«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

محمد عبد السلام يقدم شهادة على ميلاد الوثيقة

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»
TT

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

عبر مقاربة لافتة توازن بين الخاص الشخصي والعام المشترك، يقدم الأمين العام لـ«لجنة الأخوة الإنسانية»، القاضي محمد عبد السلام، شهادته على ميلادها، التي وقّعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، في فبراير (شباط) 2019 في أبوظبي، وتأسست بموجبها لجنة تحمل الاسم نفسه لتعميق أهدافها وتحقيقها، والعمل على استدامة العلاقات والتعاون بين المؤسستين الدينيتين البارزتين.
ومن خلال كتاب أصدره عبد السلام حديثاً بعنوان «الإمام والبابا والطريق الصعب... شهادة على ميلاد وثيقة الأخوة الإنسانية»، يقع في 240 صفحة، وقدّم له البابا وشيخ الأزهر، يعرض المؤلف التفاصيل الفكرية والفنية البروتوكولية التي سبقت إعداد الوثيقة، وما أحاط بها من عقبات، وكيف نشأت فكرتها وتطورت، كما يكشف بحكم موقعه القريب عن كواليس القمم الدينية المهمة التي جمعت بين الطيب وفرنسيس في مواقع مختلفة حول العالم.
لا يعتبر المؤلف أن «وثيقة الأخوة الإنسانية» سياقاً منفصلاً عن مجمل تحركات «الأزهر»، بل إنه يؤصل ويوثق للمبادرات المحلية التي أقامتها المؤسسة، ومنها «بيت العائلة المصرية» والتي استهدفت «توحيد الموقف بين الأزهر والكنائس المصرية»، ومعتبراً أنه تم استكمال ذلك الاتجاه عبر تعزيز علاقة المشيخة بالمؤسسات الدينية الكبرى في الغرب، فضلاً عن المشاركة في «مبادرة الحوار الحضاري والإنساني بين الشرق والغرب» عبر التواصل مع كنيسة كانتربري في لندن، وفي فعالية استضافتها مدينة أبوظبي أيضاً عام 2016.
وفي تطرقه لاستئناف العلاقة بين الأزهر والفاتيكان بعد فترة قطيعة، يحكي المؤلف شهادته على مبادرة أسرَّ بها الشيخ الطيب لعبد السلام في عام 2015 وتتثمل في أنه – أي شيخ الأزهر - ينوي زيارة الفاتيكان، مكلفاً مستشاره حينها «المسؤولية الكاملة لترتيب الزيارة».
وتمضي صفحات الكتاب عارضة شهادة المؤلف الذي راقب عن قرب كيفية إقناع الطيب لبعض المعترضين في هيئة «كبار العلماء» (أكبر مرجعية علمية للأزهر) على الزيارة، وإدارة المناقشات، وكذلك الصعوبات البروتوكولية التي واجهت الأمر وطبيعة إرسال الدعوة وتلقيها، إلى أن يصل الكاتب إلى تحقيق المقابلة الشهيرة في عام 2016، وما أعقبها من «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام» في القاهرة بحضور البابا، وذلك في عام 2017.

- موقف طريف
من بين المواقف التي يرويها المؤلف، طرفة حدثت في القاهرة خلال زيارة البابا لشيخ الأزهر بمقر المشيخة (عام 2017) قبيل انطلاق «مؤتمر الأزهر للسلام»، ويقول المؤلف، إن «التنظيم كان يقتضي أن يتحرك الشيخ إلى مقر المؤتمر الذي يعقد في أحد فنادق القاهرة، فاستأذن الطيب بالفعل البابا ليسبقه؛ وبهدف أن يكون في استقباله لدى وصوله لمقر المؤتمر، وفق البروتوكول»، وتحرك البابا بعد مغادرة الشيخ بدقائق، غير أن قائد حراسة موكب شيخ الأزهر اختار طريقاً قدّر أنه سيكون مختصراً، لكن الشيخ وصل مقر الفعالية ليفاجئ بوجود البابا في انتظاره «وهو يضحك بشدة»، وقال مخاطباً الطيب «لقد سبقتك يا صديقي، وها أنا أستقبلك في مقر المؤتمر»، فما كان من الطيب إلا أن رد ضاحكاً وقال «هذا دليل على أنك لست ضيفاً، بل صاحب البيت».

- تفاصيل الوثيقة
وبسبب تركيزه خصيصاً على وثيقة «الأخوة الإنسانية»، فإن المؤلف تعمّق في سرد وقائع وتفاصيل وترتيبات الإعداد لها، وعدّد أسباب اختيار الرمزين الدينيين لدولة الإمارات لإعلان الوثيقة، منوهاً بالدور التاريخي الكبير لرعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للوثيقة ودعمه تفعيل بنودها ونشر قيمها، وعبر صفحات الكتاب شرح المؤلف بشكل دقيق كيف وضع شيخ الأزهر صياغة أولى للوثيقة، والتعديلات التي أدخلها بابا الفاتيكان، فضلاً عن آلية التنسيق بدايةً من اختيار الموعد المناسب لتوقيع الوثيقة، وحتى الاتفاق على نوعية الخطوط التي كتبت بها.
كما أفرد عبد السلام، صفحات شرح فيها بأسلوب جذاب ومشوق كيفية انتظاره قرار البابا بشأن الوثيقة والموافقة على نصوصها، وفي كل المراحل كان يستطرد بالمقارنات بين سلوكي الإمام والبابا وكيفية تطابقهما تقريباً فيما يتعلق بالاهتمام الإنساني بالعاملين معهم على كل المستويات، فضلاً عن القراءة النهمة واستغلال أوقات التنقل في الذكر والصلاة.
ولم ينسَ المؤلف في توثيقه، تلك المفارقة المؤثرة التي تمثلت في غيابه عن حضور حفل توقيع الوثيقة التي عمل على كل مراحلها ممثلاً الأزهر، وبينما كان التأثر يسيطر عليه فوجئ بإشادة كل من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان به على الهواء أثناء مراسم الحفل.
والوثيقة التي هي محور الكتاب أثارت اهتماماً على المستويين الديني والدولي، وتضمنت تأكيدات على المشتركات الإيمانية والإنسانية، بل إن نصها تضمن استهلالاً بالإشارة إلى «الله الذي خلق البشر جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام». كما أنها تدحض العنف وتنطلق «باسم النفس البشرية الطاهرة التي حرّم الله إزهاقها، وأخبر أنه من جنى على نفس واحدة فكأنه جنى على البشرية جمعاء، ومن أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً».
وفي صُلبها أيضاً التزام وتنبيه إلى «الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين الذين أمر الله بالإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم، فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور».
وعن كيفية التوصل إلى ذلك التوافق بشأن صياغة الوثيقة، يروى المؤلف أن الإمام الطيب «بدأ في صياغة المسودة الأولى وقد استغرقت منه شهراً كاملاً، وبمعدل ثماني ساعات يومياً (....)»، وبعد انتهاء الشيخ من صياغتها طلب من مستشاره تولي إجراءات عرضها على البابا «وشدد على ألا أخبره أن الإمام هو من صاغها حتى لا يجد في نفسه حرجاً في الاستدراك والتعديل عليها».
وبشأن المرحلة اللاحقة والتي أعقبت عرضها على البابا فرنسيس، يقول عبد السلام: «أخبرني الأب يوأنس (سكرتير البابا) أنه عرض مسودة (الوثيقة) على حضرة البابا، وأنه بدأ يكتب أفكاره ومقترحاته عليها»، ويضيف أنه عندما ذهب لشيخ الأزهر بالمسودة في صورتها بعد تعديلات البابا، قال له الطيب «أكاد أجزم أننا لن نختلف، وإذا كان هناك تعقيبات فلا بد من مراجعة المترجم أولاً لأنني أثق في التوافق الفكري بيني وبينه فكلانا ينشد الخير والسلام (...)، وعندما فتح الإمام (المسود الثانية) واطلع على ما فيها تبين لنا صدق ما توقع الإمام؛ إذ لم يعدل الباب على المتن المقترح من الإمام، وإنما أضاف أفكاراً ومقترحات اكتملت بها (الوثيقة) ولاقت هذه المقترحات استحساناً كبيراً من الإمام».

- تعليقات وتفاعلات
اعتماداً على موضوعه المهم والحي، فإن القاضي محمد عبد السلام، تمكن من حشد تعليقات وتفاعلات قيّمة ومعتبرة مع ما كتب، وكانت البداية تقديم شيخ الأزهر للكتاب ووصفه بأنه «مهم جامع لمراحل صناعة الوثيقة»، وأنه جاء عبر «أسلوب حديث منمق وبرواية صادقة للوقائع والأحداث، بعيدة عن المجازفات الفكرية والتعصب والجمود»، وكذلك جاء في السياق نفسه قول البابا فرنسيس، إن «الكتاب يرصد اللحظات المهمة لمرحلة توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية».
وربما بدا منطقياً أن يقدم الرجلان للكتاب باعتبارهما بطلي موضوعه واتصالهما بمعالجته، غير أن المؤلف حشد في صفحاته بذكاء تعليقات من شخصيات بارزة، قدمت كلمات تضمنت تفاعلاً واحتفاءً بموضوعه، ومن هؤلاء الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية ورئيس لجنة الخمسين لكتابة الدستور المصري، عمرو موسى، والممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ميغيل موراتينوس، ورئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة، وكذلك المستشار السابق للرئيس المصري للشؤون الاستراتيجية الدكتور، مصطفى حجازي، فضلاً عن أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيد، وشخصيات دولية وعربية أخرى.


مقالات ذات صلة

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج يوضح المعرض أهمية الفنون في مصاحبة كتابة المصاحف ونَسْخها عبر العصور (مكتبة الملك عبد العزيز)

معرض في الرياض لنوادر المصاحف المذهّبة

افتُتح، في الرياض، أول من أمس، معرض المصاحف الشريفة المذهَّبة والمزخرفة، الذي تقيمه مكتبةُ الملك عبد العزيز العامة بفرعها في «مركز المؤسس التاريخي» بالرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
آسيا في هذه الصورة التي التُقطت في 6 فبراير 2024 رجل يدلّ على ضريح الصوفي الحاج روزبيه المهدم في نيودلهي (أ.ف.ب)

هدم ضريح ولي صوفي في إطار برنامج «للتنمية» في دلهي

في أوائل فبراير (شباط)، صار ضريح صوفي أحدث ضحايا «برنامج الهدم» الذي تنفذه هيئة تنمية دلهي لإزالة «المباني الدينية غير القانونية» في الهند.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
يوميات الشرق مصلون يشاركون في جلسة للياقة البدنية بعد الصلاة في مسجد منطقة باغجلار في إسطنبول في 8 فبراير 2024 (أ.ف.ب)

حصص رياضة داخل مساجد تركية تساعد المصلين على تحسين لياقتهم

يشارك مصلّون في حصة تدريبات رياضية في مساجد بمدينة إسطنبول التركية بعد انتهاء صلاة العصر، ويوجد معهم مدرّب لياقة بدنية.

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

شللي
شللي
TT

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

شللي
شللي

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر. من الصعب نسيانُ فرسان الرومانتيكية: شيللي وشيللر وكولردج وكيتس ووردزورث. تراجعت مفاعيل الرومانتيكية كثيراً في عصرنا بفعل مؤثرات العقلنة العلمية وسطوة الثورات التقنية المتوالية التي تتطلب عقلاً منضبطاً يتحرك بخوارزميات صارمة. بالنسبة لي صارت المرات القليلة التي تُعرَضُ لي فيها مفردةُ «الرومانتيكية» أو مشتقاتها اللغوية تذكّرني بكِتاب «رومنطيقيو المشرق العربي» لحازم صاغية الذي اختار مفردة «رومنطيقيو» بدلاً من «رومانتيكيو» في عنوان كتابه. المثيرُ أنّ أغلب أساطين الرومانتيكية العربية على صعيد السياسة والأدب نشأوا في حاضنة «الجامعة الأميركية في بيروت»، ونعلم جميعاً أنّ الفلسفة المعتمدة في الحياة الأميركية هي البراغماتية التي طوّرها وأنضجها ويليام جيمس، وهي أبعد ما تكون عن الرومانتيكية ومفاعيلها المتشعبة على الصعيدين الفردي والجمعي.

تتجوهر المعضلة الرومانتيكية (التي قادت بعض كبار الرومانتيكيين إلى الانتحار) في تغليب الخاص على العام. لكلٍّ منّا منخفضاته السيكولوجية وتحليقاته المتوهّجة. أحد الموضوعات الإشكالية هو تشخيص ومعرفة مناطق الاشتباك بين الخاص والعام: هل ما نعانيه نتاجُ توعّكاتنا الشخصية أم هو ردّة فعل لما يحصل في العالم، ولو حصل الاشتباك بين الخاص والعام (وهو حاصل بالتأكيد حدّ الصراع القاسي المفضي لنتائج مؤلمة) فكم هو حجمُ منطقة الاشتباك؟ هذه التشخيصات ليست يسيرة، وقد يحصل أن يتداخل الخاص والعام بطريقة مؤذية، وربما نكون نحنُ أحد الأطراف الساعية للنفخ في هذا الاشتباك على طريقة رومانتيكيي القرن التاسع عشر الذين تلذّذوا بمعاناتهم كلّما رأوها تتضخّم ككرة نار جهنّمية. ما أتمنّاه أولاً وقبل كل شيء أن لا يغرق أي شخص ذي ضمير حي في لجّة منطقة الاشتباك بين العام والخاص، وسواء حصل هذا الغرق بطريقة قصدية أو مُتوهّمة. لا يمكن فصل الأوهام عن كثير من ألوان معاناتنا النفسية لأنّ سلوكنا اليومي ليس سوى تمثّل ذهني شديد الخصوصية لما نراه في العالم وعن العالم، وهذه الرؤية مطبوعة ببصماتنا الذهنية والنفسية المتفرّدة كفرادة بصمات أصابعنا.

الحياة عملٌ شاق. ليست هذه العبارة محض عنوان يصلح لكتاب - مثل كتاب البروفسورة كيران سيتيا (Kieran Setiya) المنشور عام 2022 - بل هي قناعة تعززها الخبرة اليومية المتواترة. العالم مكان شديد الخطورة للعيش فيه والتعامل معه. هذه ليست تخريجة رومانتيكية أنتجتها حسّاسية أخلاقية مترفّعة. في العادة أتساءل، وكنوعٍ من التجارب الفكرية المثيرة: لو أنّ إنساناً رفيع الأخلاقيات، معروفاً بصرامة اعتباراته السلوكية، تركناه يتعامل مع البشر لساعة من الزمن - ليس أكثر- هل سيعود بعد هذه التجربة بالمواصفات الرفيعة التي كان عليها؟ لا أظنُّ ذلك.

الحياة عمل شاق، والعالمُ مكان يطفحُ بالسيئين أكثر بكثير من نظائرهم المخالفين لهم في الصفات. هذا ليس اكتشافاً جديداً، إنّه حقيقة أزلية. قد تدفعنا هذه الحقيقة إلى الخراب النفسي والظلام العقلي والشعور بالخواء المطبق؛ لكنّ أحد الامتيازات الكبرى التي تُحسَبُ لنا هي معرفتنا بهذه الحقيقة؛ ومع هذا نبقى محافظين على مخزوننا الاستراتيجي من الطاقة الروحية النشيطة والفاعلة والمؤثرة.

كيتس

ليس من المروءة أو الإنصاف تحميلُ أنفسنا عبء المعضلة الأخلاقية في هذا العالم. من الواجب أن نعرف أفاعيل الشر في العالم؛ لكن من السذاجة - فضلاً عن عدم الجدوى - أن نتعامل مع هذه الأفاعيل بالطريقة الرومانتيكية المعهودة التي قرأنا عنها. يجب وضعُ حدود صارمة قدر الاستطاعة بين الخاص والعام. المعضلات العالمية أو حتى الإقليمية ليست حكاية حب على شاكلة روميو وجولييت. ما هو ألعنُ من العبء الأخلاقي هو التصارع بين العقل - الضمير: هذه الثنائية التصارعية لا تقلّ شأناً في مترتباتها الأخلاقية والفلسفية عن معضلة الثنائية الديكارتية العقل - الجسد التي ظلّت أحد الأعمدة الجوهرية في المقاربات الفلسفية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم. لماذا نحمّلُ أنفسنا هذا العبء الأخلاقي باهض التكاليف؟ لا أقول هذا من باب تسكين الروح القلقة المحمّلة بالنزوع الإنساني الفائق؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا أنّ خسارة أرواحنا لن تضيف شيئاً ولن تصنع فارقاً سوى زيادة مناسيب القباحة في هذا العالم، وليس هذا بالأمر المقبول في سياق المحاججة المنطقية الباردة أو في سياق مواجهة الشر وما تستلزمه من تفكّر وتسبيب للنتائج المتوقّعة. التعامل برومانتيكية فائضة في موضوعات ساخنة عالمية النطاق من حيث المؤثرات والنتائج مَهْلَكَةٌ مؤكدة. ربما سمعنا بمتلازمة القلب الكسير (Broken Heart Syndrome). الحَزَنُ الشديد والمفاجئ قد يدمّرُ قلب المرء ويورده موارد الموت المحتّم. هذا ما حصل لرومانتيكيي القرن التاسع عشر، وهو ما يمكن أن يحصل لأي فرد منّا عندما لا تتوازن الجرعة البراغماتية المطلوبة لديه في التعامل السلوكي اليومي مع حجم ردة الفعل الأخلاقية.

حتى لا أبقى في نطاق الأعالي التنظيرية سأتناول مثالاً مؤثراً على كامل مساحة العالم ولكل البشر بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان والجغرافية المحلية: الأغذية المعدّلة وراثياً (Genetically Modified Crops). لماذا لجأ العالمُ لهذه التقنية الثورية في زيادة غلّة المحاصيل والحفاظ عليها من التلف؟ لكي يستطيع إطعام المليارات المتزايدة من البشر، ولولا هذه التقنية لحلّت بالبشرية مجاعة كارثية رهيبة. صحيحٌ أنّ مذاقات الأطعمة لم تعد مثلما كانت. صارت الطماطم والقرنبيط وسواهما من الفواكه والخضراوات أشكالاً هندسية بديعة لكنها تفتقدُ إلى المذاق الأصيل للثمار غير المعاملة وراثياً. هذا جزء من التضحية التي يجب أن نقبل بها حتى لا يجوع مليارات البشر في العالم. إنها موازنة براغماتية دقيقة بين اللذة الشخصية والمصلحة الجمعية. لا تخلو كل فعالية عالمية النطاق من تحقيق مصالح لبعض الأطراف (شركات، حكومات، أفراداً أثرياء...)؛ لكنّ الحقيقة البيّنة أنّ الأغذية المعدلة وراثياً أنقذت البشر من مجاعة مهلكة. من الأفضل دوماً أن نؤكّد الحقيقة المركزية ولا نتغافل عنها بالتركيز على موضوعات جانبية سلبية مقترنة بكلّ فعالية بشرية. هكذا هي بعض حقائق الحياة التي نعيش. من هذه الموضوعات السلبية - مثلاً - أنّ الأغذية المعدّلة وراثياً قد تتسبب ببعض العلل وأنواع من السرطانات عقب عشرين سنة من تناولها المفرط. لنفترض صحة هذا الرأي. كم هي نسبة الإصابة؟ يقولون إنها لن تتعدى الواحد بالألف. أتساءل: لو امتلكتَ مصباح علي بابا السحري وعرفتَ أنّ «فلاناً» من البشر سيصابُ بالسرطان بعد عشرين سنة، ولو خيّرتَه بين السرطان أو الموت جوعاً، أيهما تظنُّ سيختار؟ أظنّ أنّ موتاً بعد عشرين سنة بمعدة ممتلئة أفضل من موت آني بشع بمعدة جائعة. برغم هذا ثمة فائض من الرفاهية ما زلنا نمتلكها، إذ يمكن لمن يريد أن يتبضّع أغذية عضوية بتكاليف تبلغ في العادة أربعة أضعاف تكاليف الأغذية المعدلة وراثياً. هل بعد كلّ هذه الرفاهية في الخيارات المتاحة نتحسر على عصر كنّا نأكل فيه طعاماً عضوياً؟ إنها رومانتيكية فائضة من مخلفات العصر الرومانتيكي الذي رأى في الآلة تحطيماً لروح الإنسان، وتناسى أنّ الآلة (التقنيات بمعنى أعمّ) هي التي رفعته في مرتقيات أعلى مقاماً على المستويين المادي والرمزي. يبقى على المرء أن يصمّم مقاربته الشخصية لبلوغ حالة التوازن بين العام والخاص.

الحياة الشخصية منحة مباركة وهِبَةُ ثمينة يجب أن نعيشها ولا نفرّط بها تحت أي شعار إنساني أو آيديولوجي، أو تحت ضغط أثقال نفسية وعقلية رهيبة ناجمة عن التصارع بين متطلبات الفضاء الخاص واشتراطات الحياة في الفضاء العام.

لم أكنْ واعياً بوجود الشر لأنني لم أكنْ أغادرُ المنزل

بورخيس

أتمنّى ألا نكتفي بتحويل منخفضاتنا النفسية - المتوقّعة بين حين وآخر - مرتفعاتٍ تسعى للتخوم البعيدة. ما أتمنّاه هو فضّ اشتباك صارم بين الخاص والعام، وأن تستعيد أرواحنا وعقولنا المنهكة من فرط التفكير غير المنتج ألقها وتوهجها بعيداً عن مؤثرات الإجهاد والإنهاك. لن نكسب شيئاً لو خسرنا أنفسنا. سنخسر حينها أنفسنا ومن نحب وما نحب.

تبدو الرومانتيكية الفائضة خصيصة شخصية تستمدّ مغذياتها من نقص المعرفة والخبرة. عندما يصبح المرء تجسيداً للمثال البورخسي (بمعنى المثال الذي حكى عنه بورخيس) حيث المرء يفضّلُ الانكفاء على معرفته السابقة وخبرته القديمة فحينها تتفجر فيه ينابيع الرومانتيكية التي قد تدفع صاحبها للغرق، ومعها تغرق كلّ أحلامه وتطلعاته. لا أظنّ أنّ من الحكمة غضَّ الطرف عن «الشر الذي في العالم» والانكفاء في منزل لا نبارحه، ويطيب لنا فيه رسمُ صورٍ عن العالم كيفما نشاء.

الحياة ميدانُ تسوياتٍ مستديمة، وما لم ننجح في إدامة تلك التسويات بمزيج متوازن من الرغائب الشخصية والإحساس البراغماتي المتناغم مع معادلات الواقع - أو غير المتصادم معها بعنف في أقلّ تقدير- فسننتهي إلى النهاية المفجعة التي انتهى إليها «رومانتيكيو المشرق العربي» وأجاد حازم صاغية في وصف مآلاتها الحزينة.