفح إنساني ولغة بسيطة وسلسلة، تشبه الحكايات التي ينقلها. يقول: «صحيح أن هناك جيوشاً من العاملين في مجال مساعدة اللاجئين، لكننا آثرنا اختيار هذه النماذج الإنسانية القليلة والمؤثرة».
أجمل من الصور الرئيسية الـ12 هي تلك التي التقطها الفنان، على هامشها، فهي تتمتع بقوة تعبيرية عالية، وكأن عبد ربه من خلالها ينعتق من إطار ضيق، ليحلق على هواه، في أجواء وبيئات، وأماكن عمل الأشخاص الذين يصورهم.
12 قصة إذن في 12 صورة، تشكل هذا المعرض، جميعها تتحدث عن تجارب ثنائية ما عدا تلك الصورة التي التقطت في طرابلس، شمال لبنان، حيث يروي لنا عبد ربه هذه المرة حكاية ثلاثة أشخاص هم سارة وجيلبيرت وأحمد، الذين يعملون على مشروع بين جبل محسن وباب التبانة، المنطقتين الأكثر فقراً في طرابلس، وعانتا من سلسلة معارك عسكرية مدمرة. الثلاثة يعملون على مشروع «وتد» الذي أطلقته منظمة «رواد التنمية»، بدأ بمركز مساعدة يقدم منحاً دراسية للشباب من كلا الجانبَين، على أن يخصص كل مستفيد من المنح في المقابل 4 ساعات أسبوعياً للمنظمة. تم تقديم 274 منحة، وهذا شكل رأسمالاً قدره مئات الساعات يؤمنها الطلاب والمتخرجون. لكن المهمات تناسلت والمشروع تفرع، وأبطال الصورة الثلاثة هم نموذج لأشخاص قرروا أن يكونوا دعماً لغيرهم.
ثمة قصص من الأردن، وتركيا، ويغيب العراق الذي لم يتمكن عبد ربه من استكمال مهمته هناك بسبب الأوضاع القائمة.
بعد 10 سنوات على بدء الكارثة السورية، ورحلة الآلام، يأتي هذا المعرض ليكشف عما يحدث على الأرض من زاوية جديدة، من خلال قصص إنسانية تقرن الكلمة بالصورة، ولا تفصل بين اللاجئين ومستضيفيهم، أو مشكلاتهم وقصص من يعتنون بهم. إنه المعرض الذي يحاول أن يكمل مشهداً بقي باستمرار مجتزأ.
الصور الملتقطة هي لعاملين محليين في مشاريع مدعومة من قبل صندوق «Minka» للسلام وتعزيز الصمود، الذي تأسس عام 2017. وتقوم الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) بتنفيذ المشاريع التي يمولها صندوق «مينكا» في المناطق المتضررة من الأزمات والصراعات. وخصصت الوكالة الفرنسية للتنمية أكثر من 200 مليون يورو من صندوق «مينكا» لتمويل ما يقارب 30 مشروعاً نفذتها الجمعيات والمؤسسات المدنية في الشرق الأوسط.
* المعرض على الرابط التالي:
https://expo - minka - moyen - orient.afd.fr/accueil?lang=AR



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)