يسعى المخرج والناقد السينمائي هاشم النحاس في كتابه «اللغة السينمائية - مبادئ أولية في النظرية والتطبيق» الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، إلى تقديم قراءته الخاصة لأسرار الفيلم السينمائي، وتفكيك عناصره بشكل مبسط يخاطب القارئ العادي.
في بداية الكتاب، يشير النحاس إلى مفهوم الصورة، ويرى أنها رغم تمتعها في الفيلم السينمائي بمظاهر كثيرة للواقع، في مقدمتها الحركة والصوت، فإنها في النهاية تبقى صورة خيالية مسطحة ذات بُعدَين، وإن أوهمتنا بالعمق، وتتحدد داخل إطار رباعي يفتقد الملامح الحسية، كاللمس والشم والتذوق والإحساس بالجاذبية الأرضية، كما أن حركة الكاميرا لا تماثل حركة العين على الإطلاق، على عكس ما يتصور البعض، لكن هذه العوامل التي تعزل الصورة السينمائية عن الواقع، وتمثل في نظر البعض قصوراً في قدراتها التكنولوجية، تتحول في يد الفنان المبدع إلى إمكانية تعبيرية هائلة، وتسهم في خلق ما يُعرَف بفن الفيلم، حيث إن هذه العوامل نفسها «هي ما تجعل من الفن السينمائي فنّاً».
ويذكر النحاس أنه رغم الإحساس الوهمي بالعمق في الصورة السينمائية، لأنها تختزل العمق في بعدين فقط، فإن الفنان السينمائي يحول هذا القصور في عدم تطابق الصورة مع الواقع إلى إمكانات تعبيرية فنية، ويضرب مثلاً على ذلك بـ«راقص التنورة»: «لو صورناه بلقطة رأسية من أعلى ستبدو التنورة في انتشارها دائرياً وانكماشها من جديد كما لو كانت وردة تتفتح وتغلق، كما أن القطار الذي يقبل ناحية الكاميرا تتضاعف قوته الحركية بتزايد حجمه على الشاشة، كلما اقترب من الكاميرا أكثر حتى يملأ الشاشة كلها. وفي فيلم (جان دارك)، حين أراد مخرجه، كارل دراير أن يعبر عن فزع الراهب من المحاكمة صوَّر وجهه في لقطة قريبة، وجعله ينهض أمام الكاميرا، مما ضاعف حجم الوجه، وأضاف لحركته حركة وهمية نتيجة اختلاف الأحجام، وذلك لتأكيد حسه المفاجئ بالرعب».
الكادر والحركة
ويوضح الكتاب أن اللقطة السينمائية تنقسم إلى «لقطة عامة»، وهي التي تحتوي كل الموضوع، أي كل الجسم المراد تصويره، مثل لقطة لشخصية تشمل جسمها من الرأس للقدم. وهناك «اللقطة القريبة» التي تصور الوجه أو القدم فقط، أما اللقطة المتوسطة، فتشمل الرأس والصدر على سبيل المثال.
ومن الاستخدامات الفنية للقطة العامة التعريف بالمكان، مثل محطة قطار أو شارع أو مبنى بكل ما فيه.
وقد يكون الغرض منها التشويق، حيث يمكن تصوير لقطة عامة لمكان يجري فيه حدث في العمق، ويكون الحدث غير واضح تماماً، مما يثير فضول المشاهد.
أما اللقطة القريبة فقد تحتوي على توظيف لرمز مثل التركيز على منظر العقرب في فيلم «البريء» لعاطف الطيب، لحظة وصول البطل (أحمد زكي) للسجن، حيث يشير العقرب هنا إلى مكان موحش ومصير ينذر بالخطر، كما أن أفراد التعذيب هم شكل من أشكال العقارب، كما سنرى لاحقاً، وسيسعى البطل لسحقهم، كما سحق العقرب. ويضفي التعبير الرمزي على الموضوع المصور معنى مجرداً نستخلصه بالذهن، مثل تصوير متهم أمام المحقق، بحيث لا يظهر وجهه، ويظل المتهم طوال اللقطة بظهره الذي وُضع عليه الرقم الخاص به في السجن، مما يحوّل شخصية السجين هنا إلى مجرد رقم، ومن ثم تعبر اللقطة عن فقدان الشخصية لطبيعتها الإنسانية.
ويلفت المؤلف إلى أنه كثيراً ما تعبر حركة الكاميرا عن وجهة نظر الشخصية مثل «الكادرات» المائلة في فيلم «بداية ونهاية»، إخراج صلاح أبو سيف، حين تدخل الفتاة الصغيرة الخجلى (سناء جميل) بيت الفتى صلاح منصور للمرة الأولى، فيعبر ميل الزاوية عن اضطرابها وتوترها وخوفها وارتباكها كفتاة بلا تجربة مقدمة على فعل مرفوض اجتماعياً وأخلاقياً.
وتنقسم حركة الكاميرا إلى حركة استعراضية بانورامية وحركة محمولة وأخرى بالرافعة (الكرين)، حيث يُعدّ وصف المكان من أهم وظائف تلك الحركة، أي التعرف على المكان حيث إنه من المستحيل تحقيق ذلك بلقطة قريبة حتى اللقطة العامة، رغم قدرتها على وصف المكان بحكم اتساع الإطار فيها فإنها تظل محدودة، ولا بد هنا من التعامل مع الكاميرا بشكل بانورامي استعراضي.
المونتاج والتوليف
وبحسب الكتاب، فإن التناقض بين الحدث الطبيعي وإمكانية تصويره على الشاشة حقيقة مؤكدة، فآلات التصوير لا تستطيع نقل الحدث بنفس عفويته، كما يحدث في الواقع، من هنا يأتي دور المونتاج كوسيط تعبيري لا يفرضه قصور الإمكانات الآلية فقط، وإنما تفرضه الحاجة الفنية والتقنية كذلك.
ويضرب مثالاً لذلك بما حدث مع المخرج الفرنسي جورج ميليس؛ إذ توقفت الكاميرا صدفة أثناء التصوير بسبب عطل فني داخلها عندما كان «يصور في الشارع إحدى عربات نقل الموتى، وعندما عادت الكاميرا للدوران وجد أن العربة اختفت وحل محلها في مجال الرؤية عربة فارهة للنزهة. وكانت النتيجة على الشاشة مفاجأة مضحكة بالطبع! هذه المفاجأة أول ما نبه الأذهان إلى إمكانية إيقاف الكاميرا، أو استخدام القطع قبل نهاية الحدث وإدخال حدث آخر مختلف في الزمان والمكان والأشخاص والمحتوى، ثم يتم التوليف بينها لتقديم فكرة تؤكد الأثر الفني المطلوب، وهكذا ظهر ما يُعرَف بـ(المونتاج)».
ويؤكد النحاس: «كان هذا الاكتشاف كما كانت السينما ككل مجرد لعبة يقدمها جورج ميليس ضمن ما يقدمه من ألعاب سحرية أمام جمهور المسرح، لكنه ما لبث أن تحول بعد ذلك إلى علم وفن له أصوله وقواعده، حتى إن بعض أساتذة فن السينما، وعلى رأسهم آيزنشتين يذهبون إلى أن فن السينما ما هو إلا فن المونتاج والتوليف.
ويعلن بودفكين أن كل ما تم تصويره يظل جسداً ميتاً، حتى لو كان يتحرك أمام الكاميرا؛ إذا لم يصبح على الشاشة بفضل المونتاج موضوعاً سينمائياً في جوهره وليس مجرد موضوع فوتوغرافي ثابت. وإذا كان هيتشكوك قد حاول الاستغناء عن المونتاج نهائياً في فيلم «الحبل»، فإنه من ناحية أخرى كان مقيداً بحدود مساحة «البوبينة» الواحدة في الشريط السينمائي، التي لا يمكن أن تحتمل أكثر من عشر دقائق متواصلة من التصوير بحد أقصى.
وقد اضطره ذلك إلى البحث عن حيلة يخفي بها النقلات في كل مرة من بوبينة إلى أخرى ليحافظ على وهم الاتصال للحدث، وفي الحقيقة فإنه اضطر أن ينفذ مونتاجه بحركة الكاميرا أثناء التصوير، فيقترب من الموضوع أو يبتعد عنه أو ينقل الكاميرا من موضوع لآخر، من ثم فهو لم يتخلص من فكرة المونتاج نهائياً، وإنما تحايل عليها ونفذها بأشكال أخرى.
فالمونتاج يضبط الإيقاع عبر تتابع اللقطات، طبقاً لعلاقاتها من ناحية الإحساس بطول اللقطة ومضمونها الدرامي، فضلاً عن خلق فكرة معينة أو معنى محدد ينتج عن توالي لقطتين أو أكثر، مثل وجود لقطة للافتة في مدخل مدينة تشير إلى أنها مدينة الحضارة، بينما في لقطة أخرى نجد أكواماً متراكمة من القمامة.
اللغة السينمائية... النظرية والتطبيق
هاشم النحاس يكشف أسرارها للقارئ غير المتخصص
اللغة السينمائية... النظرية والتطبيق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة